كنص أدبي يتمحور حول العالم الآخر بغموضه، وألغازه اللانهائية، جاءت "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، محملة بظلال هذا العالم، بل بأعماقه، فبدت وكأنها قطعة منه. ومن ثم، اشتهرت "رسالة الغفران" التي عُدّت أعظم أثر في النثر العربي، بأنها الرسالة اللغز، وفي قولٍ آخر بـ"الرسالة الخطرة".
هذا الغموض المحكم، الذي تحقق في "الغفران" عبر بنائها الفني، وأبعادها الفلسفية والدينية، وكذلك البعد اللغوي، فتح باب التأويلات على مصراعيه، فتعددت القراءات والدراسات النقدية قديماً وحديثاً حول هذا النص الفريد محاولة فكّ شفرات ألغازه، وتذويب غموضه، لكن المهمة كانت ولا تزال عسيرة، فـ"رسالة الغفران"، نصّ عصي على التأويل النهائي، لأنها محملة برموز العالم الأخروي المجهول، وذلك منحها القدرة على الخلود وعلى التحول اللانهائي، فتبرز وتخفي في ذات الوقت الأفكار العميقة. وبالطبع لا يُمكن قراءة "رسالة الغفران" بمعزل عن دراسة كاتبها أبي العلاء المعري أحد أعظم شعراء ومفكري العرب، أو بمعزل عن حياته، التي عاشها – وفقاً لمقولة شائعة- رهين المحبسين: العمى، والبيت.
وكان عميد الأدب العربي طه حسين، والذي يُعرف أيضاً بـ"معري القرن العشرين"، يُقرّ بالصعوبات التي يواجهها الباحثون حين يتصدّون لقراءة "رسالة الغفران"، ورأى أن قارئ الغفران يجب أن يتحلى بـ"دقة الملاحظة، وحذق الفطنة، وبُعد نظر، ونور بصيرة، وعليه أن يدرس روح الكاتب فيحسن درسه ويعرف أغراضه". أما المستشرقون، فقد مضوا بلغز الغفران خطوة أبعد، إذ أقرّ ويليام جيب، بصعوبة الانتهاء إلى آراء قاطعة: "إن قضية الغفران لم تُحلّ بعد. فما الذي كان يعنيه أبي العلاء على وجه الدقة من رسالته؟".
أدب الرحلة إلى العالم الآخر
حاولت أستاذة الأدب بجامعة عين شمس، الدكتورة منى طلبة، في كتابها الجديد "أبو العلاء وبراندان"، الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، الإجابة عن سؤال ويليام جيب الصعب، وتأويل نص الغفران، تأويلاً جديداً، عبر النظر إلى "رسالة الغفران" بوصفها نموذجاً "لأدب الرحلة إلى العالم الآخر"، ووضعها في مقارنة مع سائر نصوص هذا النوع من الأدب بصفة عامة، ورحلة القديس براندان ("الجنة الأرضية") بصفة خاصة، بوصفها نصاً موازياً لها في الثقافة الغربية.
استعد براندان للرحلة، فقام بإعداد سفينة بمعاونة أربعة عشر راهباً اختارهم لمرافقته في الرحلة. وعند الإقلاع جرى نحو السفينة رهبان ثلاثة آخرون يرجون صحبة الأب في هذه الرحلة المقدسة، فقبِل براندان على مضض، لأنه كان يعلم بسوء المصير الذي ينتظرهم هناك
وعلى مدار ستة فصول، خاضت منى طلبة، مغامرةً بحثية ونقدية مدهشة، واستندت إلى كمّ هائل من الدراسات الأجنبية ، حيث خلت الثقافة العربية من الدراسات والأبحاث التي تخص أدب الرحلة إلى العالم الآخر، رغم زخمها بالعديد من النصوص التي تنتمي إلى هذا النوع من الأدب.
