في ظل تذبذب كميات هطول الأمطار في الجزائر، عاد الحديث بقوة وسط المهندسين والتقنيين والفلاحين والمختصين عن ضرورة التوجه نحو إعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة.
"بالرغم من أن الأسس الأولى لهذه الخطة الوطنية وضعت قبل سنوات، فإن الوضع الحالي يبقى بعيداً عن الهدف، فهناك محطات مهملة وبعضها أنجزت لكنها لم تدشن"، هكذا استهل المهندس عطوشي سعيد حديثه إلى رصيف22، لافتاً إلى محطة معالجة مياه الصرف الصحي في بلدة بغلية بمحافظة بومرداس شرق الجزائر العاصمة.
ويقول سعيد الذي أنجز مذكرة تخرج حول فوائد مياه التصفية قبل 12 عاماً: "بعض المحطات مهملة بشكل تام حتى من حيث مظهرها الخارجي، وبناؤها مضت عليه عقود دون تجديد، رغم أن لها فوائد كثيرة في تحسين الإنتاج والمردودية، وقد تغنينا عن استخدام الأسمدة وهو ما يساهم في خفض تكلفة الإنتاج".
إعادة استعمال المياه المعالجة في الري تعتبر خياراً جذاباً، خاصة في المناطق الجافة وشبه الجافة.
ويشير المتحدث وهو أحد العارفين بالتحديات التي تواجه الزراعة في محافظة بومرداس، المعروفة بتحقيق إنتاج قياسي من محاصيل الحمضيات والكروم والعنب، إلى أن بعض فلاحي المنطقة استعملوا المياه المعالجة، وخاصة فلاحي الكروم، وحصلوا على نتائج باهرة واستغنوا عن التسميد.
وفي الجزائر 21 محطة معنية بإعادة استعمال المياه المعالجة في ري الأراضي الزراعية، ووفقاً لبيانات الديوان الجزائري للتطهير، فقد استخدم في 2020 ما لا يقل عن 18 مليون متر مكعب من المياه المعالجة عبر هذه المحطات، لري أكثر من 11 ألف هكتار من الأراضي الزراعية.
ويتبنى الديوان الجزائري للتطهير طرقاً جد متقدمة تتمثل في المعالجة الثلاثية حتى تصبح المياه صالحة لسقي الأراضي، ويعول الديوان على إعادة استخدام المياه للأغراض الزراعية كحل كفيل بالتخفيف من شح المياه، ويعتبر أن الأمر لم يعد "خياراً" بل "حلاً حتمياً" يندرج في صميم الإستراتيجية الوطنية للمياه المعالجة، التي وضعتها وزارة الموارد المائية وفقاً لمنظور التنمية المستدامة.
ثروة غير مستغلة
"إعادة استعمال المياه المعالجة في الري الفلاحي تعتبر خياراً جذاباً، خاصة في المناطق الجافة وشبه الجافة، فهي تمثل مصدراً للمياه وأسمدة تكميلية متجددة"، يقول الدكتور عبد الباسط بومادة من قسم العلوم الزراعية في جامعة ورقلة لرصيف22.
لكن هذه الثروة حسب بومادة غير مستغلة بالشكل المناسب لعدة أسباب، منها أنها شديدة الملوحة مما يتطلب استعمالها في سقي نباتات مقاومة للملوحة، وكذلك بسبب عدم توعية الفلاحين بالشكل الكافي لتقبل هذه الممارسة.
ويشير المتحدث وهو أحد العارفين بالتحديات المناخية التي تواجه البلاد إلى أن "الجزائر تواجه نمواً ديمغرافياً كبيراً أدى إلى زيادة كميات المياه المستخدمة ومياه الصرف الصحي، ولذلك سعت منذ بداية القرن الحالي إلى إيجاد حلول آمنة وصديقة للبيئة تعتمد على الجمع والتنقية، وأدت هذه الحلول إلى إنتاج كميات معتبرة من المياه المعالجة، ولكن الجزء الأكبر منها يصرف في الأوساط الطبيعية ولا يستفاد منه".
تساهم هذه المياه في تخصيب التربة إذ تحتوي على عناصر مغذية مثل النيتروجين والفوسفور والبوتاسيوم التي يمكن أن تفيد نمو النبات، وفي خفض التكاليف المرتبطة بالري مثل تكاليف الضخ وتوزيع المياه، كما أن معالجتها تحد من التلوث الناتج عن التفريغ المباشر لها في البيئة
تطوير أنظمة التدوير
الباحث في السياسات الاقتصادية عبد المجيد سجال، الذي سبق أن أطلق حملة بعنوان "أريد وطني حياً"، يقول لرصيف22 إن "الوضع الحالي يتطلب تطوير أنظمة تدوير مياه الصرف الصحي وتجميع مياه الأمطار في المدن، ولو تطلب الأمر شطف أي بركة في الطريق قبل أن تجف".
واستعرض الوضع المائي في البلاد: "الجزائر بلد فقير من ناحية المياه، بل يعاني أزمة مناخية صعبة منذ بداية التسعينيات، وبينما تشير عتبة الفقر المائي عالمياً إلى معدل 1000 متر مكعب سنوياً كحصة الفرد الواحد، تقول الإحصائيات إن حصة الفرد لا تتعدى 500 متر مكعب سنوياً حالياً، مقارنة بـ1500 متر مكعب عام 1962، كما تكشف عن أن معدل التساقط لا يتجاوز 100 يوم في السنة وهو في تراجع ملحوظ ومخيف، فأغلب أيام الشتاء باردة وجافة ناهيك بالصيف الحار الجاف، أما المياه الجوفية فهي غير قابلة للتجديد".
وأمام كل هذه المعطيات يقترح سجال "الاعتماد على تقنية تجميع المياه أثناء الفترات القصيرة للتساقط في آبار جوفية صناعية تحميها من التبخر، إضافة إلى إعادة تدوير مياه الصرف الصحي ثم استغلالها في سقي الأشجار بالطرق الذكية، أي سقي جذور الشجرة فقط بعد التأكد من جفاف التربة المحيطة بها من خلال المستشعرات".
إضافة إلى ذلك، يُلح الباحث في السياسات الاقتصادية على "إنشاء المزيد من المساحات الغابية والخضراء، والاستثمار في إنتاج الطاقة الشمسية واستعمالها في استخراج المياه الجوفية الصحراوية".
وحسب سجال، فإن الوضع الحالي يستدعي التحرك، لأنه لا يمكن الحديث عن ثروة فلاحية دون التفكير الجاد في ثروة مائية، واستدل في هذا المضمار بالمثال التالي: "استهلاك البقرة الحلوب الواحدة من المياه يشكل أضعاف إنتاج الليتر الواحد من الحليب، ولذلك فإن الاستثمار في مجال تربية الحيوانات وحتى الصناعة والتجارة والصحة لن يتحقق بلا مياه كافية ونقية، ولا يمكن أيضاً تصور منتجعات مائية ومسابح بلا ماء".
الوضع الحالي يستدعي التحرك، لأنه لا يمكن الحديث عن ثروة فلاحية دون التفكير الجاد في ثروة مائية.
خطة حكومية
أنشأ قطاع الموارد المائية في الجزائر مؤخراً مشروع ميثاق اقتصاد المياه، تمخضت عنه عدة توصيات لتفادي أزمة المياه، من بينها عصرنة وتأهيل شبكات التوزيع، وتعميم قياس استهلاك المياه وتطوير أنظمة السقي.
وبخصوص إعادة استخدام مياه الصرف الصحي، أقر الخبراء أن الوضع الحالي "لا يزال بعيداً عن الهدف"، وتستهدف الحكومة زيادة معدل إعادة الاستخدام تدريجياً ليصل إلى 55 بالمائة سنة 2030.
وحسب الأرقام الواردة في المشروع، فإنه بنهاية عام 2019 دخلت 200 محطة معالجة لمياه الصرف الصحي قيد التشغيل مع قدرة معالجة تزيد عن 1.800 مليون متر مكعب في السنة، وزاد عدد المحطات بمعدل سبعة كل سنة، ما ساهم في رفع قدرات تنقية المياه العادمة بمقدار 297 مليون متر مكعب، أي بزيادة نسبتها 45 بالمائة مقارنة بسنة 2014، وستسمح إعادة استخدام 25 بالمائة من هذه الإمكانيات على مدى السنوات الخمس عشرة المقبلة بسقي أكثر من 45 ألف هكتار من الأراضي الفلاحية أي ثلاثة آلاف هكتار سنوياً في المتوسط.
ممارسة شائعة
يقول زغبة نبيل، وهو مهندس زراعي يشغل منصب رئيس مكتب بمديرية المصالح الفلاحية لمحافظة جيجل إن استخدام المياه العادمة في الري له عدة مزايا، أبرزها انخفاض استهلاك المياه العذبة، وهو أمر مهم في المناطق التي تكون فيها المياه شحيحة.
الجزائر تواجه نمواً ديمغرافياً كبيراً أدى إلى زيادة كميات المياه المستخدمة ومياه الصرف الصحي، ولذلك سعت منذ بداية القرن الحالي إلى إيجاد حلول آمنة وصديقة للبيئة تعتمد على الجمع والتنقية، وأدت هذه الحلول إلى إنتاج كميات معتبرة من المياه المعالجة
ويضيف: "تساهم هذه المياه في تخصيب التربة إذ تحتوي على عناصر مغذية مثل النيتروجين والفوسفور والبوتاسيوم التي يمكن أن تفيد نمو النبات، وفي خفض التكاليف المرتبطة بالري مثل تكاليف الضخ وتوزيع المياه، كما أن معالجتها تحد من التلوث الناتج عن التفريغ المباشر لها في البيئة، ومن شأنها أيضاً تقليل خطر الإصابة بالأمراض المتنقلة عن طريق المياه، كما يمكن استخدام الطاقة الموجودة في مياه الصرف الصحي لتوليد الكهرباء وتسخين المباني، وبالتالي تحقيق الاستدامة البيئية وتوفير الموارد الطبيعية".
وحسب نبيل، فإن استخدام المياه العادمة في الزراعة ممارسة شائعة في العديد من البلدان، لا سيما في المناطق التي تكون فيها المياه شحيحة ومكلفة، ولكن هذا الاستخدام يخضع لمعايير صارمة ومراقبة مستمرة لإزالة جميع أنواع الملوثات، كما ينبغي النظر للأمر على أنه الملاذ أو الخيار الوحيد للفلاحين الذين لا يستطيعون الوصول إلى مصادر أخرى للمياه.
ومن أكثر الدول استعمالاً لمياه الصرف الصحي في الري حسب المصادر والإحصائيات المختلفة، نجد الصين التي تستخدم ما يقرب من 90 مليار متر مكعب سنوياً، والهند 62 مليار متر مكعب، وباكستان 35 مليار متر مكعب، والولايات المتحدة الأمريكية التي تستخدم 32 مليار متر مكعب، وإسبانيا 20 مليار متر مكعب.
يجب تقييم جودة مياه الصرف الصحي من حيث الملوثات وإجراء تحليل معمل لمعرفة مدى ملاءمتها للاستخدام في الري.
تحديات وأخطار
ومع ذلك، يقول المهندس الزراعي إن هذه الممارسة يمكن أن تشكل خطراً على الصحة العامة والبيئة إذا لم تحصل بالشكل المناسب. ويضيف: "في الجزائر هناك عدة قوانين تؤطر استعمال هذا النوع من المياه ولا سيما القانون 05_12 لعام 2005 المتعلق بإدارة المياه والقانون 02_ 03 لعام 2002 المتعلق بحماية وتعزيز الثروة المائية. تنص هذه القوانين على وجوب معالجة مياه الصرف الصحي لمعايير الجودة المعمول بها، من أجل تقليل المخاطر على صحة الإنسان والمحافظة على البيئة".
وعلى الرغم من هذه اللوائح، يعتقد المهندس الزراعي أن "هناك تحديات كثيرة تخص الإدارة السليمة لمياه الصرف الصحي في الجزائر، منها محدودية البنية التحتية لمعالجة هذه المياه، وكذلك النقص الفادح في المياه العذبة في بعض المناطق مما قد يجعل استعمال المياه العادمة حتمية، بالإضافة إلى ذلك قد يكون هناك نقص في الوعي لدى الفلاحين بالمخاطر الصحية المرتبطة باستخدام مياه الصرف الصحي".
ولذلك يؤكد نبيل على ضرورة اتباع الخطوات التالية قبل استخدام المياه العادمة في الري: تقييم جودة مياه الصرف الصحي من حيث الملوثات مثل المعادن الثقيلة والمواد الكيميائية ومسببات الأمراض، وإجراء تحليل معمل لمعرفة مدى ملاءمتها للاستخدام في الري، ومن ثم الشروع في معالجتها عن طريق الترشيح والتطهير والترسيب والتخثر والتلبد.
ويختم موصّياً بحسن اختيار المحاصيل، فليست جميعها مناسبة للري بمياه الصرف الصحي، مع تجنب المحاصيل التي تؤكل نيئة أو ريها بمياه ذات جودة أعلى، وأيضاً يجب اختيار طرق الري على أساس خصائص المياه والتربة، ويمكن أن تساعد طرق مثل الري بالتنقيط أو بالرش على تقليل المخاطر الصحية.
وأوصى المتحدث بمراقبة جودة المياه باستمرار لضمان تلبية المعايير وعدم وجود مخاطر صحية، قائلاً: "يجب إجراء اختبارات منتظمة لتقييم جودة المياه قبل الاستخدام وبعده. من خلال اتخاذ تدابير السلامة هذه، يمكن أن يكون استخدام المياه العادمة في الري حلاً مستداماً لإدارة المياه في المناطق ذات الموارد المائية المحدودة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...