عندما تكون "غريباً في بلاد غريبة" تبحث بشكل تلقائي عن الألفة بكل أشكالها وأصواتها. تجد أن أصغر التفاصيل تذكرك بأنك لست من هنا. تبدو الأشجار أعلى مما يجب، بخضرتها الملائمة لتلك السماء المعتمة. يبدو "الباص" بارداً بكل اللوحات التحذيرية والخط الأصفر بجانب السائق الممنوع تجاوزه. حتى مطاعم الأكل العربية لا تغريك، نكهاتها ضعيفة أو غائبة. فالحقيقة أن طعامها لم يُعدّ من أجلك، بل من أجل أهل البلد الذين يريدون رؤية صورة لجمل أو تصاميم "شرقية" على الحيطان. لاتدري إن كانت هوية المطعم شامية أو إيرانية أو هندية، فهم لا يفرقون.
أذكر عامي الأول في الولايات المتحدة، في بلدة "سوارثمور" بالتحديد، كفيلم قصير صُوّر من خلال عدسة رمادية لا يرغب أحد بمشاهدته. مشاهد دائمة البلل، إلا أن رائحة التراب المبلول لا تشبه رائحة التراب التي اعتدت أن أحبها وأنا صغيرة. لا شيء يشبه ما أعرفه، ولا شيء يشبهني. في قاعة الطعام اكتشفت أن رغيف الخبز المدور غائب ولا يشعر بغيابه غيري. أتذوّق الموجود دون أن أشعر بشيء، واهتديت الى البيض المسلوق لأنه وحده يحمل الطعم ذاته في كل مكان.
أهاتف أمي كل صباح ليؤنسني صوتها. أخبرها عن أصدقائي الجدد ومواضيع محاضراتي و "الفلافل" التي رأيتها في قاعة الطعام التي لا تمت للفلافل بصلة. أخبرها عن بُعد الجامعة عن المدينة وأن البلدة آمنة جداً، فلا يحدث شيء هنا. لا شيء على الإطلاق. لم أخبرها عن لحظات الخوف والضعف عندما تمنيت العودة. ولم أخبرها عن معطفي الشتوي الذي اشترته لي والذي لا يستطيع مجابهة هذا البرد الجديد. عندما لم أملك ما أقوله لها، كنت أرفع من صوت الموسيقى على هاتفي حتى نستمع لأغنية نحبها، لذكرى أو شادية، ونغنيها معاً.
عندما تكون "غريباً في بلاد غريبة" تبحث بشكل تلقائي عن الألفة بكل أشكالها وأصواتها. تبدو الأشجار أعلى مما يجب. يبدو "الباص" بارداً. حتى مطاعم الأكل العربية لا تغريك
أعيد التفكر بتلك السنين الآن بعد أن قرأت رواية "افرح يا قلبي" للكاتبة اللبنانية علوية صبح، عن قصة مهاجر لبناني. ضعت بمتاهات أحداث الرواية وأعماق الأوجاع الممتزجة بموسيقى وروائح الوجود، في مكان فرض العذاب على كل من وقع في حبه أو لم يقدر على فراقه. كم عظيمة هي مأساة من أحبَّ معذبه ومن اختلطت عليه مشاعر الأمان بالخطر، والألفة بالغربة، وصوت فيروز ووديع الصافي بصوت القنابل وطلق الرصاص. كذلك من وجد نفسه يحب لبنان، بكل ما بقي فيها من مظاهر الحياة المتعبة.
تتبّع الرواية، والتي تحمل اسم احدى أغنيات السيدة أم كلثوم، حياة "غسان" الذي ربطه حبه للموسيقى وأصوات الحياة المختلفة بمعنى وجوده، فيعينه صوت العود على تحمل وحشة الحرب، ويؤنسه صوت القمر في ليالي العتمة الكاملة، ويشعر بالغربة عن عائلته التي تنعته بالجنون إن تحدث عن أصوات الألوان والتراب والسماء.
نرى من خلال قصة غسان ما لم يخف على الكثير منا، من عذابات أمه المضطهدة من أبيه، وضياع إخوته في سبل الحياة والعنف والحب والدين، وقربه الشديد من جده الذي أعطاه من الحب ما لم يجد من بعده. ما بين صفحات الكتاب المليئة بذكريات الماضي وتلك التي تختزل مشاعر الغربة والرغبة في النسيان، أو بالأحرى التناسي، تصحب القارىء موسيقى تجسّد ما يعتري الشخصيات من طرب وولع ودموع السلطنة. تمتلئ صفحات الكتاب بأسماء أغان سوف أزود لائحة ببعضها في نهاية هذا المقال، لمن يرغب بسماعها.
