شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
بعد ثورة عرابي... هكذا انتزع

بعد ثورة عرابي... هكذا انتزع "الأفندية" زعامة الحركة الوطنية من المشايخ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأربعاء 18 ديسمبر 201903:58 م

في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، تمخضت جهود محمد علي باشا في التعليم عن ظهور فئة "الأفندية المصرية" التي ترعرعت في ظل عوامل ساعدتها لاحقاً على حمل راية الزعامة الفكرية والسياسية من المُعمَّمين (المشايخ).

و"الأفندي" كلمة تركية تعني السيد أو الخواجة، ويشترط فيمن يتمتع بهذا اللقب أن يكون من الكُتّاب والعلماء، وكانت تُطلق في مصر على موظفي الدواوين، لكن في ما بعد اختلف مفهومها وامتد ليشمل الذين تلقوا تعليماً عصرياً في المدارس التي أقامها محمد علي وكذلك أعضاء البعثات الخارجية التي أرسلها لتلقي العلم في أوروبا.

واصطُلح على تسمية الأفندية في مطلع القرن العشرين بـ"المطربَشين"، تمييزاً لهم عن أولئك الذين تلقوا تعليماً دينياً وكانوا يلقبون بالمُعمَّمين، إذ كان مرتادو المدارس غير الدينية يرتدون الطربوش.

ويذكر أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر الدكتور أحمد الملا لرصيف22 أن هذه الفئة تشكلت نتيجة موجتين كبيرتين من التعليم: الأولى امتدت من بداية عهد محمد علي حتى نهايته، والثانية كانت في عصر الخديوي إسماعيل، مضيفاً أن غالبية هذه الفئة كانوا أبناء فلاحين، منهم من تلقى تعليمه في المدارس الحديثة التي أقيمت في مصر، ومنهم من ذهب في بعثات إلى أوروبا وتعرف على الأفكار الحديثة وتأثر بالفكر الغربي ونقلها إلى المصريين.

من هؤلاء رفاعة الطهطاوي في مؤلفاته "تلخيص الإبريز في تخليص باريز"، و"مناهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية" و"المرشد الأمين للبنات والبنين".

ويلفت الملا إلى سبب آخر يعتبر أنه ساهم في صعود الأفندية، وهو التوغل الأجنبي، فالخديوي إسماعيل وخلفاؤه حاولوا الاعتماد على هذه الفئة في مقاومة سلطة الأجانب إثر أزمة الديون، فسهّلوا إصدار الصحف وتحديداً في الفترة الأخيرة من عهد إسماعيل، وتولى الأفندية والقراء تحريرها، وهذا ما ساهم في إشاعة وعي وطني لعب دوراً في بلورة توجهات هذه الفئة.

ثورة عرابي... مشاركة من دون قيادة

يمكن القول إن الثورة العرابية (1879 – 1829) كانت أول اختبار سياسي للأفندية. وبحسب لطيفة محمد سالم في كتابها "القوى الاجتماعية في الثورة العرابية"، عانى الأفندية الذين تولوا وظائف حكومية من الظروف التي عانتها مصر تلك الفترة إثر أزمة المديونية، حيث توقفت الحكومة عن دفع رواتبهم لعامين فساءت أحوالهم وأصبحوا على حافة الهاوية.


وفي الوقت نفسه، اتجه ريفرز ويلسون الذين عُين وزيراً للمالية عام 1878 ممثلاً للحكومة البريطانية (طبقاً لنظام المراقبة الإنكليزي الفرنسي على مصر) إلى فصل كثير من الموظفين المصريين في مصالح السكك الحديدية والبريد والمالية وغيرها ترشيداً للنفقات الحكومية، في حين عيّن أجانب بأجور عالية، وهذا ما أثار حنق الأفندية ودفع بهم للمشاركة في الثورة.

