شهدت العلاقات الجزائرية-التركية في السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ تولّي الرئيس عبد المجيد تبون، في كانون الأول/ ديسمبر 2019، زمام السلطة في الجزائر، تطوراً وصعوداً ملحوظاً. يُرجع البعض هذا التقارب إلى الإرث التاريخي المشترك، والتوافق المذهبي بين البلدين، وذلك بالرغم من الفتور الذي شاب العلاقات بينهما، بسبب التدخل العسكري التركي في ليبيا تحديداً، خاصةً عندما استضافت الجزائر قمة "دول الجوار الليبي" في كانون الثاني/ يناير 2020، والتي طالب المجتمعون فيها بوقف التدخل الخارجي، وإنهاء الأزمة سلمياً عبر الحوار بين أطراف النزاع.
أما على صعيد القضية الفلسطينية والعلاقة مع إسرائيل، فتبدو الدولتان متفقتين على رفض السياسات العنصرية للكيان، وعلى حل الدولتين وعروبة القدس وإنهاء الاحتلال.
على الصعيد الاقتصادي، يُعدّ الميزان التجاري بين البلدين من حيث حجم التبادلات بينهما، الأكبر والأعلى بين تركيا والدول الإفريقية، إذ وصل إلى ما بين 3.5 و5 مليارات دولار. وعليه، تُوّجت هذه العلاقات بزيارة دولة قام بها تبون، إلى تركيا، بين الخامس عشر والسابع عشر من أيار/ مايو 2022.
ماكرون: مندهش لقدرة تركيا على جعل الجزائريون ينسون تماماً الدور الذي لعبته في بلدهم، ويصدقون أن الفرنسيين هم المستعمرون الوحيدون
ماكرون وكتابة التاريخ من جديد
التقارب في العلاقات يضعهُ البعض، في "سياق الحسابات الجيو-سياسية"، ويقال إنه "نكاية بفرنسا"، ولم تخفف منه أو تُضعف وتيرته، التصريحات التي أدلى بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في شباط/ فبراير 2021، لصحيفة "لوموند الفرنسية"، التي نقلت عنه إفصاحه لأحد أحفاد الحركيين الذين قاتلوا إلى جانب فرنسا في أثناء الثورة الجزائرية، رغبته في إعادة كتابة التاريخ الجزائري، باللغتين العربية والأمازيغية، وذلك لـ"كشف تزييف الحقائق الذي قام به الأتراك الذين يعيدون كتابة التاريخ".
وتابع ماكرون قائلاً: "أنا مندهش لقدرة تركيا على جعل الناس ينسون تماماً الدور الذي لعبته في الجزائر، والهيمنة التي مارستها، وترويجها لفكرة أن الفرنسيين هم المستعمرون الوحيدون، وهو أمر يصدّقه الجزائريون". وعاد ماكرون خلال زيارته الأخيرة إلى الجزائر في آب/ أغسطس الماضي، ليؤكد ما قاله عبر اتهامه شبكات تركية وصينية وروسية بـ"تشويه صورة فرنسا" في إفريقيا.
وكأن لسان حال ماكرون يقول: لسنا المذنبين الوحيدين في حق الجزائر. هناك وحشية عثمانية-تركية سابقة على الوحشية الفرنسية، جعلت من البلاد لقمةً سائغةً للاستعمار الفرنسي مطلع عام 1830. ولكن السلطة الرسمية في الجزائر تغض النظر عن ذكرها، وبعض مؤلفات الكتّاب الإسلاميين الموالين لتركيا تحاول تجميل تلك الحقبة، حتى المناهج الدراسية الجزائرية (ربما عن حُسن نية) تعطي الأولوية لوصف التوحش الفرنسي في الجزائر الذي ورث حكماً مهلهلاً وضعيفاً، وبلاداً تُحكم من قبلِ أقلية تركية عاثت في البلاد خراباً.
أتى الرد التركي على لسان وزير الخارجية أحمد جاويش أوغلو، الذي قال: "من غير المقبول أن يحاول الرئيس ماكرون، الذي يواجه صعوبات بخصوص ماضي بلاده الاستعماري في إفريقيا، وخاصةً الجزائر، التخلص من هذا الماضي الاستعماري عبر اتهام دول أخرى، بما في ذلك بلادنا". ودعا ساخراً، لأن تصل فرنسا إلى مرحلة "النضج" لمواجهة هذا التاريخ، وفقاً لما أوردته قناة الجزيرة القطرية، في السابع والعشرين من آب/ أغسطس الماضي.
