مع إغلاق فصل من فصول مسلسل "صراع الهوية"، ومخلفات "الإرث الاستعماري" لفرنسا في الجزائر، يُفتح فصل جديد للتذكير بالجراح القديمة-الجديدة التي تقاوم لدى الجزائريين النسيان، وتساهم في استعادة هذا الإرث. فبعد إعلانٍ على موقع "أنتير أونشتير" للمزادات عن طرح مخطوطة جزائرية للبيع تعود إلى الحقبة الاستعمارية، وتحديداً إلى بداية أربعينيات القرن التاسع عشر، في مزاد علني كان من المقرر إجراؤه في الحادي عشر من آذار/ مارس الجاري في مدينة فان الفرنسية، بسعر افتتاحي يتراوح بين 300 إلى 400 يورو، أثيرت ضجة كبيرة في أوساط الشتات الجزائري في فرنسا، لأن الأمر امتداد للسرقة الفرنسية للتراث الثقافي الجزائري.
طالب المحتجون بإيقافه وإعادة المخطوطة إلى الجزائر، وسرعان ما استجاب الموقع سريعاً لتلك الضغوط وأعلن على لسان مدير المزادات جاك فيليب رويلان، أنه بفضل حشد الجزائريين الرافضين بيع المخطوطة والمعبّرين عن استيائهم، تم سحبها، مضيفاً أنه سيضمن تسليم هذا العمل إلى القنصلية في مدينة نانت حتى ينتهي بها المطاف في متحفٍ في الجزائر.
فما هو مضمون هذه الوثيقة-المخطوطة التي أثارت غضب الجزائريين قبل أيام؟ ومن هو صاحبها؟ وما أهميتها التاريخية بالنسبة إلى الجزائر؟ وكيف تمت سرقتها ومن ثم تهريبها إلى باريس سنة 1842؟ وما أبرز ردات الفعل الرافضة للبيع؟
لماذا لم تتدخل الحكومة الجزائرية لحماية مخطوطاتها التاريخية حتى الآن؟
ليست المرة الأولى
ذكرت صحيفة الجالية الجزائرية في تغريدة على صفحتها على موقع تويتر التالي:" بفضل تكاتف جهود الجزائريين في فرنسا تم سحب مخطوطة إسلامية تعود للأمير عبد القادر الجزائري من المزاد". الجدير ذكره أن هذه المسألة ليست جديدةً في إطار الصراع الثقافي-السياسي المفتوح بين الجزائر وفرنسا.
ففي الحادي والثلاثين من آذار/ مارس 2017، أعلنت وزارة الثقافة الجزائرية عن استعادة 600 وثيقة على شكل مخطوطات وخرائط وكتب تراثية نادرة، تعود إلى الحقبة العثمانية في البلاد بعد شرائها من مزاد علني، عُرضت فيه للبيع في دار "مارمابات ملافوس"، في مدينة تولوز. وقد أكدت الوزارة في بيانها أنها "خطوة تكتسي بعداً سيادياً في إطار الجهود التي تبذلها أعلى السلطات في البلاد لاسترجاع الأرشيف"، وتالياً "تمكين الباحثين من إجراء الدراسات التاريخية على أساس مستندات موثوقة لتثمين الذاكرة الجماعية"، وفقاً لتقرير نشرته قناة الجزيرة القطرية في الرابع من نيسان/ أبريل 2017.
ووفقاً للجزيرة، فإن السلطات الجزائرية تقول إن السلطات رحّلت بعد دخولها سنة 1830، عشرات الآلاف من الوثائق المرتبطة بالحقبة العثمانية في الجزائر بين عامي 1518 و1830.
ماهية المخطوطة
تعود الوثيقة، وهي عبارة عن مخطوطة فقهية تُعنى بـ"أصول الدين"، إلى كاتبها الهادي أبو سرور بن عبد الرحمن العبادي الشافعي من القاهرة، وتاريخها إلى شهر آب/ أغسطس سنة 1659. وناسخها يُدعى محمد بن محمد بن قاسم الغبريني الهادي. الوثيقة مكوّنة من سبعة وثلاثين سطراً كُتبت غالبيتها بالخط البني مع ملاحظات بالخط الأحمر، بالإضافة إلى ملاحظات أخرى باللغة الفرنسية توضح كيفية الاستيلاء عليها وأنها مأخوذة من حلفاء الأمير عبد القادر، أو من أحد تلامذته.
