شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الخبيزة والبلاغصون والحويش والفطر... أطيب الأكلات الشتوية الخضراء من الساحل السوري

الخبيزة والبلاغصون والحويش والفطر... أطيب الأكلات الشتوية الخضراء من الساحل السوري

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الثلاثاء 7 فبراير 202302:55 م

"لولا القرّة والجرجير كانوا ماتوا ناس كتير" لطالما ردد والداي هذا المثل الشعبي الذي حفظه السوريون منذ "مجاعة السفربرلك"، إذ اضطر الناس حينها إلى العودة إلى أحضان الطبيعة بحثاً عما يسكت جوعهم وجوع صغارهم.
هي نباتات مائية تنمو بالقرب من الينابيع ومصادر المياه الجارية، وكثيراً ما تختلط على الناس لتشابه شكل الأوراق والطعم اللاذع، لكن تظل حكمة الأجداد القائلة بأن "ما تأكله البهائم يصلح ليأكله الناس" هي المرجع الأهم في تحديد الضار من النافع من بين الأعشاب.
بعيداً عن المجاعة والفقر تعتبر هذه النباتات الخضراء من الإضافات الشهية في سوريا، ووجودها دائم في موائد الفقراء والأغنياء، يشجع على وجوده المثل الشعبي الذي يمتدح قدرة الجرجير على تعزيز طاقة الرجل الجنسية "لو عرفت المرأة قيمة الجرجير لزرعته تحت السرير".

"وعرفتك سلّاقة"  

مع بداية كل شتاء وأول الهطولات المطرية، تنتعش الأرض وتستعيد بساطها الأخضر، ويبدأ الناس في مناطق الساحل السوري رحلة البحث عن أعشاب وحشائش لطالما توارثوا تناولها جيلاً بعد جيل فيما يُسمى بـ"أيام التسليق". إحدى الأغنيات الشعبية تتغزل بهذا الطقس، حيث ينشد الفنان عادل خضور "وعرفتك سلّاقة من لوحة السكينة". أي عرفت أنك تقومين بالتسليق من حركة السكينة.
ساهمت الظروف الاقتصادية الحالية في سوريا، والأزمات المعيشية المتلاحقة خلال سنوات الحرب إلى تحويل "التسليق" من طقس احتفالي إلى تموين أساسي، كغذاء لا يضطر الناس إلى دفع ثمنه من جيوبهم.

الفطر "لحم الفقراء" 

يخبر جابر (40 عاماً) الذي يعمل مياوماً في أحد المعامل لرصيف22 أنه يبدأ رحلة البحث عن الفطر منذ ساعات الصباح الباكر في حال كان الطقس ملائماً لظهور الفطر، وهو من المواد الغذائية الغنية بالبروتين الحيوي والتي تعرف شعبياً بـ"لحم الفقراء"، ويشكل بديلاً عن البروتين الحيواني في اللحوم التي أصبحت بسبب أسعارها في متناول فئة قليلة جداً من الناس.

مع بداية كل شتاء وأول الهطولات المطرية، تنتعش الأرض وتستعيد بساطها الأخضر، ويبدأ الناس في مناطق الساحل السوري رحلة البحث عن أعشاب وحشائش لطالما توارثوا تناولها جيلاً بعد جيل

بالنسبة له ولكثيرين، كانت تلك الجولات العائلية التي يتشاركها الكبار والصغار عادة موروثة عن أسرته الريفية، وتجمع قدراً كبيراً من المتعة والتسلية، لكنها اليوم تختلط مع الإكراه المعيشي لتصبح ضرورة ملحة أكثر من كونها نزهة ممتعة.
يرتبط ظهور الفطر مع الهطل المطري المُترافق مع البرد والبرق، حيث ينمو بشكل تلقائي بين الأشواك وتحت أوراق الشجر والصخور؛ يتطلب البحث عنه خبرة ودراية جيدة بأنواعه المتعددة للتمييز بين الصالح للأكل أو السام.

يرتبط ظهور الفطر مع الهطل المطري المُترافق مع البرد والبرق، حيث ينمو بشكل تلقائي بين الأشواك وتحت أوراق الشجر والصخور؛ يتطلب البحث عنه خبرة ودراية للتمييز بين الصالح للأكل أو السام

كما يستغرق جمعه ساعات طويلة فلا يوجد متجمعاً في منطقة واحدة. فالمحظوظ والمجتهد من يستطيع جمع أكثر من أربعة كيلوغرامات. يجري بعد ذلك فرزه ونقعه بالماء ليصبح جاهزاً للطهو، ويستخدم في الحساء، أو المعجنات، أو يقلى مع البصل وزيت الزيتون.  
أبرز أصنافه هي "لحسة العجل البني والأبيض" و"المنزلي الأبيض" وهي من ألذ أنواع الفطر، إضافة إلى نوع "الكلخ" الذي لا يحظى بشعبية الأنواع الأخرى.
أما الأنواع السامة فيمكن تمييزها من خلال لونها الأصفر على الرأس، أو الساق ذات اللون البني الغامق، أو الأنواع الخالية من أي ساق أو جذر.
النوع الصالح للاستهلاك البشري يُعرف بانخفاض سعراته الحرارية، وعدم احتوائه على الدهون وغناه بفيتامينات (ب) و(د)، يراوح سعر الكيلوغرام الواحد بين سبعة آلاف وعشرة آلاف ليرة سورية، أي بين دولار ودولارين. ويتم بيعه على البسطات الشعبية المنتشرة في الأسواق أو بناء على الطلب، وفقاً لجابر.  

