انطلقت مجموعة "ناجون" بمبادرة من الفنان السوري فارس الحلو. وهي مبادرة تقوم على أن السوريين الموجودين خارج سوريا هم جميعاً ناجون من جحيم المعتقلات الأسدية. وتعنى "ناجون" بمحاربة ثقافة الإفلات من العقاب بكل السبل المتاحة الفكرية والأدبية والفنية والحقوقية والإعلامية، والمساهمة في بناء مجتمع حر.
بعد أن قطع متطرفون رأس تمثال المعري في مدينته الأم معرة النعمان التي كانت في مرمى نيران النظام السوري لسنوات طويلة، اقترح الفنان فارس الحلو إنجاز تمثال للمعري لإعادة الاعتبار والمكانة الرمزية لقامة فكرية وفلسفية وأدبية تعرضت للانتهاك في موطنها من قبل كل الأطراف. وقد قبل النحات السوري عاصم الباشا المهمة على صعوبتها، بعد أن كان قد نجا بدوره من معتقلات النظام وفقد أخاه نمير شهيداً في سجون نظام الأسد.
النحات السوري عاصم الباشا. الصورة تعود إلى الموقع الرسمي لمجموعة "ناجون"
بدأت رحلة تمثال رأس المعري منذ سنوات، بعدما أصرت مجموعة "ناجون" على أن يكون التمثال سورياً، مصنوعاً بأياد سورية وممولاً أيضاً من السوريين. تشرح المجموعة: "تجاوب الكثير من الناجيات والناجين من المعتقلات السورية، ممن يتوقون لترك بصمة ثقافية سورية منيرة في أوروبا، من فنانين وكتاب وأكاديميين وإعلاميين وحقوقيين سوريين ومعهم فلسطينيون ولبنانيون، وموّلوا صنع هذا النصب البرونزي الكبير لإمام العقل الشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري، ليكون أيقونة انتظار السوريين للعدالة والسلام في بلدهم".
الصورة تعود إلى الموقع الرسمي لمجموعة "ناجون"
انطلق العمل على التمثال في العام 2018، وقد تطلب انجازه وقتاً طويلاً وتوفير ورشة تسمح بالعمل على تمثال بضخامته، وأنجزه الباشا في غرناطة بإسبانيا. وتبيّن مجموعة ناجون: "لاختيارنا المفكر والشاعر أبي العلاء المعري ليكون هو موضوع النصب، دوافع وأسباباً تكاد لا تنتهي، لا تبدأ من كون المعري ثورة يتيمة في عصره، ولا تنتهي بكونه رمزاً إنسانياً لحرية التفكير والشك والسؤال، ومثالاً لكرامة المثقف الكوني المتعالي عن الارتهان لأي سلطة كانت. هو أحد أهم رواد الإنسانية على الإطلاق في دعوته إلى مركزية العقل وضرورة النقد الاجتماعي والثقافي". وقد رافق إطلاق مشروع التمثال إطلاق موقع الكتروني للمشروع يتضمن أعمال المعري ودراسات حول سيرته وفكره، كما يتضمن مراحل الإنجاز التي بدأت بالتمويل وانتهت بصب التمثال البرونزي الذي بلغ وزنه طناً ونصف طن وارتفاعه ثلاثة أمتار وربع المتر.
"اختيارنا المفكر والشاعر أبي العلاء المعري ليكون هو موضوع النصب، لا يبدأ من كون المعري ثورة يتيمة في عصره، ولا ينتهي بكونه رمزاً إنسانياً لحرية التفكير والشك والسؤال". مجموعة "ناجون"
بعد أن أنجز الباشا التمثال الذي يطمح منجزوه إلى أن يستقر يوماً في مدينته الأم في سوريا الحرة بديلاً عن التمثال الذي حُطّم، كان لا بد من إيجاد مكان لاستقباله إلى أن تحين لحظة إعادته إلى وطنه. إلا أن جائحة كوفيد عرقلت مهمة المجموعة كثيراً. وبعد البحث والمفاوضات، قررت بلدية باريس أن تستقبل التمثال في مدينة مونتروي التابعة لها. ويمكن تخيل الصعوبات التي واجهت مجموعة "ناجون" لنقل تمثال بهذه الضخامة من غرناطة إلى مونتروي، عدا التعقيدات الإدارية التي جعلت وصول التمثال إلى قاعدته في مونتروي مناسبة تستحق الاحتفال بهذا الجهد الجبار الذي قامت به مجموعة متفانية أصرت على أن تحقيق رؤيتها ممكن.
