"لم أكن أنتظر هذا منهم، كنت أتوقع أن يروه جميلاً مثلما أراه"، شكت لي صديقتي من تصرفات عائلتها مع طفلها، الذي لم يكمل عامه الأول بعد، لأن لون بشرته لم يعجبهم، وكأنه "أنتيكة" ابتاعتها من متجر ما، وليس طفلها.
لم تكن صديقتي وحدها التي اشتكت من تنمّر الكبار على طفلها الصغير، وإنما رويداً رويداً، اكتشفت أن الأمر أصبح أقرب للتقاليد والفلكلور في مجتمعنا المصري، أمهات تعاني من التنمر على أطفالها، وشابات يتذكرن بألم كل موقف مرّ عليهن في عمر الطفولة المبكرة، لم تنجح السنون في محو آثاره.
يا ريت محدش يهزّر مع أولاده بكلام ممكن يعقدهم العمر كله.. على غرار: " إحنا بدّلناك في المستشفى، انت جيت غلطة، لقيناك جنب الجامع، شكلك كان يخوِّف لما اتولدت، إحنا جبناك عشان تسلّي أخوك، انت طالع لمين " والله فيه ناس سنهم كبير وبيتعالجوا من آثار الجمل دي.. بلاش غشومية مع أولادكم.
— Iythar (@Iythar_Art) April 21, 2021
"أتأثر وأبكي"
تحكي نادية الرافعي (27 عاماً)، ربة منزل، تسكن في مرسى مطروح، عن طفلتها الرضيعة، والتي تميل لون بشرتها للسمرة، وهو لون شائع في أبناء المدينة بدرجاته المختلفة، قائلة: "بعد أن ولدت طفلتي، وقبل أن أراها حتى في المستشفى، بل فور أن استفقت من المخدر النصفي، وجدت أخوة زوجي، يقولون لي كلمات قاسية جداً، طفلتك "سودا" و "تشبه العبيد"، وغيرهما من الأوصاف العنصرية والحقيرة".
تشاجرت نادية معهم، رغم أنها لم تتعافَ من عملية الولاية بعد، تقول: "لا أتخيل أن هناك إنساناً عاقلاً لديه قلب، يمكن أن يقول هذا الكلام عن طفلة رضيعة".
أما منة، مدرسة لغة عربية، في منتصف العشرين، تسكن في القاهرة، فتتذكر تلك الكلمات التي وُجهت لها في طفولتها، تقول: "رغم أنه من الشائع أن الأطفال لا يتذكرون ما قيل لهم مع مرور الزمن، ولكنني قادرة على العودة بالذاكرة لسن الأربع سنوات، لتذكر كل ما كان يقال لي على سبيل السخرية".
"بعد أن ولدت طفلتي، واستفقت من المخدر النصفي، وجدت أخوة زوجي، يقولون لي طفلتك "سودا" و "تشبه العبيد"، وغيرهما من الأوصاف العنصرية والحقيرة"
وتضيف: "وربما كان يحدث هذا في عمر أصغر، ولكنني نسيته، أتذكر جيداً التعليقات السلبية على ملامحي وشعري، ثم من عمر الـ 11 سنة، بدأت عائلتي في التعليق على قدراتي العقلية، والتشكيك في ذكائي".
تتذكر منة جيداً تعليقات خالتها، كانت تردد دائماً أنها "غشاشة"، أي تنجح بالغش، وأنها "فاشلة" لا تستطيع إنجاز أي شيء، وكانت تبدي تعليقات ساخرة ومسيئة على شعرها نظراً لطبيعته المموجة، وتضيف: "أكثر ما يحزنني هو أن أمي نفسها لم تحاول الدفاع عني أبداً، بل كانت دائمة التبرير، أنهم يمزحون معي، والوحيد الذي كان يدافع هو زوج خالتي الأخرى، ورغم أنني كبرت الآن وتعلمت كيف أرد عليهم إلا أنني في أوقات كثيرة أتأثر وأتضايق وأبكي".
عانت منة من تأثير تلك السخرية، ظلت لفترة طويلة فاقدة للثقة في نفسها، من الناحية الشكلية، وقدراتها العقلية، مما دفعها لارتداء الحجاب في عمر مبكر بمرحلة الثانوية العامة، لتخبىء شعرها، الذي باتت تكرهه بسبب كل تلك الملاحظات، ثم خلعته في السنة الأخيرة بالجامعة. تقول: "أعدت اكتشاف طبيعة شعري، وكيف أتعامل معه، مرت أعوام كثيرة ثم استعدت ثقتي بنفسي وبذكائي وبعقلي، خاصة عندما نجحت في الدراسة ثم الدراسات العليا ثم مجال العمل، وإعجاب المديرين في عملي واجتهادي، ورغم أني حاولت مداواة هذا الجرح القديم، إلا أن علاقتي بتلك الخالة لا تزال سيئة جداً، فأنا لا أتقبلها ولا أتقبل حديثها، وكثيراً ما تحدث المشاحنات والمشاجرات بيننا".