هذا التاريخ أو تلك "الدفاتر القديمة"، يعودان إلى مرحلة تمدد السلطنة العثمانية التي كانت تعدّ نفسها "حاميةً لعرين الإسلام والمسلمين"، و"وارثة الخلافة". فهل تم طمس معظم حيثيات ذاك التاريخ في ضوء هذه الرابطة الإسلامية عبر نفي صفة "الاحتلال"، وتهمة "بيع الجزائر لفرنسا"من قبل السلطنة ووقوفها عاجزةً عن الدفاع عن "الجزائر العثمانية"؟ أم هي مجرد محاولة فرنسية يائسة من أجل إعادة تعويم نفسها مجدداً، كشريك وصديق للجزائر على حساب القوة التركية الصاعدة؟
يتفادى معظم المؤرخين للحقبة العثمانية في الجزائر، ذكر كلمة "احتلال" ، لأنه جاء بطلب رسمي من حاكم الجزائر خير الدين بربروسا.
استغاثة باهظة الثمن
يتفادى معظم المؤرخين ممن أرّخوا للحقبة العثمانية في الجزائر، ذكر كلمة "احتلال" أو غزو خارجي"، لأن هذا التمدد لم يكن أولاً في حسابات "الدولة العلية"، نظراً إلى بعدها عن مركز دولتهم في الأستانة. ولأنه أيضاً، جاء بطلب رسمي من حاكم الجزائر خير الدين بربروسا، سنة 1518.
وخير الدين بربروسا تولى السلطة بعد أخيه عروج، وهو المجاهد والشهيد كما يصفه بعض المؤرخين لدوره في تخليص بلاد المغرب من الهجمات الإسبانية، والقرصان المتوحش عند البعض الآخر، والذي غدر بسلطان الجزائر سالم التومي الثعالبي، بعد أن طلب الأخير نجدته في صد غزوات الإسبان، إذ قتله بيده، كما يورد عبد الحميد بن أبي زيان بن أشنهو، في كتابه "دخول الأتراك العثمانيين إلى الجزائر".
فالطلب الذي جاء على شكل رسالة رُفعت باسم أهالي الجزائر، يطلبون فيها العون والمدد من السلطان سليمان القانوني، مقابل إعلان التبعية والولاء، بعد أن عرف خير الدين ضعف قاعدته الشعبية بعد ثورة بجاية وقبائل السويد في إمارة تنس، وعجزه عن حماية سلطانه في وجه الإسبان، لقي ترحيباً من قبل السلطان لأنه يمد نفوذه ويوسع دولته من دون عناء، لذا أرسل ألفي جندي مسلحين بالبنادق، وعدداً من رجال المدفعية، ودعم توجه بعض إنكشارية الأناضول وأعطاهم امتيازات واسعةً، لتتحول هذه الأقلية إلى ما يشبه "سلطة الاحتلال". وقد بلغ تعدادها قرابة الـ20 ألف رجل، عند دخول الفرنسيين، وكانت تسيطر على مقاليد السلطة والمناصب كافة، وتعتمد الإرهاب والقهر والجباية طريقاً واحداً للحكم. واتّخذ خير الدين لقب "بيكالربيك"، أي أمير الأمراء أو نائب السلطان، مؤسساً "إيالة الجزائر" العثمانية التي حكمت 312 سنةً.
استمر العثمانيون في تعيين ولاتهم من الباشوات والأغوات حتى سنة 1671، بأمر من الباب العالي، حتى جاء "عهد الدايات"، لتغدو هذه التبعية "إسميةً"، مقابل إرسال الهدايا والأموال للباب العالي، ورفع الدعاء للسلطان على المنابر.
ضرائب وأوبئة وثورات لا تهدأ
كان حال أهل الجزائر وقتها، حال "من جاء بالدُبِّ إلى كرمه"، فقد عاشت البلاد خلال تلك القرون ضروباً من الفاقة والمجاعات والأوبئة، كالطاعون والتيفوس وسواهما. وكان الجزائريون يتداوون بالجن والسحر، إذ أُهمل التعليم بعد اتخاذ التركية لغةً رسميةً في البلاد. عاش الأتراك كـ"طغمةٍ مكروهة"، وتدلل على ذلك كثرة الثورات خلال الحكم العثماني.
وفي ذلك يذكر صالح العنتري، في كتابه "مجاعات قسنطينة" (تحقيق وتحرير رابح بونار)، عن أحوال البلاد التالي: "أنزل الله القحط على العباد، وصاروا يأكلون لحوم بعضهم من شدة الجوع". هذا القحط الذي استمر عاماً كاملاً لم يتحرك إزاءه باي المدينة ليفتح مخازنه في محاولة للتخفيف من عبء القحط على الأهالي.
كان أغلب الجزائريين يعيشون في الأرياف، وكانت السلطة تعتمد في دخلها على أعمال القرصنة البحرية، وفرض الضرائب الباهظة. وبالإضافة إلى الأقلية التركية المتحكمة بزمام السلطة بيد من حديد، كانت هناك "قبائل المخزن" التي تحالفت مع الأتراك ضد القبائل المتمردة، و"القبائل الرعوية" التي يعمل أفرادها في السخرة لدى كبار ملاك الأراضي العثمانيين، وأخيراً القبائل المتمردة التي كانت تدفع الضرائب بعد تجريد "المحلات" أي الحملات ضدها. و"المحلة" تعني الزحف الهمجي، وهي من أبشع أساليب الحكم التي طبّقها الأتراك في الجزائر، ودليل على وحشيتهم، كما يرد في كتاب "الجزائر في العهد التركي 1830-1514"، لصالح عباد الداي.
كانت من نتائج كل ذلك، إصابة المجتمع بالخمول، والشلل الفكري والحضاري، وانتشار مظاهر الدروشة والطرق الصوفية التي كثُر مريدوها طلباً لحسن الختام والآخرة، وتراجع الحركة الاقتصادية والزراعية نتيجة تحول أغلب المزارعين إلى العمل الرعوي، وتالياً لم تهدأ ثورات أهل الجزائر ضد الحكم التركي، منذ القرن السادس عشر حتى سقوط البلاد بيد الفرنسيين، ولعل أبرز تلك الثورات ثورة بن الصخري 1627، التي كادت للعثمانيين وحكمهم، وثورة التيجانية 1784، وثورتي الحراش، وعبد القادر بن الشريف الدرقاوي، سنة 1804.
عاشت الجزائر تحت الحكم العثماني ضروباً من الفاقة والمجاعات والأوبئة، وكان اهلها يتداوون بالجن والسحر.
كشاشة الذباب
كانت أزمة الديون الجزائرية، وهي قيمة صفقات الحبوب التي أغاثت بها الجزائر فرنسا، جرّاء الحصار الاقتصادي الأوروبي إبان الثورة الفرنسية، من القضايا الإشكالية التي سببت توتراً دائماً على مستوى العلاقات الدبلوماسية بينهما، حتى جاء يوم التاسع والعشرين من نيسان/ أبريل 1827. حينها، وبينما كان الوالي العثماني الداي حسين، يستقبل الوفود الأجنبية بمناسبة عيد الفطر، ومن بينهم القنصل الفرنسي بيير دوفال، حدثت مشادة كلامية بين الأخير وبين الوالي بسبب مسألة الديون، وعدم رد الملك الفرنسي شارل العاشر على رسائل الداي. اتهم الوالي القنصل بالخبث والخداع وبأنه السبب وراء ذلك. وعندما أنكر دوفال الأمر، غضب الداي ولوّح له بالخروج بـ"كشاشة الذباب" التي كانت بيده وفق إحدى الروايات. وفي رواية أخرى، أنه ضربه بها حتى لامست وجهه، فخرج القنصل غاضباً متوعداً بإبلاغ حكومة بلاده بأنه تعرّض للضرب، عادّاً الأمر بمثابة "إهانة لفرنسا". عندها، أرسل شارل العاشر جيوشه في عام 1828، لتحاصر الجزائر والسواحل الجزائرية لستة أشهر، وينتهي الحصار بسقوط الجزائر بيد فرنسا سنة 1830.
في الحقيقة، كانت الحادثة برمتها مجرد "ذريعة" لاستعمار الجزائر. ولكن سلوك الوالي المتهور، سواء داخلياً، عندما قام بإعدام قائد الجيش المعروف ببراعته الأغا يحيى، وتعيين أخيه الداي إبراهيم بدلاً منه، وعند انقلابه على عدد من رؤساء القبائل الجزائرية، وهو ما جعله من دون "ظهير داخلي"، أو خارجياً، باستفزازه فرنسا، وهو استفزاز خالٍ من أي حنكة سياسية في ظل ضعف الدولة العثمانية التي غدت أشبه بـ"الرجل المريض"، بعد معركة نافارين البحرية وتدمير أسطولها البحري بالكامل، ومن ضمنه الأسطول الجزائري، جعل البلاد صيداً سهلاً للفرنسيين، إذ سقطت الجزائر المدينة في التاسع عشر من حزيران/ يونيو 1830. وهو ما أدى إلى توقيع الداي حسين، معاهدة الاستسلام متنازلاً عن السلطة، مقابل التأمين على حياته وأسرته ورجاله وأمواله بعد أن تم إفراغ الخزينة، وخرج مع 118 رجلاً من رجاله، نحو نابولي الإيطالية ثم باريس للسياحة، قبل أن يستقر في الإسكندرية حتى مماته في 1838، تاركاً الجزائر وأهلها لمصير مشؤوم رسمه لهم الفرنسيون، وسيناضل الجزائريون 132 عاماً بعدها للتحرر منه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم