شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
ذكريات الطفولة القاسية صارت جنّة اليوم

ذكريات الطفولة القاسية صارت جنّة اليوم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 12 نوفمبر 202102:28 م

تفاصيل ناعمة تتحكم بنا، وتدير أذهاننا بروية، لنحيا الملاذ والحب. لحظات خالدة، على الرغم من قساوتها في الماضي، نابضة في روحنا، كأي عضو في جسدنا، من دون أن يُرى بالعين. هي النداءات المجنونة التي تخالف المنطق بشرحه البراغماتي المفصّل محاولاً عبثاً تضليل الخيال؛ ذكريات الطفولة.

كانت جدتي مجيدة، تنبض بالحيوية في الخامسة والثمانين من عمرها. عجوز بشعر أحمر، وعينين عسليتين، وكفين خشنتين ومتآكلتين من العمل، ومغطاتين بندوب بارزة؛ في كل صباح، تمشط شعرها المسبّل والمضمّخ برائحة الحنّاء، وترفو ملابسنا، وتؤدي أعمال بيتنا بهدوء كملاك يحرس اللطف فيه. باتت هذه التفاصيل تحطم جدران عالمي الحالي، فتحيطها بالهدوء. كلما أشم رائحة الحنّاء، أعود طفلةً، وتناديني بصيحتها الداخلية، فأتبعها كغذاء من روح. يخون الزمن، وأعيش الماضي بمشاكساتي، بعيداً عن واقعنا المثقل بأحزان الحرب، ومشقتها.

باتت رائحة كبريت أعواد الثقاب، تقودني إلى لحظات عميقة في طفولتي؛ إلى مكان جلوس جدتي، وتعود بي إلى الحاضر المتعب المليء بذكريات الراحلين.

كانت تتحدث عن أعمالها الشاقة أيام الحصاد، وقصص جدي (حسن) المتوفى في سجن الحسكة المركزي، لأسباب غامضة. أما أنا، فكنت أتحدث عن قصص أفلام الكارتون، وأضيف تفاصيل جديدة من خيالي، وأراقب دهشتها بمتعة، وأسرد ما أفكّر فيه، مثلاً، "تعيش بائعة الكبريت أميرةً في الجنّة، وتلبس أساور وأقراطاً من الأحجار الكريمة والذهب". في الحقيقة، هي الأساور التي حلمت أن تلمع في يدي، والجنّة التي أرسمها في كل قصة تخيلتها. كانت تنسجم بفضولها ودهشتها معي. أحياناً، كنت أفكر في أن جدتي بائعة الكبريت نفسها، فامتزجت ذاكرة رائحة جدتي بالجنّة.

كانت دائماً تبحث عن علبة الثقاب الضائعة في مكان ما، تحت فراشها، أو في أحد الجيوب المحاكة بقطعة قماش مربّعة ومعلّقة على الحائط. كنت أخاف من الثواني التي تشعل فيها عود الثقاب لتدخن لفافة التبغ. تخيلت أنها ستختفي، وتطير عالياً، كبائعة الكبريت. لازمني هذا الخوف بعد موتها سنواتٍ عديدة، فكل من يدخّن، ويبحث عن علبة الثقاب، ويشعلها، سيحمله الردى، ويرحل بعيداً.

باتت رائحة كبريت أعواد الثقاب، تقودني إلى لحظات عميقة في طفولتي؛ إلى مكان جلوس جدتي، وتعود بي إلى الحاضر المتعب المليء بذكريات الراحلين. صرت أواجهها بالصورة ذاتها، لكن بأشكال متعددة، وأكثر عمقاً، ويغوص جسدي وخيالي فيها أكثر، حد الاتحاد، وأشعر بأن رائحة الكبريت تعني فقدان جدتي، ووجوه كثيرة راحلة غارقة في الدموع. هي أحاسيس منحتها الطفولة لي كالنقش. أحاسيس دعكت خيال طفولتي الناعمة. كنت أعيش وأتجرّع الحالات بحزنها وفرحها، بفضول وشراهة؛ لكنني أحياناً أتغاضى عن التفكير في العنف الذي حوّل أماكن في بلادنا، إلى بقايا شبيهة بالثقاب المحروقة، كلما اشتعل أحدها تلاشى ساكنوه في الردى.

أخي حسين

في صغري، توحدت مع العالم، وحلقت فيه على درّاجة أخي حسين الذي يكبرني. كان يرفع ذراعي مع اثنين من إخوتي، وهو يزيد من سرعتها، ونحن نحتضن العالم. كنت أشعر بالغبطة والرياح تعبث بجدائلي، وترفع فستاني الأبيض المنقش بورود حمراء. كنت أحمل الرياح والعالم بين أصابعي، وأعانقهما أكثر وأكثر مع ازدياد السرعة. كان الهواء-العالم يتحول إلى كتلة ملموسة في راحتي، وفجأة كنت أشعر بالفقدان في أثناء تخفيف السرعة عند الحفر والمطبات. بغتةً، يسقط ما حملته من يدي. كان عمري أربع، أو خمس سنوات، حين بدأت المواجهة بيني وبين العالم في تلك الأثناء. كنت أحدّق في الحفر باحثةً عن ضالتي، وتابع أخي السير، وأخبرته والابتسامة ترسم ملامحه: "سر بقوة، وابتعد عن الحفر، حتى لا يسقط العالم من أصابعنا. نحن نحمل العالم بأيدينا، أليس كذلك يا حسين؟".

