"حدثْني تفصيلاً عن العلاقة المريبة بينك وبين أبى العلاء المعري"؛ هكذا ألقى الصحافي عصام الغازي سؤاله في وجه نجيب سرور، ليجيبه: يعجبني تعبيرك "المريبة". أجابه نجيب وهو "يتنهّد" همّاً كما وصفه الغازي في الحوار الذي نُشر في مجلة الدوحة بعد وفاة صاحب "الأميات" في 1978 بأشهر قليلة.
كانت إجابة سرور النهائية لمحاوِره أن تلك "العلاقة المريبة" محاولة لإنصاف الرّجل من مخالب باحثينا ودارسينا ودكاترتنا! برغم أن المستشرقين والمستغربين يفهمون سرَّ الرجل جيداً، ولأن أساتذتنا لم يفهموا سرَّ الرجل جيداً، أو فهموه ولم يحاولوا أن يقولوا ما يعلمون أو بعض ما يعلمون، وهكذا ظلَّ الرجلُ مفترى عليه حتى كتابة هذه السطور، إذاً هي محاولة للإنصاف، ونوع من الوفاء.
كان نجيب سرور يقصد بقوله هذا بالطبع طه حسين وعباس محمود العقاد اللذين تمنى أن تنشب المعركة بينهما بشكل كامل، ورأى أنها كانت ستنتج ثماراً غاليةً، غير أن العقاد آثر ألا يكرِّر الردَّ على طه حسين، ولكن نجيب اعتبر أن هذا الصدام قد تمّ بالفعل، ولم يكتفِ بذلك، بل قرّر أن يقدّم تراث أبي العلاء المعري من منظور أقرب، بل وتجرأ على أن يخطّئ الاثنين، ويسخر من بعض آرائهما سخريةً مبطنة وظاهرة.
وفي الحقيقة فإن علاقة نجيب سرور بأبي العلاء لم تكن مريبةً بقدر ما كانت حقيقية، إلى الدرجة التي تجعلنا نراجع كلَّ ما قُدِّم عن أبي العلاء الذي ارتبط اسمه بطه حسين وتوفيق الحكيم، بينما لم يرتبط اسمه قطّ بنجيب سرور الذي صنع نسخته الخاصة من تراث أبي العلاء المعري.
لم تكن علاقة نجيب سرور بأبي العلاء المعري مريبة بقدر ما كانت حقيقية إلى الدرجة التي تجعلنا نراجع كلَّ ما قُدِّم عن أبي العلاء الذي ارتبط اسمه بطه حسين وتوفيق الحكيم، بينما لم يرتبط اسمه قطّ بنجيب سرور الذي صنع نسخته الخاصة من تراث أبي العلاء المعري
بدأت القصة حين كتب العقاد عن "رسالة الغفران" للمعري أنها "نمط وحدها في آدابنا العربية وأسلوب شائق ونسق ظريف في النقد والرواية وفكرة لبقة لا نعلم أن أحداً سبق المعري إليها"، وهو ما لم يغضب طه حسين، ولكن العقاد في المقال ذاته كتب: "أما أن يُنظر إليها كأنها نفحة من نفحات الوحي الشعري، على مثال ما نعرف من القصائد الكبرى التي يفتن في تمثيلها الشعراء والقصص التي يخترعونها اختراعاً... فليس ذلك حقاً"، وهو ما جعل طه حسين يردّ عليه بمقال استخدم فيه لفظ العامة "سنة سودة" في واحدة من نوادر عميد الأدب العربي.
موقف أبي العلاء من النباتيين ومبدأ التقية
في مقال له بعنوان "أبو العلاء بين الترغيب والترهيب" نُشر في مجلة الآداب في عام 1977، أوضح نجيب سرور أن أبا العلاء تمّ استدراجه فعلاً بشكلٍ ما إلى الفخ المنصوب من قبل داعي الدعاة الفاطمي، والذي يمثل هنا الدينَ في صورته الرسمية، واندفع أبو العلاء وقتها بطبيعته العنيدة يدافع عن النباتيين، ويثير قضايا كان يمكن أن تطيح برأسه في عصر المذاهب والطرائق والشيع، ولكن الأهم من ذلك أن أبا العلاء يختم رسالته بقوله: "ومما حثني على ترك أكل الحيوان أن الذي لي في السنة نيف وعشرين ديناراً، فإذا أخذ خادمي بعضَ ما يجب، بقي لي ما لا يعجب، فاقتصرت على فول وبَلسُن وما لا يعذُب على الألسن ".
استخدم أبو العلاء المعري هنا مبدأ "التقية" حين أرجع انتماءه إلى النباتيين إلى فقرِهِ وعدم استطاعته التحصّلَ على اللحوم، وهو ما رآه سرور موقفاً من الممكن بل والواجب على الكاتب والمثقف في كلّ زمن أن يتخذه، وأن أبا العلاء لمدةٍ تزيد عن أربعين عاماً من عمره لم يكن يمارس الزهد -وإن كان قد مارسه-، ولا لكي يعذب نفسه على طريقة الماسوشيين وإن كان قد عذبها، ولا لينظر إلى العالم من أعلى ومن بعيد، ولا لأن يقف موقف اللامبالى من قضايا عصره، وقضايا الناس، وإنما لكي ينظم حركةً سرّيةً باطنية فريدة من نوعها تنسف جميع الحركات الباطنية في عصره.
