رغم أن علي بن بهجت بن محمود بن علي آغا يعود إلى أصول تركية، إلا أن سيرة حياته سيرة مصرية صميمة لمثقف وطني، حاق به ما حاق بأغلبية المصريين من طبقته من مظالم الاحتلال البريطاني الذي بدأ سنة 1882.
كان وقتها في الـ24 من عمره، فعانى معظم حياته كل ما عانته مصر القابعة في نفق احتلال مظلم طويل، لم يستشرف المصريون أول ضوء للخروج منه إلا عند مجيء ثورة 1919.
وعلي بهجت بك هو أول عالم في تاريخ علم الآثار المصري وأول مصري يشغل وظيفة أمين دار الآثار التي يعود الفضل في إنشائها إلى عالم الآثار الفرنسي مارييت باشا (أوغوست مارييت)، في العام 1862. وحتى العام 1915، حين شغل علي بهجت بك موقع أمين الآثار المصرية، مرّ أكثر من نصف قرن كان علم الآثار وأبحاثه خلالها حكراً على العلماء الأجانب غير المصريين.
ويعود الفضل لعلي بهجت بك في استخراج آثار مدينة الفسطاط، عاصمة مصر العربية. كما يعود لمؤلفاته التاريخية ولترجماته الهامة الفضل في التعريف بهذه الآثار، مثل كتابه "أطلال الفسطاط"، وترجمته لكتاب "تاريخ جامع السلطان حسن" وكتاب "فهرست مقتنيات دار الآثار العربية". وبالإضافة إلى ذلك، تتلمذ العشرات من علماء الآثار المصريين والأجانب على يديه.
رغم كل ذلك، ظلت تفاصيل سيرة ابن قرية بلها العجوز، في محافظة بني سويف، والمولود عام 1858 شبه مجهولة لعموم المصريين، إلى أن نشر الناقد والأكاديمي د. أنور لوقا كتاباً عن "رائد البحث في الآثار العربية بمصر".
الكتاب المذكور يحوي "كنزاً" من رسائل علي بهجت بك الشخصية، والتي أرسلها عبر 32 عاماً إلى المستعرب وعالم الآثار ماكس فان برشيم (1863-1921)، أو "وانبرخم"، حسب ترجمة علي بهجت بك لاسم المستعرب السويسري. وأتى عثور لوقا على هذه الرسائل بمحض الصدفة، بعد أن عمل مشرفاً علمياً وأميناً لمحفوظات مؤسسة المستعرب "ماكس فان برشيم" في سويسرا.
إخاء علمي
تبدأ الرسائل الأولى من علي بهجت بك للمستعرب فان برشيم من تاريخ 12 شباط/ فبراير 1887، بصيغ خطاب متحفظة مثل: "عزيزي المحترم"، "حضرة عزيزي المسيو وانبرخم المحترم"، "عزيزي الأكرم"، إلخ، لتتدرج باتجاه خطاب ينضح بالألفة المحببة، مثل "صديقي الأجل"، "صديقي المحترم"، "خليلي الأعز"، إلخ.
وتتدرج موضوعات الرسائل المكرسة للتبادل العلمي كذلك باتجاه مطارحات رفاقية وعاطفية وتناول لشؤون شخصية وأحداث أسرية، مما يُعتاد تبادله بين صديقين. ويدلّ ذلك على توثق عرى إخاء علمي بين الأثريين المصري والسويسري، توطّد عبر انتظام المراسلة والزيارات المتبادلة، حتى صار من المألوف في المراسلات أن ترد عبارة مثل: "سلّم لي على ولادك وأمهم كثيراً وأخبرهم أنني ربما جئتهم هذا الصيف فإنْ كانت لهم مأمورية (حاجة) في مصر فقل لهم يطلبوها مني".
هذا التراسل بين باحثيْن يتبادلان نقاشات رصينة حول الكتابات والنقوش العربية القديمة لم يجعل علي بهجت بك يحجم عن الكتابة بالدارجة المصرية. ويبدو أن فان برشيم كان حريصاً على تعلّم الدارجة وإتقانها نطقاً وكتابةً وتراثاً. في واحدة من رسائله، نقرأ علي بهجت بك يقول له: "الجواب بتاعك العربي مش بطال قوي بس فيه بعض حاجات زي دي: (وكنت زعلان قوي لسبب لزومي أسافر من مصر) الأحسن إنك تقول: وكنت زعلان قوي أكمني انجبرت (كنت مجبور) أو كنت ملزوم على السفر قوام من مصر".
