خرجتُ من المنزل صباحاً متوجهاً إلى مكان العمل. في الطريق، توقفتُ عند الصيدلية لأشتري دواء، فابتسمت الصيدلانية في وجهي ابتسامة طويلة، استمرّت من لحظة دخولي حتى مغادرتي الصيدلية. كانت هناك زبونة تركن سيارتها أمام الصيدلية، فابتسمت لي هي أيضاً. توجهتُ إلى السوبرماركت لأشتري السجائر، فابتسم البائع في وجهي، وابتسم الزبائن، نساءً ورجالاً.
غادرت السوبرماركت فابتسم لي عامل النظافة على الرصيف، وابتسمت امرأة تقطع الشارع. تساءلت في نفسي: ما هذا الصباح الجميل؟ هل تغير الناس فجأة أم أنني صرت وسيماً دون سابق إنذار، وأستدعي نظرات الناس وإعجابهم؟
دخلت إلى مكان العمل، فوجدتُ أحد الموظفين يستلقي على الكنبة وكأنه في غرفة نومه، فثار جنوني وصرخت به. لكنه ابتسم في وجهي وقال بكل برود: "دكتور، أظن إنك ما بتقدر تبهدلني وإنت حاط ستيكر (هيلو كيتي) على جبينك، لن تكون البهدلة جدية ولن أقتنع بها".
أردّد دائماً أنني تعلّمت من ابني أكثر مما علّمته، وربّاني أكثر مما ربيته، وما زلت بحاجة ماسّة لأن أكتسب لغة ومهارات عصره، لأن مهارات عصري لم تعد صالحة كلها
لقد خرجت من المنزل دون ان أزيل الستيكر الذي وضعته لي ابنتي لأنني "شاطر" في لعبة "البزل"، ووجدت القطعة الناقصة في الرقعة.
لقد فزت عليها صباحاً، فكافأتني بـ "هيلو كيتي" على جبيني. أليس من العيب أن تفوز على طفلة في الرابعة من عمرها؟ لا ليس عيباً، فأنا لا ألاعب ابنتي، بل ألعب معها. وهذا هو الفرق بين أن تفرح أنت، لأنك مارست حصتك من التربية على طريقتك، وبين أن تفرح ابنتك لأنها وجدت من يشاركها اللعب. هذا الفرح تحديداً، هو التربية برأيي. إنه تربية ذاتية يقوم بها عقل الطفل وجسده معاً.
ابنتي الصغيرة في الرابعة من عمرها، وأنا تجاوزت الخمسين. وفي الخمسين يتفرّغ المرء للقراءة والكتابة، أما أنا فقد تفرّغت لمشاهدة أفلام الكرتون.
لستُ خبيراً، بالتأكيد، في أساليب التربية الحديثة أو القديمة. ولستُ مختصاً، لا في الطفولة ولا في أساليب اللعب، كما أنني لم أكلّف خاطري أن أطالع النظريات العلمية حول التنشئة السليمة للأبناء. أنا أب وفقط، وأتصرّف كأب لا كربّ منزل. هل ثمة فرق؟ بالتأكيد، فربّ المنزل يلوم ابنته لو كسرت لعبة، أو سكبت كوباً من العصير فوق السجادة إثناء اللعب، أما الأب فينظف العصير عن السجادة هو وابنته، وهو يعرف مسبقاً أن اللعب هو المسؤول عن هذا الخطأ وليس الطفلة.
الأب إذن جزء من العائلة وليس مسؤولاً عنها، وإن كان من مسؤولية لهذا الجزء فهي أن يقدّم خبرته لبقية الأفراد، وأن يستفيد من خبراتهم، وأن يحترمها مهما كانت قليلة بنظره. لهذا السبب، أنا أردّد دائماً أنني تعلمت من ابني أكثر مما علمته، وربّاني أكثر مما ربيته، وما زلت بحاجة ماسّة لأن أكتسب لغة ومهارات عصره، لأن مهارات عصري لم تعد صالحة كلها.
ولهذا السبب أيضاً، فإنني كنت أقول لابنتي الكبيرة، في عمر المراهقة: "أنا أبوك حين تخطئين أو تفشلين، أو حين تحتاجين مساعدة أو دعماً، أو حضناً مواسياً. أما عندما تنجحين فلا لزوم لي".
ابنتي الصغيرة في الرابعة من عمرها، وأنا تجاوزت الخمسين. وفي الخمسين يتفرّغ المرء للقراءة والكتابة، أما أنا فقد تفرّغت لمشاهدة أفلام الكرتون. في الخمسين، يكتسب المرء رصانة وهيبة تليق بموقعه الزمني والمعرفي من الحياة، أما أنا فأركض مع صوفيا في الحديقة العامة، ثم تمسكني من يدي وتأخذني إلى الدكان لنشتري الكاندي، وفي البيت نتقاسم ما اشترينا حسب اللون؛ الزهري والأحمر لها، والأخضر والبني لي.