بيد أن الأفندية لم يكونوا قد نضجوا وقتها لتولي زعامة الحركة الوطنية في الثورة، فبقيت في يد المُعمَمين مثل محمد عبده وعبدالله النديم وأحمد عليش وحسن العدوي وأحمد العوام وغيرهم، وهذا ما أرجعه الدكتور يونان لبيب رزق في كتابه "مصر المدنية: فصول في النشأة والتطور" إلى أن هذه الفئة حتى أواخر السبعينيات من القرن التاسع عشر كانت أسيرة للوظائف الحكومية، ولم يكن من المتوقع أن يخرج أعضاؤها للعمل السياسي إلا باستثناءات محدودة.

تحولات ما بعد الثورة

أدى إخفاق الثورة العرابية وما ترتب عليه من احتلال الإنكليز مصر إلى تغيرات عديدة دفعت بالأفندية إلى تولي زمام قيادة الحركة الوطنية. بحسب رزق، رأى المصريون أن الثورة التي قادها العسكريون تحولت إلى عمل من أعمال "التمرد والعصيان"، وأن المقاومة التي تزعمها المُعمَمون تحولت إلى عمل من أعمال "التهييج والإثارة" على حد تعبير المدعين في المحاكم التي عُقدت لهؤلاء عقب دخول قوات الاحتلال القاهرة.

أدى إخفاق الثورة العرابية وما ترتب عليه من احتلال الإنكليز مصر إلى تغيرات عديدة دفعت بالأفندية إلى تولي زمام قيادة الحركة الوطنية.

ولم يبق أمام المصريين سوى الأسلوب السياسي والتحدث باللغة التي تجيدها أوروبا التي جاءتهم قوات الاحتلال من إحدى دولها، ولم يكن يجيد هذا الأسلوب سوى الأفندية.

فضلاً عن ذلك، اختارت الحركة الوطنية المصرية تدويل القضية، وكان مصطفى كامل يتجول في أوروبا ممثلاً لهذه الحركة، واتصاله برجال السياسة فيها كان خطوة لم يكن يتقنها سوى المطربشين.

ولا يمكن فصل تقدم المطربشين إلى الصفوف الأمامية عن كثرة خريجي المدارس المتوسطة والعليا بالتزامن مع تحجيم الإدارة الحكومية اتباعاً لسياسة الاحتلال الساعية إلى توفير النفقات، وهذا ما أدى إلى تحرر هؤلاء من القيود الوظيفية التي طالما عرقلت أسلافهم في الفترة السابقة على الاحتلال من الاشتغال بالعمل السياسي، بحسب رزق.

هناك سبب آخر لا يمكن تجاهله يتمثل في انتشار الصحافة السياسية خلال تلك الفترة، بعدما عمدت سلطات الاحتلال عام 1888 إلى تشجيع الصحافيين الآتين من الشام كيعقوب صروف وفارس نمر وشاهين مكاريوس على إصدار صحيفة "المقطم" للدفاع عن سياساتها، فردت الحركة الوطنية بتشجيع الشيخ علي يوسف على إصدار جريدة "المؤيد" عام 1889، ولم يمض وقت طويل حتى أصدر الزعيم مصطفى كامل عام 1900 جريدة "اللواء" لتكون ناطقة باسم الحركة الوطنية الناشئة.

ومن ثم ظهرت زعامة سياسية للمطربشين تجسدت في الصحافيين الذين جاء أغلبهم من خريجي المدارس الحديثة باستثناءات محدودة، وفق قول رزق.

وبحسب الملا، لم تصل فئة الأفندية في تلك الفترة إلى زعامة الحركة الوطنية وإنما كانت شريكاً فيها، فعندما تشكلت الموجة الأولى من الأحزاب في مصر خلال الفترة الممتدة من 1907 حتى 1914، ظهرت ثلاثة أحزاب هي "الإصلاح الدستوري" للشيخ علي يوسف وكان حزباً إسلامياً محافظاً قريباً من توجهات الخديوي عباس حلمي الثاني، و"الأمة" لأحمد لطفي السيد وتلاميذ محمد عبده المعتدلين وكان يمثل الأعيان، و"الوطني" الذي أسسه مصطفى كامل وكان يمثل فئة الأفندية المتعلمين أو شباب الطبقة الوسطى في المدن.

