فتحتُ باب المنزلِ بهدوءٍ كي لا أوقظ صغيرتي التي تغطّ في نومٍ عميق، وتسلّلت خارجاً مستعينةً بضوء الكشّاف في هاتفي المحمول. نقرت الباب بلطفٍ لا يزعج أحداً وطلبت استعارة الغاز الأرضي أو غاز الرحلات والمخيّمات كما يسمّونه، ثم عدت مسرعةً إلى شقتي لأبدأ تحضير مشروب المتّة الساخن الذي يرافقني في سهرتي المنزلية.
لم يأخذ مني الإبريق نصف غلوة، فالماء المخصّص لشرب المتّة يجب أن لا يصل حدّ الغليان، ثم عدت للتسلّل من جديد عبر الممرّ المظلم بين شقتي وشقة جيراني لأعيد إليهم ذلك الكنز الثمين الذي فُقدَ من الأسواق فينعمون هم أيضاً بكأسٍ من الشاي المختمر.
حدث كل هذا مع نهاية يومٍ طويلٍ قضيته أنا وابنتي بصحبتهم، لم نخطّط له مسبقاً، بل جاء بمبادرةٍ طيبة من جارتي، فقررنا على إثرها الخروج من منازلنا بحثاً عن الدفء والطعام الساخن، ونسبةٍ معقولة من عمر البطارية في أجهزتنا المحمولة.
قد يعتقد البعض أنني أروي أحداث يومٍ اعتيادي في إحدى دول الشرق الأوسط وبالتحديد تلك الغارقة في الظلمات، أو أنّنا نعيش ذلك كل يوم. لكنّ حقيقة الأمر أن ما أحكيه قد حدث في كندا، في مونتريال التي لفّها ظلامُ دامسٌ أكثر من ليلتين متتاليتين بسبب العاصفة الجليدية التي ضربت عدداً من المقاطعات الكندية، وأدّت إلى
قد يعتقد البعض أنني أروي أحداث يومٍ اعتيادي في إحدى دول الشرق الأوسط وبالتحديد تلك الغارقة في الظلمات. لكنّ ما أحكيه قد حدث في مونتريال التي لفّها الظلامُ أكثر من ليلتين بسبب عاصفة جليدية.
انقطاع التيّار الكهربائي عن نحو مليون مستفيدٍ من الخدمة في مونتريال وحدها، بين منازل ومدارس ومحالّ تجارية ومراكزَ للتسّوق، كان منزلي واحداً منها.
هي ليست العاصفةَ الأولى التي أشهدها منذ قدومي إلى كندا كما أنها ليست المرة الأولى التي أعاني من انقطاع خدمات الكهرباء والإنترنت لأيامٍ متواصلة. فقد عشت أوقاتاً مشابهة في سوريا.
لكن هذه المرة كانت مختلفةً عما سبقها، لم أستطع فهم المشاعر التي انتابتني منذ لحظة حدوثها ولم أجد تفسيراً منطقياً لما أحسّ به كأن الحياة قد توقفت من حولي، أحسست في داخلي غضباً لم أفهمه رافقه شعورٌ بالضياعِ تحوّل مع مرور الوقت إلى حنينٍ مرّ المذاق.
كنت أشعل الشموع لأكسر بضوئها بعضاً من السواد الذي أحاط بي، فغرقت في ذكرياتٍ بعيدةٍ عشتها بين أفراد عائلتي إذ كان انقطاع التيار الكهربائي فيها أمراً طبيعياً بل متوقعاً وقد تكرّر كثيراً حتى أصبح روتيناً يومياً تعوّدناه وصار لدينا طقوسنا الخاصة به.
تتجلّى تلك الصورة العائلية أمامي بوضوحٍ كلما شاهدت ظلّ أصابعي على الورق الذي احتضن كلماتي هذه بين سطوره، وأدرك كم تغير عن سابق عهدي به، فهو لم يعد يشبه ظلّها الذي كنت أرسم به أشكالاً متنوعةً على حائط منزلنا، مستغلّةً ضوء الشموع المتوزعة هنا وهناك.
كنا نتسلّى كثيراً بهذه اللعبة وظننت للحظاتٍ أنها ستكون مسلّيةً بالقدر نفسه لابنتي التي لم تتعوّد الظلام وألعاب الظلّ والخيال المرتبطة به، إلّا أن محاولاتي لخلق بعضٍ الدفء في منزلنا البارد لم تثمر، كما لم تنجح تلك الحيل التقليدية القديمة بتهدئة احتجاجها. فأنا نفسي لم أعد اقتنع بها ولم أعد اتقبّل العيش إلا بالشكل الطبيعي الذي يوفّر لي كلّ ما أحتاجه لتكون حياتي أسهل.