في الخمسين، يجب أن تكون لك الكلمة العليا، على الأقل فيما يتعلق بشؤونك الخاصة؛ كأن تقرّر أن تشاهد الأخبار على شاشة التلفاز مساءً، أو أن تذهب مع أصدقائك في "طشة" نهاية الأسبوع. لكنني أشاهد فيلم "كروودس" للمرة المائة، ولا رأي لي إلا في الاختيار بين الجزء الأول أو الثاني منه، أما مشوار الأصدقاء، فقد تحول إلى رحلة إلى الجبل مع صوفيا.
أقول لابنتي الكبيرة، في عمر المراهقة: "أنا أبوك حين تخطئين أو تفشلين، أو حين تحتاجين مساعدة أو دعماً، أو حضناً مواسياً. أما عندما تنجحين فلا لزوم لي"
لي صديق ذهب مرة إلى دكان يبيع المجمّدات، عندما سأله البائع عن طلبه، تأتأ كمن لا يجيد الكلام، وقال بصعوبة: "أريد وقية متمترديلا". ضحك البائع ومن حوله من الموظفين وأعاد عليه السؤال، فأجاب صديقي بنفس الطريقة. كرّر ذلك بعد أسبوع، وبعد أسبوعين، إلى أن عرفه كل من يعمل في محل المجمّدات، وصاروا ينتظرونه وينتظرون تأتأته وكلمة مترديلا. في يوم من الأيام فاجأهم بلغة سليمة وشخصية متزنة، وبدون تأتأة وقال: "اعطني من فضلك أوقية مرتديلا". أستهجن العمال من هذا التحول المفاجئ وسألوه: هل أنت نفسك صاحب التأتأة؟ فأجاب بنعم. لماذا كنت تطلب بتلك الطريقة إذن؟ قال: انتو كنتوا مبسوطين لشهرين بسبب هبلي الطفولي، وأنا كنت مبسوط بسبب غبائكم، وبسبب انبساطكم الطفولي أيضاً. والآن قررت أن أبدأ معكم لعبة جديدة.
السعادة إذن تكمن في عناصر الطفولة التي افتقدناها، ونعود إليها بين حين وآخر، كأن نزور أمهاتنا ونسترخي في بيت الطفولة، كأن نجرّب وجبة كنا نتناولها ونحن في الصف الثالث في المدرسة، كأن نشتري الحلوى التي كنا نحبها في الماضي البعيد، بل يكفي أن نراها ونكتشف أنها ما زالت موجودة، وكأن نلعب مع أطفالنا كما لو أننا لم نلعب من قبل.
أما أن تلعب مع ابنتك، فعليك أن تتعلّم وضع المناكير دون أن تلطخ لها عقد الأصابع، وعليك في المقابل أن تمدّ يدك لتضع لك هي المناكير أيضاً. عليك أن تمشط معها شعر باربي، دون أن تشعر باربي بالألم
لكن لعب الآباء مع البنات يختلف عن لعبهم مع الأولاد. لن يختبر الأب عالماً جديداً إن طلب منه ابنه أن يشتري له مسدس ماء أو دراجة هوائية. لقد كان هذا الأب طفلاً في يوم ما، وكان يلعب بمسدس ماء ويركب دراجة هوائية، ولا جديد يضيفه إلى تجربته. أما أن تلعب مع ابنتك، فعليك أن تتعلّم وضع المناكير دون أن تلطخ لها عقد الأصابع، وعليك في المقابل أن تمدّ يدك لتضع لك هي المناكير أيضاً. عليك أن تمشط معها شعر باربي، دون أن تشعر باربي بالألم، وعليك أن تعدل فستان الدمية، وأن تجد لها الغطاء الزهري المناسب لحظة النوم.
وبالتأكيد عليك أن تقبل أن يكون جسدك ملعباً لخربشاتها ولستيكراتها الملونة، ولا بأس أن تضع لك "هيلو كيتي" على جبينك وتنساه.
هل نسيته فعلاً؟ أظن أن النسيان نقيض الرغبة في التذكر. أي أننا ننسى الأشياء التي نريد أن نتذكرها، أما تلك التي لا نشعر تجاهها بهذه الرغبة، فهي الأشياء الحقيقية التي نفعلها بكامل الحب والاندفاع. والستيكر الذي كان على جبيني لم أكن بحاجة لأن أنساه ولا لأن أتذكره. لقد كان عادياً جداً،، مثل كل الأشياء العفوية التي تحدث بين أب وابنته، دون قصد ودون تفكير.
لهذا، وحين احتجّ الموظف على الصراخ به، أكملت صراخي وتركت الستيكر على جبيني، ثم جلست لأكتب هذا المقال. فلا أجمل من أن تكتب، والناس حولك يضحكون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...