استوقفتني إحدى عبارات الفصول الأولى، بينما لا تزال شخصية غسان في صراع فكري ووجودي بين توقه لحياة خالية من دماء الجار ونوح الأمهات وعنف المسلحين، وخوفه من المضي قدماً في عالم غريب قد يجد فيه ما يسرّه أو ما يوحشه. كانت تلك العبارة "أنا المهجور ولست المهاجر".
قالها غسان وقد قرّر الذهاب الى نيويورك متوعداً ألا يعود الى لبنان أبداً، ولا حتى بعد موته. كان يود لو تنقطع صلته بهويته وماضيه حتى تتغير ملامحه ويتغير صوت اسمه وتحفر في أذنتيه نوتات موسيقى الغرب، فينسى ما عشق يوماً من صوت عوده الذي اغبرّ غطاؤه الأبيض وأمسى كفناً له ولمن كان. لكنه لم يشعر بأنه يهاجر كل ذلك، بل أنه هو المهجور.
توقفت عند تلك العبارة مطولاً، أتفكر بمعانيها ومدى صدقها. لم يكن غسان مجرد شاب أراد الرحيل للبحث عن عمل أفضل أو للحصول على شهادة جامعية مرموقة، كما فعلت أنا. ولم يكن مسعاه في سفره أن يجول بلاد العالم كسائح سيعود الى وطنه ليخبر أحبابه بما رأى. كانت نيويورك بالنسبة له تذكرة نجاة من مذبحة الحروب والطائفية والأبوية، تذكرة إلى مكان قد يتذكّر فيه معنى أن يكون إنساناً له مسرات وهموم طبيعية.
ترسّخ إيماني بأن الموسيقى قد تكون الشيء الوحيد الذي لا يهاجر والذي لا يعرف تأشيرات اللجوء، وتبقى الموسيقى وحدها بريئة من بشاعة الموقف، وتبقى وحدها الأنيس بعيداً عن الأحبة
هل نسميه مهاجراً إن لاحقه الموت وصياحه حتى أبواب الطائرة، أم مهجوراً إن هجرته كل معالم الحياة وبصائص الأمل بأيام لم تشوهها ندوب الحروب والكراهية والقتل على الهوية؟ كان غسان أشبه بمعبد خلا من المصلين، بعد أن صمتت موسيقاه وتكسرت نوافذه. ولربما في عالم مواز، لكانت المعابد تسير بحثاً عن الإيمان وأهله إن هجرت حتى لا تموت، عوضاً عن انتظارهم عبثاً.
بالرغم من وعود غسان لنفسه بنفي كل ما هو لبناني أو عربي عن حياته الجديدة في نيويورك، إلا أن الموسيقى الشرقية ظلت مجابهة لعناده ومرافقة لأفكاره وأحاسيسه رغماً عنه، فكم من أبناء منطقتنا التي تشعّب بها الخراب وجد نفسه يتلوّع على ألحان بليغ حمدي ورياض السنباطي وسيد درويش والأخوين الرحباني في شتى بقاع الأرض؟ كم منا لا يزال يستيقظ على صوت فيروز أو يغني مع جورح وسوف "روحي يا نسمة عند الحبايب" في مشوار طويل بسيارة مستأجرة في بلاد غريبة؟
تختلف قصص المهاجرين كثيراً, وإن تشابهت مشاعر الغربة أو الشتات، كما تختلف أعباؤهم وحمولاتهم النفسية والجسدية، إلا أن الحاجة الى الحنين الذي تولّده الموسيقى تبقى العامل المشترك. لقد ترسّخ إيماني بأن الموسيقى قد تكون الشيء الوحيد الذي لا يهاجر والذي لا يعرف تأشيرات اللجوء. يبقى صوت كارم محمود واحد وهو يغني "أمانة عليك يا ليل طول" أو "على شط بحر الهوى"، إن كان صوته يبعث بالأنس أو الحنين في سهرة في الأردن أو الولايات المتحدة أو السويد. يبقى حضور هذه الأغاني "طبيعياً" في سياقات حياتية واجتماعية قد تبدو "غير طبيعية".
كم هاجرنا، وهجرنا. كم اغتربنا، وغربنا. وتبقى الموسيقى وحدها بريئة من بشاعة الموقف، وتبقى وحدها الأنيس بعيداً عن الأحبة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...