ويدافع سرور عن تنظيم أبي العلاء لهذه الحركة السرية، لأنه شرع في ذلك بعد أن حُدِّد لقاء للمواجهة مع اليهود، خاصة ومع الماسونية (الدين السري لليهود) منذ السبي الأول في بابل بألف عام. ويرى سرور أن هذا الموقف ليس الوحيد الذي لم يُفهم فيه كلام أبي العلاء على التأويل الصحيح، فما يقصده المعري هنا هو مواجهة الفكرة بالفكرة، وبالتالي لم يكن يصرح في رسائله مع داعي الدعاة بكلّ ما يعتنق من أفكار.
يقول سرور: "إذن لقد كان الرجل إيجابياً وثورياً إلى هذه الحقيقه -أو ربما أدركها كثيرون- ومع ذلك ظلوا يفترون على الرجل ويتهمونه بالتشاؤم والزندقة، هو الذي يقول: لو قيل لم يبق سوى ساعة/ أمّلت ما تعجز عنه سنة".
اندفاع أبي العلاء المعري بطبيعته العنيدة في دفاعه عن النباتيين أثار قضايا كان يمكن أن تطيح برأسه في عصر المذاهب والطرائق والشيع
وذلك بعد أن حدد اللقاء بينهما، وهو لقاء المواجهة مع الأعداء، أي مع اليهود خاصة ومع الماسونية (الدين السري لليهود) منذ السبي الأول في بابل بألف عام، لكنه دوماً لم يكن يُفهم كلامه على التأويل الصحيح، فما يقصده المعري هنا هو مواجهة الفكرة بالفكرة.
هذا أيضاً أشار إليه سرور في مقدمة "لزوم ما يلزم" للمعري: "ولحبر اليهود في دره التوراة فنّ والهم في التدبير"، فهو يدعو بهذا إلى أن يكون لنا أيضاً فنّ في دراسة تراثنا وتراث أعدائنا والتراث الإنساني كله، بما فيه تراث أبي العلاء نفسه، أو أن نكتشف "الفن" الذي يدرس به الآخرون أيّ تراث، فأبو العلاء إذاً يعطينا سرّه حين يعطينا سرَّ الآخرين، ويعطينا المفتاح إلى عالمه الشفري.
وسواء نجح أبو العلاء في أن يخفي اعتناقه للفكر النباتي أم فشل في ذلك، فإن غرض داعي الدعاة لم يتغير، واستمر في تكتيكه الثعباني الماكر لكي يستدرج أبا العلاء، ولمّا لم يجد منه نتيجة، انتقل من الحوار الضمني إلى المصارحة المباشرة ليعرض غرضه الأصلي على رهين المحبسين فيقول في إحدى رسائله إنه راسل السلطان طالباً منه أن يوفر لأبي العلاء المستوى المادي الذي يوفر له رغدَ الحياة ومنها الطعام بالطبع، فيقول له: "ولقد راسلتُ مولاي السلطان أن راسل مولاه السلطان تاج الأمراء حرس الله عزه أن يتقدم بإزاحة العلة، ومراعاته على الإدرار والدوام ليتكشف عنه غاشية هذه الضرورة...."، لكن أبا العلاء فطن للغرض الماكر ورفض عرضه إجمالاً.
أي أن تلك المناورات بين أبي العلاء وبين داعي الدعاة هي مناورات بين نمطي الفكر التنويري والنصوصي الأصولي والمستمرة حتى يومنا هذا، وغالباً ما يكون لتلك المناورات وجه آخر غير الظاهر على السطح، ويرى نجيب سرور أن موقف أبي العلاء هنا هو موقف العبقرية والتحدي والصبر والإصرار ومواجهة كلِّ الصعوبات وكل قوى القهر والترغيب، إضافة إلى أن ذلك كان على الحافة بين عصر وعصر.
رسالة الغفران كنصٍّ سياسي
في مقال آخر له، قدم نجيب سرور فهماً خاصاً لرسالة الغفران للمعري، فرآها عملاً سياسياً قبل أن تكون أي شيء آخر، والكلام فيها ضرب من ضروب السياسة، وخوض في صميمها في كلِّ عصر. وكيساريّ عتيد رآها سرورُ خطةَ عملٍ، أو بالتعبير الحديث "مانيفستو"، وأنه في هذا الجانب تحديداً تكمن خطورتها وخطورة الحديث فيها.