ثورة 1919... تتويج لقيادة المطربشين

لم تتأخر زعامة المطربشين للحركة الوطنية كثيراً، فرغم أن ثورة 1919 كانت ثورة كل قطاعات الشعب بما فيها قطاع مُلاك الأراضي والمثقفين والعمال والفلاحين، بيد أن ما يتفق عليه المؤرخون هو أن قيادتها كانت للمثقفين وعلى وجه التحديد للمطربشين من أصحاب المهن الحرة والطلاب والموظفين.

وبحسب رزق، لعب المحامون دوراً قيادياً سواء على المستوى الفئوي حين تعددت إضراباتهم التي عطلت إجراءات التقاضي، أو على المستوى التنظيمي العام حين تولوا في أكثر من منطقة تنظيم السلطة الثورية مع انهيار سلطة الإدارة في البلاد.

حدث ذلك في أسيوط حين شكلّوا لجنة للمحافظة على الأمن والنظام وطاف أعضاؤها  الشوارع لطمأنة الناس على حياتهم وأموالهم، وكذلك في المنيا حين تكونت لجنة من ثلاثين عضواً أغلبهم من المحامين والأطباء والتجار، وحدث في زفتى في الغربية حين تألفت لجنة برئاسة المحامي يوسف الجندي وأعلنت الاستقلال ورفعت علماً وطنياً.

وكان لأصحاب الطرابيش من الطلاب دور كذلك، فأول أعمال الثورة بدأها هؤلاء حين أضرب أبناء مدرسة الحقوق في اليوم التالي لاعتقال سعد زغلول في 9 آذار/ مارس 1919، وما لبث أن شاركهم طلاب مدارس المهندسخانة والزراعة والطب، ثم امتدت فعاليات الحركة الطلابية لتشمل كل الأقاليم.

رغم أن ثورة 1919 كانت ثورة كل قطاعات الشعب بما فيها مُلاك الأراضي والمثقفين والعمال والفلاحين، بيد أن ما يتفق عليه المؤرخون هو أن قيادتها كانت للمثقفين وعلى وجه التحديد لـ"المُطَربشين"

الفصحى والعامية، دور المرأة، العلمانية... سجالات أثارها الأفندية (أصحاب الطرابيش) في بدايات القرن العشرين وشهدت على تقدمهم للصفوف الأولى على مستوى الحركة الفكرية

وشارك أصحاب الطرابيش من الموظفين في الثورة برغم أن هؤلاء كان محرماً عليهم من قبل مجرد الاشتغال في السياسة سواء الانضمام إلى الأحزاب أو حتى الكتابة في الصحف، واستمر هؤلاء في إضرابهم حتى هُددوا بالفصل.

وذكر رزق أن ثورة 1919 كانت بمثابة التتويج النهائي لزعامة المثقفين ثقافة مدنية للعمل السياسي في مصر، فاحتلوا تقريباً الصدارة في الأحزاب، وشغلوا أغلب مقاعد البرلمان، وتولوا إدارة الصحف، فضلاً عن وجودهم البارز في مقاعد الحكم.

زعامة فكرية

تقدُّم الأفندية للصفوف الأولى ظهر جلياً أيضاً على مستوى الحركة الفكرية في بدايات القرن العشرين عبر مجموعة من القضايا التي شهدت سجالات جدلية بين أوساط المطربشين، حسب ما ذكرت عبير حسن عبد الباقي في كتابها "طبقة الأفندية في مصر في النصف الأول من القرن العشرين".

دارت معركة بين أنصار اللغة العربية الفصحى وأنصار اللهجة العامية الدارجة أدلى فيها عدد كبير من الأفندية بدلوه على صفحات الجرائد والمجلات. وفيما دعا فريق على رأسه أحمد لطفي السيد وسلامة موسى وقاسم أمين إلى نشر العامية وتعميمها قراءة وكتابة والاستغناء عن الفصحى بادعاء أنها لغة جامدة ومعطلة للتقدم، انبرى آخرون للدفاع عن الأخيرة باعتبارها لغة الإسلام والتراث، وكان منهم مصطفى صادق الرافعي والشاعران حافظ إبراهيم وأحمد زين أفندي.

وعندما أصدر قاسم أمين أفندي كتابيه "المرأة الجديدة" و"تحرير المرأة" عامي 1899 و1900، ظهر عدد كبير من المؤيدين لأفكاره خاصة من الأفندية الذين نالوا قسطاً من التعليم وأصبحوا ينتقدون أوضاع المرأة في المجتمع المصري، داعين إلى منحها حقوقاً في التعليم والعمل.

في المقابل، هاجم الكثيرون الدعوة، على رأسهم مصطفى كامل عبر جريدة اللواء التي وجهت سهام النقد إلى شخص أمين وأعماله.

جدل العلمانية

وكانت المعارك الفكرية التي دارت حول الفصحى والعامية وتحرير المرأة بمثابة التمهيد الذي هيّأ الأفندية لصراع جديد على قضية العلمانية المصرية بعد صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرزق عام 1925.

"كانت المعارك الفكرية التي دارت حول الفصحى والعامية وتحرير المرأة بمثابة التمهيد الذي هيّأ الأفندية لصراع جديد على قضية العلمانية المصرية".

بحسب عبد الباقي، كان عبد الرازق واحداً من مدرسة محمد عبده ممن حاولوا أن يصلوا بأفكار الشيخ إلى ما اعتقدوا أنها نهايتها المنطقية، داعين إلى الحد من تدخل الدين في أنظمة المجتمع وقوانينه، واصطلح البعض على تسمية أعضاء هذا الفريق بأصحاب الاتجاه العلماني الإسلامي، وكان من أبرز أنصاره قاسم أمين، وأحمد فتحي زغلول، وأحمد لطفي السيد، ممن عاصروا أستاذهم، ثم الجيل التالي الذي برز خلال العشرينيات من القرن الماضي، وفي مقدّمه محمد حسين هيكل وعلي عبدالرازق وطه حسين.

ودعا عبد الرازق في كتابه لفصل الدين عن الدولة وإعلاء مبدأ المواطنة، وذكر وجود نص في القرآن أو حديث يشير إلى الخلافة كنظام للحكم يلتزمه المسلمون في تصريف شؤونهم، وهذا ما أثار موجة من الجدل بين الأفندية والمثقفين بين مؤيد للدعوة ومعارض لها، وانتهى الأمر بمحاكمة عبد الرازق أمام هيئة كبار العلماء التي أصدرت حكمها في 11 آب/ أغسطس عام 1925 بإدانة الكتاب والفكرة.

وفي العام التالي، كان الأفندية على موعد آخر مع قضية أثارت جدلاً كبيراً بعدما أصدر طه حسين كتابه "في الشعر الجاهلي"، الذي شكك خلاله في أصول الشعر الجاهلي معتمداً في ذلك على مذهب الشك الديكارتي، وهذا ما يعني تأثره بالمذاهب الفكرية السائدة في أوروبا ومحاولة تطبيقها في دراسته.

ومن خلال المنهج نفسه شكك حسين في بعض الأمور الدينية المهمة والثابتة في القرآن الكريم، وفق ما ذكرت عبد الباقي.

وسرعان ما تناول علماء ومثقفون الكتاب بالنقد والنقض، فاعتدل بعضهم والتزم حدود الموضوعية، وغالى بعضهم في حق الكتاب وصاحبه، وتطور الأمر وصولاً إلى مصادرة الكتاب وفصل المؤلف من جامعة القاهرة حيث كان عميداً لكلية الآداب.

الجدير بالملاحظة هو صدور كتب لعدد من الأفندية (بجانب الشيوخ) للرد على الكتاب، منها "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" لمحمد الخضر حسين، و"النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي" لمحمد أحمد أفندي الغمراوي، و"نقد كتاب الشعر الجاهلي" لمحمد فريد وجدي، و"الشهاب الراصد" للمحامي محمد لطفي جمعة أفندي.

وبحسب الملا، شهدت المعركة انتصاراً للأفندية من الطلاب الذين نظموا إضراباً في الجامعة اعتراضاً على فصل حسين، إلى أن عاد محمولاً على أكتافهم تعبيراً عن انتصار هذه الفئة التي كان التعليم طريقها الوحيد للصعود الاجتماعي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image