وتستند منى طلبة إلى هِرمان بريت، في تعريفه لأدب الرحلة إلى العالم الآخر، حيث يقول: "الكتابة الأخروية في مجموعها تعرض للمجهول عن طريق المعروف، وهي تركب اللاواقع مع الواقع من خلال التماثلات التي تُقدمها بينهما. هكذا يبدو العالم الآخر في هذه الكتابات كعالم أرضي مقلوب ومواز لعالم الحياة الدنيا. إذن لهذا النوع الأدبي علاقة وثيقة بالواقع وبالمجتمع الذي ينشأ فيه، قد يكون تعبيراً عن الأمل في طفرة جماعية جديدة، أو عن إرادة أخلاقية وروحية لازمة لتوحيد المجتمع أو إعادة تنظيمه وفقاً لمبادئ جديدة".
وهكذا، بحسب منى طلبة، يرتبط الأدب الأخروي بالحياة في انتقالها إلى الموت ثم الحياة في ما بعد الموت؛ فالرحلة الأخروية رحلة شديدة الخصوصية والتعقيد تلتحم فيها حياة الفرد بالجماعة وبالعالم منذ البدء حتى اللانهائي، توجهها الرغبة في الاتصال المباشر بالمطلق. وتُقسم الباحثة هذا النوع من الأدب إلى نصوص أسطورية، ودينية، وإنسانية، وهذه النصوص تمتد على مساحة زمنية طويلة تصل إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد.
وينتمي نصّا "الغفران"، و"الجنة الأرضية"، إلى النصوص الإنسانية، وهي –كما تقول طلبة- تُنسب إلى مؤلف بعينه، وتستلهم النصوص الأسطورية والدينية، أو النصوص المعاصرة لها، لتقديم وجهة نظر خاصة بالمؤلف. ومن ثم، قامت الباحثة بعرض وافٍ ومكثف لعدد هائل من هذه النصوص، ومنها ما ينتمي إلى الأدب الجنائزي المصري القديم مثل: الدراما المنفية، متون الأهرام، رحلة الشمس، كتاب الموتى، والخروج إلى النهار، وكذلك تناولت ملحمة جلجامش، وبعض الأساطير الفارسية واليونانية، ونصوص الوحي التي تتمثل في النص القرآني وحديث الإسراء والمعراج، كنصين رئيسين يُشكلان مفهوم العالم الآخر في الإسلام، ورؤيا القديس يوحنا، التي تُعد المصدر الرئيسي للعالم الآخر في التراث المسيحي، وسفر النبي دانيال وحزقيال وأخنوخ، التي تشكل العلامات الرئيسة في التصور اليهودي للعالم الآخر.
المقارنة بين رسالة الغفران ورحلة براندان قامت على عدة مقومات، منها أن النصين ينتميان إلى نوع أدبي مشترك وهو أدب الرحلة إلى العالم الآخر
والمقارنة بين رسالة الغفران ورحلة براندان، قامت على عدة مقومات، منها -بحسب الباحثة- أن النصين ينتميان إلى نوع أدبي مشترك وهو أدب الرحلة إلى العالم الآخر، وكذلك ينتميان إلى العصر الوسيط الذي ازدهر فيه هذا النوع من الأدب بصفة خاصة، كما أنهما يشتركان في خصيصة تميزهما عن سائر نصوص الرحلة إلى العالم الآخر، وهي ازدواج الحياة الواقعة بالحياة المتخيلة.
رحلة القديس براندان
سانت براندان، هو رجل دين وبحار أيرلندي عاش في القرن السادس الميلادي. ذاعت شهرته كبحار ومستكشف ماهر، إذ يُعتقد أنه قام بالفعل برحلة بحرية إلى إسكتلندا، وهناك من يعتقدون أنه كان من أوائل المكتشفين للقارة الأمريكية، وهذه الحكايات التي تُنسب إلى براندان، وتجمع بين الواقع والخيال قد سجلت في ملحمة تحكي رحلة القديس برندان البحرية إلى الجنة الموعودة للقديسين. وترجع أقدم نسخة لهذه الملحمة التي تروى عن برندان إلى عام 950. وفي أوائل القرن الثاني عشر الميلادي، أعاد الدون بنديت روايتها وكتابتها، وترجمت إلى مختلف اللغات حتى أصبحت جزءاً رئيساً من الفلكلور الأوروبي.
وتحتوي دراسة منى طلبة، على أول ترجمة عربية لرحلة براندان، واعتمدت في ترجمتها على نسخة المخطوطة التي توجد بالمتحف البريطاني باسم "الرحلات العجيبة للقديس براندان بحثاً عن الجنة الأرضية، ملحمة شعرية من القرن الثاني عشر الميلادي".
وتحكي طلبة أن براندان يرجع نسبه إلى سلالة ملوك أيرلندا، ولكنه زهد في جاه الملك، ونذر نفسه للرهبنه، وترقى في المناصب حتى صار قساً يتكفل برعايته آلاف الرهبان الذين اتخذوا من صلاحه مثلاً وقدوة، وفي يوم من الأيام، شعر براندان برغبته في رؤية الجنة، مقرّ آدم الذي طرد منها لخطيئته، وكذلك رغبته في رؤية المكان المخصص للكفار وللمؤمنين في الآخرة، فعكف على دعاء الله حتى يُحقق له مراده، ثم توجه للاعتراف أمام القس "بارنت" الذي بشره بإمكان الوصول إلى الجزيرة الجنة المخصصة للقديسين وحدهم، فقد وصل هو نفسه إليها، وأخبره أن هذه الجنة تقع بالقرب من جنة الآخرة التي سوف يُناهزونها بعد الموت.
استعد براندان للرحلة، فقام بإعداد سفينة بمعاونة أربعة عشر راهباً اختارهم لمرافقته في الرحلة. وعند الإقلاع جرى نحو السفينة رهبان ثلاثة آخرون يرجون صحبة الأب في هذه الرحلة المقدسة، فقبِل براندان على مضض، لأنه كان يعلم بسوء المصير الذي ينتظرهم هناك.
وكان براندان قد قدر أربعين يوماً لرحلته، لكنها استغرقت سبع سنوات، واجهوا خلالها الكثير من المصاعب، ومرّوا على قصر مهجور من البلّور، وعلى جزيرة النعاج والحوت، وجنة العصافير وجزيرة إيبل، والتقوا فيها بنظائرهم من القديسين والرهبان، بعد ذلك مضوا إلى البحر حتى هاجمتهم الوحوش البحرية، ولكن الرب قد نجاهم، ثم دفعتهم الريح إلى أرض قاحلة هي أرض جهنم، ليشاهدوا عذاب الكافرين والهالكين، وكذلك عذابات يهوذا، حتى مضت السفينة نحو الجزيرة التي يقطنها بولس الزاهد، ليصلوا منها إلى الجنة المرصعة بكافة أنواع الجواهر، ويستمعوا إلى شدو الملائكة، لكنهم عادوا ولم يمكثوا فيها، حيث لم يكن مسموحاً لهم بالإقامة، فعادوا حاملين معهم الجواهر كدليل على وصولهم إلى الجنة.
ماالذي تقوله لنا رسالة الغفران؟
عاش أبو العلاء المعري في العصر العباسي، وكتب رسالة الغفران في القرن الحادي عشر الميلادي، وتتكون من رسالة ابن القارح لأبي العلاء، وقصة الغفران، وتتضمن رحلة ابن القارح بين الجنة والنار، وهذا هو القسم التخييلي العجائبي في الرسالة، حيث يلتقي ابن القارح بسكان الجنة والنار من الشعراء والأدباء، ثم تختتم الرسالة بجواب أبي العلاء. وهي نص ملغز، سواء في البناء الفني، أو على مستوى اللغة، ومثير في خياله الجامح، وفلسفته المعجزة. واتبعت منى طلبة المنهج التأويلي في سبيل تقديم قراءة جديدة لرسالة الغفران، حيث رأت أن القراءات السابقة للرسالة، اهتمت بالكشف عن إيمان أو زندقة أبي العلاء، أكثر من التركيز على فهم ما تعنيه رسالة الغفران.