فكيف لي الآن أن أعود إلى العتمة بعد أن اعتادت عيناي سطوع الضوء؟ وكيف لي أن أستعيد مهاراتي في الاحتيال عليها؟ أبدو كأنني قد نسيت تماماً كيف كنّا نفعل ذلك بل وكأنني لم أعتدها يوماً.
فبعد مرور هذه السنوات التي اعتدت فيها توفّر كل وسائل المعيشة من كهرباء وماء وتدفئة وإنترنت، أصبح انقطاع أي واحدٍ منها سبباً في شعوري بالاختناق، بل أيضاً بالغدر، فقد قبلت الاغتراب عن أهلي وبلدي والعيش في "آخر ما عمّره الله" فقط بدافعٍ من رغبتي في حياةٍ بدون تعقيدات. ولم أترك بلدي كرهاً بها أو حبّاً بالبعد والاغتراب بل بحثاً عن نهايةٍ لذلك النفق الذي عشنا فيه سنواتٍ طويلةً من أعمارنا، وإذا أصابني الحنق مما حدث فهو خوفي فقط من تكرار التجربة وتذوّق مرارتها من جديد ولو فترةٍ مؤقّتة.
بعد مرور السنوات التي اعتدت فيها توفّر الكهرباء والماء والتدفئة والإنترنت، أصبح انقطاع أي واحدٍ منها سبباً في شعوري بالاختناق
ازداد شعوري بالخذلان مع مرور اليوم الثاني ونحن دون كهرباء وفقدت ثقتي برُشد الحكومة الكندية وقوة بصيرتها بل شككت بقدرتها على تعويضي عمّا خسرته مقابل اللجوء إليها.
و ألحَّ عليّ سؤالٌ ممتعضٌ عن جدوى العيش في بلدٍ عصبُ حياته الكهرباء، فإذا فقدها عجز عن تأمين حلولٍ بديلةٍ وسريعةٍ لمواطنيه، واستغربت كذلك كيف لكلّ هذا التطّور التكنولوجي أن يستسلم بسهولةٍ أمام قوةّ الرياح والأمطار!
ثم أضحكتني جرأتي بطرح تلك التساؤلات الغريبة إذ أبدو ناسيةً سنوات قضيتها في بلدي التي كانت تمعن في الظلام كلما هبّ الهوى بل نسيت أيضاً أسماك القرش التي كانت تلتهم كابلات الإنترنت السورية من وقتٍ لآخر، ولم ينشّط ذاكرتي إلا جملةٌ ساخرةٌ سمعتها كثيراً خلال هذين اليومين "شو نحن بالشام حتى تنقطع الكهربا والنت بسبب الطقس".
لا، نحن لسنا في الشام ولأنّنا في كندا فقد بدت جملة: "وأخيراً إجت الكهرباء" غريبةً ومضحكةً في الوقت نفسه، لكنني الآن فقط فهمت ردة فعلي، فأنا اليوم، أصبحت أدرك جيداً معنى أن أكون إنسانةً ذات حقوق، وبات من الصعب عليّ أن أتنازل عن أي حقٍّ منها، مهما كان بسيطاً بل إنني أمتلك الشجاعة للمطالبة بها.
تنشّط ذاكرتي جملةٌ ساخرةٌ سمعتها كثيراً خلال هذين اليومين: "شو نحن بالشام حتى تنقطع الكهربا والنت بسبب الطقس؟"
مقابل تلك الحقوق قايضت الحكومة الكندية على سنواتٍ طويلةٍ من خبرتي في العيش مواطنة من الدرجة الثالثة، وأيضاً على ما تبقّى لديّ من الصبر بعد أن استنفدت معظمه هناك مع الصامدين، فكيف لها الآن أن تنقض اتفاقنا وتطالبني بالمزيد بل تتركني عرضةً للاستهزاء من قبل أصدقائي المتهكّمين الذين بدأوا يعرضون مساعداتهم لنا بإرسال البطاريات والأضواء الالكترونية (الليدات) وغيرها من وسائل التحايل التي يستخدمونها منذ عقدٍ مضى، والتي لم أصدّق كيف نجوت منها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...