كنت أحدّق في الحفر باحثةً عن ضالتي، وتابع أخي السير، وأخبرته والابتسامة ترسم ملامحه: "سر بقوة، وابتعد عن الحفر، حتى لا يسقط العالم من أصابعنا. نحن نحمل العالم بأيدينا، أليس كذلك يا حسين؟"

اليوم، صرت أجتاز المسالك الصعبة التي تعيق خطاي، وأتخطاها بقفزات روحية، على دراجة أخي، وأتجنب المطبات الآتية بعقلي الطفولي والحالي معاً.

أخذني أخي عنوةً إلى المدرسة في المرة الأولى، منذ الصباح الباكر. كان الخوف يثقل خطاي، وعبثاً حاولت إفلات يدي. كنت أشبه بأضحية العيد، وتخيلت المدرّس بصورة عصا جلاد، وأنياب طويلة. سرنا بين أزقة "تل كوجر"، والرعب يتملكني. دخلنا المدرسة، وكفي يرتعش في راحة أخي الدافئة. سرنا في ممر الصفوف حتى وصلنا إلى غرفة الإدارة، فانحنى أخي، وقدّمني إلى الأستاذ. كانت نظرات الأستاذ حادةً، وبيده العصا التي رسمتها. خفت منها في خيالي، إلى درجة صرت أبحث عن أنيابه بناظري، حتى ظهرت للحظة في فكري وهو يهز عصاه، وسط ابتسامة أخي الذي يعكس الرضا عنه، قائلاً: "هذه العصا تصنع الشطّار".

أتذكرهم الآن على شكل رؤوس مصطفة على المقاعد كالأكوام. المشاغبون والمتفوقون والمعلمون، وحدهم يظهرون في ذاكرتي كشرائط أفلام قصيرة.

كنت أعتقد أن المعلمين وُلدوا جلادين، يحملون وصايا العنف على الطلاب، وكأننا عائدون من البرية.

المدرسة

كنا نرتَّب في رتل تدرّج من الأقصر إلى الأطول في كل صباح، ونردد النشيد العربي السوري كل خميس، وسط حرقة الشمس، وصقيع الشتاء. كنت أحرّك شفتي بجمل عصي عليّ فهمها، حتى لا تنقضّ عليّ ضربة عصا من مسؤول التفتيش، كأن أحول جملة "أبت أن تذل النفوس الكرام"، إلى جملة صارت بفهمي الطفولي "أتت أن تذل النفوس الكرام"؛ كان المفتش رجلاً قصير القامة، مهووساً بالنظافة، وشارباه متدليان ومعقوفتان من الطرفين، بعناية.

كان ينقضّ بعصاه على أي مكان يراه مخالفاً في جسدنا، ويتفقد أكفّنا، وأظافرنا، حتى القشرة والقمل في شعرنا، ثم الزي الموحد، فنبدو كنسخة واحدة مصفوفة. كنت أعتقد أن المعلمين وُلدوا جلادين، يحملون وصايا العنف على الطلاب، وكأننا عائدون من البرية.

بعيداً عن عالم النشيد الوطني، عرفت الآن أنها العصا السحرية والمباركة التي أدارت خطانا إلى الصعود، بعد نجاح الكثير من أصدقائي، وحصولهم على الشهادات العليا، وذلك حين أرى صورهم بالصدفة على مواقع التواصل الاجتماعي.

كان أحمد، عريف الصف، يضع نظارةً سميكةً، وهو ابن رئيس أحد فروع الأمن العسكري في بلدتنا "تل كوجر"، وكانت عيناه تبدوان منها أربعةً، وكان يتباهى برتبة أبيه أمامي، بينما كنت أتجنّبه، إذ كانت تفوح منه رائحة الجبن الكريهة، خاصةً عندما كنت ألاحظ فتاته معلقاً على أسنانه، وكان يتناولها سرّاً في أثناء الدرس. أحياناً، تخيلته كائناً يحوّل أي أحد إلى جبن، أينما وقعت عيناه عليه، فأسميته، رجل الجبن، حتى أنني تخيّلت والده يحرس سجوناً من الجبن. كنت أحس أن مذاقه يعلق في فمي، فتجتاحني موجة غثيان.

كيف تحولت رائحة الجبن إلى لحظات تضحكني؟ والسوط الذي كان يرعبني إلى ريشة ناعمة؟ ودراجة أخي إلى الأمل بالآتي؟ أحداث نسجت من خوفي وقلقي وفرحي رداء الطمأنينة، لتدفئني كلما تهت في ألم الحاضر

اختفى والده في سجون المعارضة، بعد سنوات طويلة من خدمته، فقد اتصل بي ذات يوم على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، وسألته بغبطة: "عفواً من المتصل؟ أحمد؟"، فأجابني: "لا، رجل الجبن".

أنا سعيدة بهذه الذكريات. أطير بروحي في عالمها الهادئ، على الرغم من خشونته وقتذاك. كيف تحولت رائحة الجبن إلى لحظات تضحكني؟ والسوط الذي كان يرعبني إلى ريشة ناعمة؟ ودراجة أخي إلى الأمل بالآتي؟ أحداث نسجت من خوفي وقلقي وفرحي رداء الطمأنينة، لتدفئني كلما تهت في ألم الحاضر. أشعر بسعادة عارمة لأنها تعيش معي، وتتنفس بشهيقي وزفيري.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image