وصل إيمان نجيب سرور بأن رسالة الغفران نصّ سياسي إلى درجة أنه أسقطه على الواقع فشبّه صمت العقاد عن الردّ مرة أخرى على طه حسين وانتهاءهم إلى الصمت عن المسألة بحالة اتفاق داعي الدعاة وأبي العلاء وياقوت علي الصمت أيضاً، ورأى أن ذلك يمثل فارقاً جديداً بين الطبيعة العقلانيه التي يمثلها العقاد وأبو العلاء، وبين الطبيعة الفنية لطه حسين، وأكد سرور في مقاله أن ظلم النقاد للعقاد يتجلى في موقف آخر، حيث اعتاد النُّقاد على وصفه بالانغلاق والراديكالية، بينما هو في رأي نجيب سرور خيرُ من فهم نصّ أبي العلاء المعري في "رسالة الغفران".
قدم نجيب سرور فهماً خاصاً لرسالة الغفران للمعري، فرآها عملاً سياسياً قبل أن تكون أي شيء آخر، والكلام فيها ضربٌ من ضروب السياسة، وكيساريّ عتيد رآها سرور خطةَ عمل أو بالتعبير الحديث "ما نفستو"، وأنه في هذا الجانب تحديداً تكمن خطورتها وخطورة الحديث فيها
في الماضي انسحب أبو العلاء من مناقشة داعي الدعاة خطوةً بعد خطوة، وفي كلّ مرة تجددت الرسائل بينهما كان يريد للمناقشة أن تنتهي، ويريد لنفسه النجاة من الفخ المنصوب له -في ما كان يظن- ويريد لداعى الدعاة أن يتركه وحاله، وألا يجرّه إلى حديث لا تحمد مغبّته، خاصة وأن الظاهر أن داعي الدعاة قد أحسن فهم أبي العلاء.
وكذلك هذا الصمت العقادي كان السبب في حرمان الأدب العربي من خصومة ثرية كان يمكن أن تنشأ بين العميدين العقاد وطه حسين، وقد استطاع طه حسين أن يتكلم باستفاضة فنية، حيث عجز العقاد عن الكلام في دروب السياسة التي تفتحها أمام القراء. إذاً فقد هرب العقاد من المناقشة، كما هرب أبو العلاء من داعي الدعاة في عصر كان ممتلئاً بالفتن والفرق والاختلافات.
نجيب سرور يسخر من فهم طه حسين والعقاد للمعرّي
طه حسين رأى أنه من العجب أن يقع العقاد في مثل هذا المُنكَر من القول! ومدَحه بما يشبه الذمّ بأنه كاتب جيد، لكنه مخادع، وهو -أي طه حسين- لن ينخدع له، مهما كلّفه الأمر. وأقرَّ طه حسين وقتها أن المعري وصل لدرجةٍ من الإتقان جعلت الأوروبيين أنفسهم في عصرنا الحديث يقولون إن دانتي شاعر الإيطالية كان من الصعب أن يكون قد كتب "الكوميديا الإلهية" بدون تأثّر بأبي العلاء المعري.
في البداية اعتبر سرور أن هذا الصدام هو تطبيق عملي للصدام بين الطبيعة العقلانية (العقاد) وبين الطبيعة الفنية (طه حسين)، وبرغم أن سرور كان يشهد لطه حسين بتقديم ما هو فني على ما هو عقلاني وأصولي، إلا أنه انحاز إلى العقاد، وشهد له بأنه فهم من منجز أبي العلاء المعري ما عجز عن فهمه طه حسين الذي يشكّك في أنه قد فهم أبا العلاء أصلاً، وتحديداً رسالة الغفران.
لم يقتنع سرور بأن العمى وحده يصلح أن يمثّل رابطاً بين طه حسين وأبي العلاء، فقد يشترك اثنان في عاهة دون أن يشتركا في الفكر، ولم يتخلص نجيب سرور من صدقه الحادّ حين وصف بالسذاجة كلّ من يتصور ذلك، وأن قراءة واحدة متأنية لطه حسين ستدلّل على أنه أبعد كثيراً من أبي العلاء في الفكر وفي الطبيعة وفي الآفاق!
ورغم أن نجيب سرور في النهاية شهد لصالح العقاد بأنه أقرب إلى فهم لرسالة الغفران من طه حسين، إلا أنه لم يستطع التحكم في طبيعته الناقدة اللاذعة، فلم يسلم العقاد من انتقاداته، وبخاصة قول العقاد "إنها ليست قصيدة من القصائد الكبرى (التي يفتن في تمثيلها الشعراء) وليست قصة"، ليعلق نجيب سرور عليه: "نعم! ولكن يا أستاذنا العقاد ما هي وما عساها أن تكون؟ هنا، كأنما اتفق العقاد مع نفسه على الصمت الذي اتفق عليه داعي الدعاة وأبو العلاء أو المؤرخ ياقوت لأسباب في نفس العقاد أو في نفس أبي العلاء أو في نفس ياقوت أو في نفس يعقوب: فما عساها تكون بواعث هذا الصمت؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومينحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 3 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين