على شاشة السينما تُصنع الأمجاد والنجومية. تُصنع حيوات تزخر بالنعيم والهناء فنصدق أن ما يعيشه النجوم على تلك القماشة البيضاء الواسعة، هو نفسه ما ينعمون به في الواقع بعيداً عن الكاميرا. لكن مطالعة واحدة لسِيَر النجوم وتحديداً رواد ما نسميه "الزمن الجميل" كفيلة بنسف تلك الفرضية، فالكثيرون منهم بدأوا حياته على الرصيف، ومنهم من انتهت نجوميته أيضاً على نفس الرصيف.
الريحاني على كوبري قصر النيل
نفس الحال تكرر مع نجيب الريحاني، الذي أشار في مذكراته، التى نشرتها مجلة "الكواكب" إلى أنه في فترة البدايات، وبعد أن فُصل من البنك الزراعي، بسبب انشغاله بالتمثيل، وبعد أن جرب العمل فى شركة السكر بنجع حمادي فى محافظة قنا جنوب القاهرة، وفُصل منها أيضاً، خاف من مواجهة أمه بفشله، فنام على الرصيف.يقول الريحاني في مذكراته إنه قضى 48 ساعة بلا طعام، ولم يكن يجد مكاناً ينام فيه، فكان يقضي أغلب الوقت في "قهوة الفن" حتى يأتي موعد الإغلاق في الثانية صباحاً، فينطلق إلى كوبري قصر النيل حتى إذا تعب افترش رصيفه حتى الصباح.
ويشير إلى أنه ذات يوم، وبينما كان يتجول على الكوبري استعداداً للنوم تعثرت قدمه بزميل يسكن معه نفس الرصيف، هو صديقه الكاتب المعروف محمود صادق سيف، الذي زامله على الرصيف بعض الوقت قبل أن يأتيه ذات يوم بخبر مبهج.
نام نجيب الريحاني على الرصيف بعد أن فُصل من البنك الزراعي، بسبب انشغاله بالتمثيل، وبعد أن جرب العمل فى شركة السكر بنجع حمادي فى محافظة قنا جنوب القاهرة، وفُصل منها أيضاً
بعد فترة أكد له سيف أنه اتفق مع صاحب مكتبة على أن يترجم له بعض الروايات من الفرنسية إلى العربية، ولما كان الريحاني متضلعاً من الفرنسية فقد وجد مع زميله في القروش القليلة التى سيحصل عليها كل منهما فرصة لا تعوض للبقاء على قيد الحياة. لاحقاً، علم صاحب المكتبة أن الريحاني عاشق للتمثيل فأوصله إلى فرقة أحمد الشامي التي شهدت انطلاقة الريحاني إلى النجومية.
إسماعيل يس لفظته عائلته فاحتضنه الرصيف
على الرصيف أيضاً جاءت بدايات أسطورة الكوميديا إسماعيل يس، الذي هرب من مدينته في محافظة السويس شرق القاهرة، للالتحاق بمعهد الموسيقى، فقد كان يحلم بأن يحترف الغناء ويصبح مطرباً مشهوراً كما هو حال قدوته وأسطورته محمد عبدالوهاب.
حين جاء "سُمعة" إلى القاهرة وجد المعهد مغلقاً، فراح يتجول بين الفنادق الصغيرة حتى نفدت نقوده فذهب إلى أقارب والده الذين أوصدوا أبوابهم في وجهه، فلم يجد بُداً من أن ينام في مسجد السيدة زينب بعض الوقت، فيما أشار المؤرخ ماهر زهدي في كتابة "أبو ضحكة جنان"، الذي نشر فصولاً منه في جريدة "الجريدة" الكويتية إلى أنه نام أيضاً في تلك الفترة على الرصيف، وتحديداً تحت كوبري الليمون.
شكري سرحان.. لأجل الفن يهون الشارع
في بداية مشواره أيضاً، وبعد أن رفض والده فكرة التحاقه بالمعهد العالي للفنون المسرحية، لم يجد شكري سرحان سوى الشارع، لا سيما بعد أن طرده أبوه، الأمر الذي جعله ينام ثلاثة أيام في المسجد، قبل أن يقرر والده العفو عنه والخضوع لإلحاح والدته.
فإذا كانت تلك هي البدايات التي يمكن قبولها في إطار الاجتهاد والكفاح لأجل الوصول إلى الهدف المنشود، فالعودة إلى الرصيف في نهايات المشوار الفني هي المأساة بعينها، ذلك أن الوصول إلى تلك النقطة يعني نهاية المجد والشهرة، وربما نهاية الحياة نفسها.
نام شكري سرحان في المسجد لثلاثة أيام في بداية مشواره الفني، بعد أن رفض والده التحاقه بالمعهد العالي للفنون المسرحية وطرده من المنزل
عزيز عيد من النجومية إلى "صندوق الجزم"
من أبرز النجوم الذين انتهى مشوارهم على الرصيف، الممثل والمؤلف والمخرج المخضرم عزيز عيد، بعدما صال وجال في مسارح مصر، وكان من أبرز نجوم عصره، قبل أن تغيب عنه الأضواء في أيامه الأخيرة، ويفشل في تدبير قوت يومه، فإذا به يسكن الرصيف.