كثيرٌ من رسائل الأثري المصري لـ"رفيقه" ترصّعها الأمثال الشعبية والحكايات المرتبطة ببيئة اللهجة المصرية وأصولها، مع شرح وتفسير مفرداتها. تسرد واحدة مطولة منها حكايات ريفية عن أصل المثل الشعبي: "ولاد الحرام يعرفوا بعض". وتروي رسالة أخرى عدداً من خرافات الجن الشعبية ويكتب علي بهجت بك في ختامها: "وإنْ سألتني عن دائي أقول لك أني كثيراً ما أسمع بالمسألة دي من ناس عقلا لكن ما تخش ليش في دماغ".
"عوّلت على عدم الإقامة في مصر لأني سئمت الحياة فيها بسبب ناسها وغير ناسها وعندي ولله الحمد ما يكفيني للعيش في أي جهة"
في رسالة مؤرخة بتاريخ الثالث من أيلول/ سبتمبر 1887، عندما كان علي بهجت يشغل وظيفة باحث في "الإرسالية الفرنسية"، أي المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، يكتب مشتكياً من ثقل أعبائه المكتبية: "كل ذلك لما تكلم واحد على حاجه ما يعرفش عاقبتها ويقول لك أنا اعمل أنا أسَوّي وييجي في الآخر ما يعرفش لا يروح ولا ييجي.. تقول له يا خي دي بس كانت نفخة أسطبل. يعني زي الحصان لما يطلع من الأسطبل يبقى ينفخ ويرفص ولما يرمح مشوارين يبقى زي الحمار ولا يسواش".
وفي رسالة بتاريخ 21 تشرين الأول/ أكتوبر 1893، يفض علي بهجت اشتباكاً بين كلمتين فصيحة ودارجة وقع عليها فان برشيم في مخطوط: "القرمة تستعمل بمصر في اللسان الدارج لقطعة من الخشب تخينة يقطع عليها اللحم بحيث لا يخلو منها بيت وبهذه الصفة لا أرى مانعاً من إطلاق هذا اللفظ على قطعة من الجبل بطريق المجاز. ويمكن أن تكون "قرنة" بالنون وفي هذه الحالة تكون مستعملة في المعنى الحقيقي لا المجازي".
مثقف في زمن الاحتلال
منذ لحظات وجودها الأولى، عمدت سلطات الاحتلال البريطاني إلى إحكام قمعي لقبضتها على المجتمع المصري، عن طريق مطاردة الوطنيين بالنفي والسجن والفصل من الوظائف والتشريد وتشديد الرقابة. لهذا، لا يرجّح أحد أن يصادف في رسائل شخصية تعود إلى تلك الحقبة حديثاً مباشراً أو غير مباشر في السياسة.
لكن رسائل الأثري الرائد تحفل بإشارات سياسية صريحة لا يمكن إهمال ما تنطوي عليه من الإحساس بالمرارة المكبوتة على المستويين الشخصي والعام.
يكتب لصديقه المستعرب من بلدة التل الكبير دون أن تفوته إضافة تعريف هام لها: "اللي هو محل الواقعة بين الإنكليز والجيش العرابي (المصري)". في تلك الآونة، كان علي بهجت يعمل في قلم الترجمة تحت رئاسة ناظر (وزير) المعارف علي باشا مبارك الذي كان معادياً للعرابيين وللثورة، ويقول في واحدة من رسائله: "ناظر الديوان بتاعنا دلوقتي علي باشا مبارك اللي تعرفه وهو راجل طيب خالص وأحِب إنك تبعت له نسخة من تقريرك".
يعود الفضل لعلي بهجت بك في استخراج آثار مدينة الفسطاط، عاصمة مصر العربية. كما يعود لمؤلفاته التاريخية ولترجماته الهامة الفضل في التعريف بهذه الآثار
وفي رسائل عدة أخرى، يكتب لصديقه السويسري بغضب عارم عن ظلم الموظفين الكبار الأجانب لصغار الموظفين الوطنيين. من ذلك عدة رسائل يسرد فيها الوقائع التي أدت إلى طرده من الإرسالية (المعهد الفرنسي للآثار الشرقية) بسبب أبحاثه المشتركة مع المستعرب فان برشيم. يكتب كأنما يستصرخ ضمير زميله الأوروبي: "حيث أني انفصلت من الرسالة (الإرسالية) التي كنت موظفاً بها بصفة عبد أسير فانظر أخي إلى الحرية الفرنسوية وتحقق أن هذا الأمر لم يوجب عندي أدنى شيء إذ لست قاصراً على نقود الرسالة حتى اتحصل على القوت الضروري".