"الأهالي هم السبب"
منى محسن (اسم مستعار)، ربة منزل، في أواسط الثلاثين، تسكن في محافظة الجيزة، تعاني ابنتها نيللي من فرط الحركة، كذلك عندما بدأت الكلام كان كل حديثها بالإنجليزية وليس بالعربي، تقول: "كانت تتردد إلى حضانة ممتازة، استطاعت التعامل معها بسلاسة، ولكنها أغلقت أبوابها مع أزمة كورونا، فاضطررت لنقلها لحضانة أخرى، فكنت أجد ابنتي تعود منها باكية يومياً، ولا ترغب في الذهاب إليها مرة أخرى، وأصبحت عصبية، وترفض تناول الطعام".
كانت خالتي تردد في وجهي دائماً: "إنتي بتنجحي بالغش، وما تقدريش تنجزي أي حاجة"، وتسخر من شعري، وأمي لم تحاول الدفاع عني أبداً، تبرر تصرفاتهم بأنهم يمزحون معي
ذهبت منى لمقابلة مدرستها، واستوضحت الأمر منها، فاكتشفت أن الأطفال زملاء ابنتها يرفضون اللعب معها، لأنهم لا يفهمونها، وعندما بدأت في التحدث معها مراراً، عرفت أن زملاءها يضحكون عليها، ويشدون شعرها.
توجهت الأم للحضانة، وتقدمت بشكوى للمديرة، وهي بالمقابل قدمت اعتذارها، وتعهدت التحدث مع أهالي الأطفال، تعلق منى قائلة: "طبعاً نحن نتحدث عن أطفال في سن صغيرة جداً، ليس هم المذنبين بل أهاليهم الذين زرعوا بداخلهم السخرية من الآخرين، وعدم تقبل المختلف عنهم، والتعبير عن هذا بالنظرات والأفعال، الأمر الذي وجدت الحضانة القديمة تقدم حلاً له فور استئنافها العمل، وهو عبارة عن محاضرات وفتح نقاشات للأطفال عن التنمر والتوعية به".
كان في بنت خطوبتها النهارده وحاطه ميكب مامتها اول ما شفتها قالتها ايه ده هي مغمقاكي كده ليه والله شكلك وحش وفضلت تتكلم لحد ما البنت عيطت وجايه تقولى هو انا وحشه !؟ وبجد هي كانت زي القمر بس معرفش ليه ام ممكن تقلل من بنتها كده وقدام الناس وتوصلها لكده !!
— Alaa Salah (@SalahAllaa) August 9, 2019
"العالم مكان غير آمن"
يشير الاستشاري الأسري، الدكتور روبرت بطرس، إلى أن التعليقات العنصرية بخصوص الأطفال الرضع لها تأثير سلبي على الأمهات، خاصة أنها تكون خارجة من عملية الولادة، وتحتاج لدعم نفسي، وأن تشعر بأنها أنجبت طفلاً جميلاً للعالم.
ويضيف بطرس لرصيف22: "عندما يحدث أن يتوجه الآخرون بالسخرية من طفلها يسبب ذلك أزمة نفسية، من الممكن أن تصل للاكتئاب، أما على مستوى الأطفال فذاكرتهم تبدأ في التكون من سن الثلاث سنوات، لذلك فإن صاحبة القصة التي تتذكر وقائع تنمر وسخرية، وهي في عمر الأربع سنوات، هي صادقة تماماً، ومنطقية علمياً، خاصة أن السخرية في السن المبكرة توصل دائماً رسائل سلبية جداً للطفل، أن المجتمع لا يتقبله، وهو مكان غير آمن له، وأنه غير محبوب فيه، وهو عكس ما أطلق عليه عالم النفس التطوري والمحلل النفسي الدنماركي، إريك إريكسون، بأن هناك مراحل من النمو النفسي يجب أن يشعر فيها الطفل بأن العالم يحتويه ويتقبله".
"يتكون بداخله نوع من العدوانية تجاه المجتمع".
ونتيجة سماع الطفل للتعليقات المتعصبة فلها تأثيران، بحسب بطرس، إما أن ينتكس ويلتصق أكثر بأمه وأبيه، فتتكون علاقة اعتمادية وغير سوية، وإما أن يتكون بداخله نوع من العدوانية تجاه المجتمع، وتتراكم مشاكله النفسي حتى يخرج لنا شخص كاره للمجتمع وضده.
ويلفت بطرس النظر إلى دوافع تلك التعليقات المحرجة والمسيئة أحياناً للأطفال، قائلاً: "هو شكل من أشكال دوائر القهر، فالمقهور في حياته بشكل أو بآخر، يمارس قهره هذا على الطرف الأضعف منه، الأمر هنا يشبه كثيراً ما يحدث في وقائع التحرش، فهناك حالة من محاولة إثبات التفوق والأفضلية حتى لو لم تكن حقيقية".
وينصح بطرس الأهل بأن يشكلوا درع حماية لأطفالهم، باتخاذ الموقف المناسب بالدرجة اللازمة، وتكون الصحة النفسية للطفل هي الأولوية، يقول: "لا بد من الوعي بأن الأطفال يتذكرون كل شيء، وكل واقعة تظل محفورة في ذاكرتهم بالتفصيل، بل أن يعلموا أن الأثر النفسي للتنمر قد يكون أحياناً أكثر ألماً من الضرب، كذلك أن يكونوا هم مصدر قوة الطفل وثقته بنفسه، وأن يدفعوه للاهتمام بنفسه وشخصيته وثقافته وليس بالجمال الخارجي فقط".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...