في مذكراته، قال عنه يوسف وهبي: "بينما أتجول في أحد الأيام بشارع عماد الدين، التقيت بإنسان في ثياب رثة، مبهدلة وذقنه طويلة، وبعد أن شبهت عليه واقتربت فإذا هو الأستاذ عزيز عيد العبقري الذي أراد رفع مستوى المسرح الدرامي، سلمت عليه وقلت له أنا يوسف وهبي، فقال لي: شوف أنا لابس إيه معنديش عقب سجارة هات 5 صاغ اشتري صندوق ورنيش أمسح جزم الناس على القهاوي".
فاطمة رشدي تتسول
نفس الحال انتهت إليه الفنانة المسرحية الكبيرة فاطمة رشدي، التي لُقبت بـ"سارة برنار الشرق"، وبعد رحلة طويلة من النجومية والشهرة، انتهت حياتها على الرصيف بشارع الجمهورية حيث كانت تمد يدها لتتلقي الإحسان.
وقتها وصل الخبر إلى النجم الكبير فريد شوقي، الذي تدخل لدى المسؤولين وتقدم بطلب لعلاجها على نفقة الدولة وتوفير سكن ملائم لها، وهو ما حدث فعلياً، إذ صدر قرار علاجها وتم توفير شقة لها، إلا أن القدر كان أسرع من الكل ورحلت قبل أن تعرف بالقرارين.
بطل "القاهرة 30" صاحب الرصيف
رغم أن الجميع توقع له مستقبلاً مبهراً بعد مشاركته اللافتة في فيلم "القاهرة 30" فإن عبد العزيز مكيوى لم يتخيل أن ينتهى به الحال إلى الرصيف وهو المثقف الذي يتحدث الإنجليزية والفرنسية والروسية بطلاقة.
الغريب أن مكيوي رفض كل محاولات المساعدة التي سعى إليها كثيرون ممن يعرفونه، أو حتى من هؤلاء الذين تعرفوا عليه في الشارع، واكتشفوا أن هذا النجم يعيش حياة المشردين على كرسى متحرك.
هذه القصص أو القصة المتشابهة لم تكن لأسماء مرت مرور الكرام، بل لعظماء ومبدعين تركوا بصماتهم في الفن والمسرح والسينما المصرية في بداياتها، حين كان دخول عالم الفن رهاناً كبيراً قد يكسب وقد يخسر، وخسارته تعني العودة إلى مكان واحد: الرصيف.
تدخل فريد شوقي لدى المسؤولين وتقدم بطلب لعلاج الفنانة فاطمة رشدي على نفقة الدولة وتوفير سكن ملائم لها بعد أن عرف بتسولها، وهو ما حدث فعلياً، لكنها رحلت قبل أن تعرف بالقرارين
أنور وجدي على رصيف عماد الدين
البداية مع أنور وجدي أو دونجوان السينما المصرية الذي جرى حب الفن في عروقه منذ الصغر، وفكر في أن يهرب إلى الولايات المتحدة ليجرب حظوظه في السينما هناك، ويكون بطلاً كالأبطال الذين طاردهم عبر شاشات السينما، لكنه فشل في الهرب، فكانت النتيجة طرده من بيت العائلة، ليجد الملاذ في شارع "عماد الدين" قِبلة الفن في مصر قديماً.
على الرصيف نام أنور في انتظار اللقاء الأهم، إذ كانت يتمنى أن يلتقي النجم الكبير يوسف وهبي، ليعرض عليه خدماته ويطلب منه أن يضمه إلى فرقته، وذات ليلة شب حريق في مسرح يوسف وهبي، فاندفع أنور بكل ما أوتي من قوة، وساهم مع غيره في إطفاء الحريق، وكانت المكافأة مبلغاً من المال رفضه "وجدي" وطلب أن تكون المكافأة رؤية يوسف وهبي.
في هذا اللقاء ألح "أنور" على "وهبي" أن يعمل معه في أية وظيفة، فيوافق الأخير، ويُسند إليه وظيفة المسؤول عن الإكسسورات الخاصة بعروض الفرقة، ومنها انتقل أنور إلى أدوار صغيرة فأدوار ثانوية، قبل أن يحين موعد البطولة، ويجد أنور وجدي نفسه وقد بات "مؤسسة فنية تمشي على قدمين" كما وصفه الكثيرون. لكن المفارقة أن أنور الذي عاش نجوميته طولاً وعرضاً انتهى به الحال على الرصيف بعد وفاته.
نام أنور وجدي على الرصيف المحاذي لباب مسرح يوسف وهبي لأيام ليطلب منه أن يضمه إلى فرقته، وذات ليلة شب حريق في المسرح فاندفع أنور مع غيره لإطفاء النار، وكانت المكافأة مبلغاً من المال رفضه وطلب أن تكون المكافأة رؤية يوسف وهبي
في مقال سابق له ذكر الكاتب الكبير كامل الشناوي أنه بعد وصول جثمان أنور وجدي من ستوكهولهم في العام 1955، بعدما قضى آخر أيامه فيها للعلاج، ذهبوا بالجثمان إلى مكتب "أنور" فوجدوه مغلقاً، وحين ذهبوا به إلى بيته كان مغلقاً أيضاً، فبات الجثمان فوق الرصيف حتى الصباح، ثم استقل المشيعون عربة إلى المقابر ليُكتب بذلك الفصل الأخير فى سيرة العاشق المتيم بالسينما.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...