الموقع الفرنسي "أنتير أونشير"، وخلال الإعلان الذي تم حذفه لاحقاً عن المخطوطة التي لم تكن في حالة جيدة، كان يتحدث عن المخطوطة وكيف وصلت إلى فرنسا عبر الاستيلاء عليها من قبل قوات الاستعمار الفرنسي بقيادة الجنرال تيوديل شانغارنيي، في أثناء إحدى الغزوات في منطقة الونشيريش، حيث صادف إحدى القبائل التي كانت ترعى الأغنام في المنطقة. والقبيلة هذه تتبع الأمير عبد القادر الجزائري "عدو فرنسا الأول في ذلك الوقت"، وذلك في حزيران/ يونيو سنة 1842، ليحملها ملازم يُدعى بلانري، معه إلى فرنسا، ويقدّمها هديةً لأخيه في باريس، في شهر آب/ أغسطس من العام نفسه.
ويوضح الجنرال شانغارنيي، في تقرير له، للمارشال بيجو في حزيران/ يونيو 1842، أنه قام بغزوات عدة لضرب القبائل الثائرة ضد الفرنسيين في مناطق مختلفة خلال ذلك العام، منها ما تم في منطقة الجزائر والتيطري، بالإضافة إلى غزوة أخرى كبيرة رافقتها معركة مع قبيلة "بني وراغ" في أعالي جبال الونشريس، وتمكّن خلالها من قتل خمسين شخصاً وأسر ثلاثة آلاف من أفراد القبيلة بينهم رجال ونساء.
لا يحق لأي كان بيع تاريخنا، فما بالك لو كان البائع محتلاً غاصباً!
"أصحاب الوطنية... وينكم"
حملة الغضب والاستهجان المعارضة لعملية البيع، أطلقها ناشطون مغرّدون ومدوّنون على مواقع التواصل الاجتماعي، معتبرين المزاد المزمع عقده بمثابة "سرقة علنية" للتراث الجزائري، وأنه لا يحق لأحد المتاجرة بهذا التراث. كما عبّروا عن سخطهم أمام تلكؤ السلطات الجزائرية وصمتها أمام هذا النوع من الاستفزاز، مطالبين بضرورة إعادة المخطوطة وسواها من إرث البلاد التاريخي، لأن مكانها الطبيعي هو متاحف الجزائر. وغرّد أحدهم قائلاً:" أصحاب الوطنية والترحّم على الشهداء وينكم؟ وزارة المجاهدين وينك؟".
بدوره، كتب السياسي الجزائري جمال قسوم، على صفحته الشخصية في فيسبوك، مطلقاً حملةً يطالب من خلالها بشراء واقتناء المخطوطة النادرة، عادّاً المسألة "مسألة كرامة"، قائلاً: "مواطنينا وأصدقائي الأعزاء لقد أبلغتكم وبمختلف الطرق بشراء مخطوطة جزائرية بتاريخ 1859، والتي ستعرض في المزاد العلني يوم السبت 11 آذار/ مارس عند الساعة الثانية ظهراً". ويتابع قسوم: "في هذا السياق وبالتعاون مع المواطنين، أبدأ هذه العملية، التي آمل بأن تكون المقدمة لالتزام طويل الأمد باستعادة ممتلكاتنا التاريخية، أدعوكم للمشاركة ومشاركة هذه الرسالة التي يجب أن تكون قبل كل شيء مسألة كرامة".
المحافظ يدافع
تحت عنوان "سحب المخطوط الفقهي الجزائري من المزاد العلني في فرنسا"، نشرت صحيفة الخبر الجزائرية في الحادي عشر من آذار/ مارس الجاري مقالاً، محاولةً فيه توضيح مسألة سحب المزاد بالحديث مع الصحافي محمد زاوي الذي بيّن للصحيفة أن الفضل في فضّ المزاد يعود إلى الصحافي السابق والمهتم بالتاريخ فوضيل أورباح، وهو أول من أثار الموضوع في محاولة لحث السلطات الجزائرية على التدخل لوقف العملية.
ويضيف زاوي قائلاً:" اتصلت بمحافظ البيع من أجل الترخيص لتصوير عملية البيع في المزاد، ورفض الفكرة قبل أن يوافق بعد إلحاحي". ثم عاود الاتصال به ليخبره بسحب المخطوطة وإلغاء عملية البيع، وذلك "بعد الشتائم والتهديدات التي طالت الخبيرة المكلفة بتقديم المخطوط بحكم تواجد رقم هاتفها على صفحة الموقع".
وأكد له المحافظ أنها "ليست نسخةً أصليةً"، وأنه "لا يمارس السياسة، فلو طلبت مني مؤسسة رسمية فرنسية أو جزائرية سحبه لفعلت ذلك".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...