البلاغصون أو لسان الثور 

تتميز هذه النبتة التي تنمو على السفوح الجبلية بالقرب من مصادر الأنهار بأوراقها السميكة التي تبرز منها أشواك ناعمة سرعان ما يزول تأثيرها بالطهو الجيد، تُسمى في محافظة إدلب بالـ"شويكي"، حيث يبقى جذرها غائراً عميقاً في التربة، وتُعرف بفؤائدها المتعددة نظراً لغناها بالبروتين والحديد.
تستغل حميدة (34 عاماً) وهي ربّة منزل، الأيام المشمسة في فصل الشتاء لتتجول في الحقول المجاورة لمنزلها وصولاً إلى النهر القريب من قريتها، لجني الـ"بلاغصون" والأعشاب البرية التي تنبتُ بعلاً.
تقول لرصيف22 إن الـ"بلاغصون" هي إحدى الوجبات الشتوية المفضلة لديها ولأسرتها، إذ تقوم بسلقها وطهيها بالزيت والثوم بعد جمعها وغسلها، أو بالبيض والطحين، وإن البعض يفضل الجذور دوناً عن الأوراق التي تعطي للطعم مرارة غير مستحبة.
إضافة إلى تأمين حاجات أسرتها، تلجأ حميدة إلى جمع ما جنته في أكياس أو "قفف" لتبسط بها على أرصفة الأسواق لبيعها، حيث يتهافت عليها الناس نظراً لرخص أسعارها مقارنةً بالخضار الأخرى، ولقيمتها الغذائية العالية، كما تقوم بإيصال هذه النباتات لبعض معارفها وأقربائها، في محاولة منها لإعالة عائلتها وزوجها خلال هذه الأيام العصيبة.

الخبيزة  

تُعرف الخبيزة أو الخباز كنبتة شتوية، أوراقها نصف دائرية، وتنمو بعد هطول الأمطار الخريفية عند منابع المياه الجارية كما هو حال الـ"بلاغصون"، إضافة لفوائدها الغذائية العالية لاحتوائها على المعادن كالحديد، تستخدم في مجالات طبية وعلاجية عديدة أبرزها التعقيم وفقر الدم.

لا يكتمل الشتاء بدون صحن خبيزة مطبوخ مع البصل والزيت البلدي، ولا تكتمل الخبيزة بدون عصرة ليمون أو رشة سماق ورغيف ساخن
تقوم القرويات في مثل هذا الوقت من السنة بالتجول في الحقول حاملات سكاكينهن الحادة، وأكياسهن بحثاً عن الخبيزة اللذيذة، بينما كن سابقاً يحملن القِفاف المقصبة لذات الغرض. ثم يقمن بتنظيفها من الجذور والقش والطين العالق بها وغسلها جيداً قبل أن تصبح جاهزة للطهي. بعد إضافة البصل والزيت البلدي لها، ولا تكتمل لذتها إلا بعصرة ليمون أو رشة سماق بلدي.
أما بالنسبة للـ"قرص عنة" أو "قرص العنا" أو "الشويكي" كما يُطلق عليها في محافظة إدلب، فهي نبتة شبيهة بالخبيزة، لكنها تتمتع برائحة عطرية ويتأخر نموها حتى أوائل الربيع.
هذه النبتة لا تُطبخ بل تستخدم في صنع المقبلات كالسلطة المنزلية بعد فرمها بشكل ناعم وإضافة الملح ثم فركها حتى يتم التخلص من كل مائها، لتضاف إليها البندورة المفرومة والثوم المهروس والليمون الحامض وزيت الزيتون.
يروي أبو محمد (65 عاماً) وهو متقاعد لرصيف22 إحدى القصص المتوارثة في منطقة الساحل عن الـ"قرص عنة"، والتي تتحدث عن قدرة الـ"قرص عنة" كترياق ومضاد للميكروبات، أن رجلاً في أحد الأيام أثاره مشهد لسلحفاة برية كانت تتغذى على أفعى ميتة لكنها كانت تقضم شيئاً من لحم الأفعى وتلحقها بقضمة من نبات القرص عنة، ومن يومها تعلم أهل المنطقة عن طريق غريزة السلحفاة هذه الفائدة الطبية للنبتة.

كباكيب الحويش 

يُعرف "الحويش" من حيث التسمية الشعبية بما يتم جمعه من نباتات متنوعة لها أسماء غريبة لا تخلو من الظرافة كالـ"دردار"، والـ"مقسيطة"، والـ"كليّبة"، والـ"حرتمنة" والـ"سليق بعود"، و"وجه القمر"، و"بيوت صبايا". بعد جنيه وغسله وفرمه ناعماً يسلق على النار حتى تصل المياه إلى درجة الغليان. لتأتي مرحلة عصره حتى يذهب ماؤه تماماً. ثم يُضاف له البرغل ويعاد وضعه على نار هادئة بعد إضافة الزيت البلدي إليه.

أسماء النباتات لا تخلو من الظرافة كالـ"دردار"، والـ"مقسيطة"، والـ"كليّبة"، والـ"حرتمنة" والـ"سليق بعود"، و"وجه القمر"، و"بيوت صبايا"

بعد نضوجه، يُرش فوقه الخبز الناعم المُعد مسبقاً، ويخلط بعضه ببعض. ليتم تكبيبه باليد على شكل أقراص الكبة المعروفة.
تقول أم بلال (60 عاماً) إنها تعلمت إعداد هذه الوجبة من والدتها، مستذكرة بكثير من الحنين جمعة العائلة في بيوت الطين القديمة حول موقدة الحطب، وكيف كانت والدتها تقوم بتوزيع كباكيب الحويش لهم بالدور. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image