في الذكرى الثانية عشرة للثورة السورية في الخامس عشر من مارس/آذار، تم تدشين التمثال الذي تستقبله مدينة مونتروي في مداخلها لاجئاً إلى أن يعود يوماً إلى سوريا بعد محاسبة مرتكبي الجرائم وتحقيق الحرية والعدالة لكل مواطنيها. وتلت التدشين كلمات الناجين وأغنية أعدتها الفنانة نعمى عمران خصيصاً للمناسبة، ثم مسيرة صامتة لضحايا الثورة السورية والزلزال، انتهت الأمسية بمائدة سورية من الطعام النباتي لأن المعري كان نباتياً، وبعرض فيلم "ماء الفضة" للمخرج أسامة محمد.
يشكل تمثال المعري نقلة نوعية في الحكاية السورية وفي البحث السوري عن الحرية والعدالة لأنه نصب سيظل حاضراً يومياً في مدينة فرنسية، يذكّر المارة كل يوم بأن مكان التمثال الحقيقي ليس هنا، وأنه ينتظر عودة مأمولة إلى وطن حر وعادل. ولكن هذه العدالة غير ممكنة في عالم الإفلات من العقاب والتصالح مع المجرمين وتطبيعهم واستقبالهم. كما أنه تأكيد على ضرورة الفن والثقافة كسلاح في المواجهة، لأن النجاة المستدامة كما تسميها مجموعة "ناجون" يجب ألا تعتبر العمل الثقافي والفني ترفاً بل حاجة ضرورية لإعادة إنتاج الحكاية والتذكير بتفاصيلها.
تمثال المعري كناية عن ملايين السوريين الذين تشتتوا في بقاع الأرض منتظرين متأملين، بعدما آمنوا بحقهم في الحياة وبحقهم في التفكير الحر والنقدي ورفض الأفكار الجاهزة والبروباغندا التي يضخها النظام السوري بلا توقف، متبعين مقولة المعري الشهيرة: "لا إمام سوى العقل".
الفنان السوري فارس الحلو. الصورة تعود إلى الموقع الرسمي لمجموعة "ناجون"
كما أن تنفيذ تمثال بهذه الضخامة كان خياراً فنياً شديد الأهمية لأن حجم التمثال يوحي بحجم الحكاية التي يحملها، والتي حمّله إياها الفنان الباشا باسم ملايين السوريين، وبحجم الآلام التي مرت والتضحيات التي دفع ثمنها وما زال الشعب السوري في سبيل حريته وكرامته، كما أن تأثيره على المارة كان ليكون مختلفاً، لو لم يكن التمثال بهذا الحجم.
إن مررتم يوماً بمدينة مونتروي الفرنسية، زوروا تمثال المعري وتذكروا حكايتنا الطويلة
يمثل التمثال أيضاً محاولة جادة للتفكير بقدرة السوريين على ابتداع أشكال جديدة وفنية للتذكير بحكايتهم القاسية وبعدالة قضيتهم في مواجهة لا مبالاة تكاد تعيد النظام السوري إلى دائرة الاعتراف الدولي. ولعله إثبات على قدرة السوريين على الإنجاز بمعزل عن الجهات الممولة ورغباتها، بتكافلهم وتطوعهم بالوقت والجهد والفكر.
سيبقى تمثال أبي العلاء المعري شامخاً منتظراً عودته، كما ينتظر ملايين المهجرين عودتهم إلى وطنهم، فإن مررتم يوماً بمدينة مونتروي الفرنسية، زوروا تمثال المعري وتذكروا حكايتنا الطويلة، التي بدأت بصرخات حرية على أبواب الجامع العمري في درعا، وبهتافات الحناجر أمام ساعة حمص وفي ساحات حماه ودير الزور وإدلب وحلب. وطالبوا معنا بقليل من العدالة وبمحاسبة المجرمين كي لا تتكرر الجريمة، وكي لا تستمر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...