وفي رسالة بتاريخ 18 نيسان/ أبريل 1899، يكتب: "توجهت بالأمس إلى الكتبخانة (دار الكتب) لأشتغل فيها كالعادة وبين يدي كتاب صبح الأعشى (للقلقشندي) وكتاب المسالك وغيرها. جا أحد خدمة المكتبة وأخد مني جزء من القلقشندي وبعد برهة عاد فأخد باقي الأجزاء فسألت عن السبب فقيل لي: الناظر طلب الكتاب. فعجبت لذلك ثم طلبت مقابلة جنابه للكلام معه.. فقال: إن هذا الموضوع سبقتك إليه وليس باقياً لك شيء تعمله.. فقلت له إن هذا المؤلف يشتغل بمختصر الصبح لا الصبح نفسه فقال هذا عمل غير مفيد. فقلت إني أشتغل باستخراج الألقاب والوظائف ونحوها فقال: وهل تعرف اللغة التركية؟ فأجبته نعم. فقال إنما أقصد اللغة القديمة وهي لغة الجفطاي. فقلت وإنْ لم اعرفها فأعرف مَن يعرفها".
كان علي بهجت يجيد اللغة التركية والفرنسية والألمانية والإنكليزية، لكنه اضطر في النهاية أن يترك للناظر مورتس موضوعه كي يشتغل فيه، ويبحث هو لنفسه عن موضوع آخر.
وتفصح الرسائل الأخيرة عن رغبة راودت علي بهجت طويلاً، لكنه لم يحققها مهما تيسرت: "نعم قد عوّلت على عدم الإقامة في مصر لأني سئمت الحياة فيها بسبب ناسها وغير ناسها وعندي ولله الحمد ما يكفيني للعيش في أي جهة".
وبعد أن حاز على عضوية المجمع العلمي المصري سنة 1900، ألقى الأثري المصري عدة محاضرات قيمة ونُقل إلى دار الآثار حيث أمل أن يصبح بجدارته أميناً لها، لكنه عُيّن في موقع الوكيل تحت رئاسة "مسيو هرتسي بك". ويتعزى عن ذلك بالعمل: "وأنا الآن مشتغل في عمل أحبه كثيراً وقد قرأت المقريزي من أوله إلى آخره وعملت له فهرساً مطولاً لنفسي أي أني أعرف الآن في أي نقطة يتكلم المقريزي عن المعنى الفلاني وأجده بسهولة عند الحاجة".
بعد حوالي 12 عاماً من العمل الدؤوب وفي رسالة بتاريخ 13 كانون الثاني/ يناير 1915، يزف علي بهجت بك لصديقه نبأ تنضيبه أمينا للدار: "وقد نظرت اللجنة في الجلسة الفائتة في من يخلف هرتس فتقرر أن يخلفه على الأشغال الهندسية في الديوان (الوزارة) مسيو بتريكولو ولكن بصفة مؤقتة، أما في دار الآثار فقد تعيّنت نهائياً، يعني أصبحت أميناً لدار الآثار".
بعد كفاح طويل
العام 1919 كان عاماً دخلت فيه إلى قلب العالم الأثري فرحة وطنية عارمة هي ثورة 1919 الشعبية التي وحّدت المصريين على مطلبي الاستقلال والحرية. ومع الفرحة العامة أتت صدمة شخصية أليمة برحيل ابنه محمود في الشهر التالي لشهر الثورة.
كتب بعدها رسالة شكر لصديقه على تعزيته وإجابة عن سؤال له عن حاله بعد الفقد المحزن. الرسالة مؤرخة في 25 نيسان/ أبريل ١٩١٩، والإجابة التي فصلها هي: "أما الفسطاط فعملي فيها قد أتى ولله الحمد مسلياً لي نوعاً شاغلاً معظم وقتي فقد كشفت منها جانباً عظيماً وخططته وأبَنْتُ الطرق والحواري والخوخات (شوارع فرعية) ورسمت على ذلك في خرطة، ثم قرأت ابن دقماق والمقريزي وغيرهما من الكتب التي تكلمت عن الفسطاط". ويختم رسالته بالقول: "عليّ أن استريح بمجرد خلاصي من هذا العمل".
استر تبادل الرسائل بين الأثرييْن حتى انتحار ماكس فان برشيم في السابع من آذار /مارس 1921.
وفي العاشر من أيار/ مايو 1924، نشرت جريدة "الأخبار" المصرية قصيدة رثاء طويلة كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي سبقها تقديم جاء فيه: "رثى أمير دولة البيان شوقي بك فقيد العلم والعاديات المغفور له علي بهجت بك بهذه اليتيمة العصماء التي ستجلى اليوم في حفل تأبينه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...