بحسب منى طلبة يرتبط الأدب الأخروي بالحياة في انتقالها إلى الموت ثم الحياة في ما بعد الموت؛ فالرحلة الأخروية رحلة شديدة الخصوصية والتعقيد تلتحم فيها حياة الفرد بالجماعة وبالعالم منذ البدء حتى اللانهائي
ومن خلال هذا المنهج التأويلي، وكذلك مقارنتها بنص "الجنة الأرضية" لبراندان، بدت "رسالة الغفران" لمنى طلبة "نصاً من أروع الآداب العالمية الخاصة بالرحلة إلى العالم الآخر، ونموذجاً لأرقى ما وصلت إليه الحضارة الإسلامية على المستويين الشكلي والمضموني؛ على مستوى الشكل تميز بناء الغفران بالتعقيد والحداثة إذ تعددت الشخصيات والأصوات والمشاهد. وعلى مستوى المضمون كانت رسالة الغفران النص الوحيد الذي ساوى بين جميع الأديان، كما ساوى بين سكان الجنة والنار، لتبدأ الجنة من منطقة وسطى بين الخطيئة والسُّبل المختلفة لتجاوزها. كما كانت رسالة الغفران النص الأخروي الوحيد الذي قدم نقداً لاذعاً للذات وللثقافة الإسلامية، حيث كان أبو العلاء مدركاً لهذا الوعي الزائف للنص الديني القائم على ثنائية الوعد والوعيد، والتصور الحرفي للجنة والنار، وهذا الوعي الزائف هو ما أراد تحطيمه من خلال رسالة الغفران".
رؤى غير تقليدية للعالم الآخر
ورأت طلبة أن براندان قدم النموذج المثالي للقديس، فيما قدم أبو العلاء النموذج الواقعي للأديب من خلال شخصية ابن القارح، الممتلئة بالتناقضات ونقاط الضعف، ومن ثم توصلت إلى أن القديس براندان كان يهدف من رواية حكايته إلى تكوين الأتباع وفرض نفسه كنموذج على البشر، أما أبو العلاء فقد كان يهدف من رواية الرحلة إلى ردّ الفرد إلى ضميره وإعمال العقل، والاجتهاد في الحياة، حتى لا يكون دخوله الجنة مجانياً.
وبشكل عام يُمكن النظر إلى رسالة الغفران كنص مناهض للتصور الإسلامي الراسخ عن العالم الآخر، فأبي العلاء صاغ هذا العالم من خلال رؤيته لواقع المسلمين في عصره، ورؤيته للعالم بتعقيداته، وكذلك طموحه في التغيير. وكان يرى أن هذا العالم الآخر ليس بهذا التطرف السافر بين جنة المسلمين ونار الكفار، كما يُظهره الفقهاء، وطمح عبر مغامرته اللغوية إلى الوصول إلى رؤية مغايرة لهذا العالم.
وتُظهر طلبة من خلال المقارنة، بساطة نص "الجنة الأرضية" في مقابل التعقيد والتركيب في نص "رسالة الغفران"، لكنها ترى أن النصين، يُقدمان رؤى غير تقليدية للعالم الآخر؛ فواحدة تجوب البحار، والثانية تغور في أعماق اللغة، والبطل ابن القارح في رسالة الغفران، يعتمد على كونه أديباً، في حين يعتمد براندان في رحلته على مهارته في الإبحار، ليغيرا معاً التصور التقليدي الأيديولوجي لهذا العالم كما تَمثّل في مجتمعيهما.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا