تضحية كبيرة قدمها الرجل القادم من مدينة الفيوم، كانت مفتاح العبور لأجيال من المصريين والعرب إلى الحقل الفني. مغامرة كلّفته الكثير، بدءاً بالهروب من أحضان الأهل إلى العاصمة، ثم إلى أوروبا ومعرفة حياة الغربة مبكراً، لكن تلك المغامرة الكبرى تكلَّلت بالنجاح على الساحة المسرحية والسينمائية العربية.
تعلم الجيل اللاحق على يد يوسف وهبي، القيمة الحقيقية للفن، بعدما عانى العاملون فيه من التحقير ذلك الزمان. كانت كلمة "المشخصاتي" تحمل كل معاني الإهانة لصاحبها قبل أن يأتي ابن الفيوم ويزيح هذه الأفكار البالية.
في ما يلي عرض خاطف لتحديات سيد المسرح العربي يوسف وهبي، تزامناً مع ذكرى رحيله الـ28 في تشرين الأول/ أكتوبر 1982.
بحر يوسف
شجاعة نادرة ستقابلنا في كل محطات سيد المسرح العربي، منذ ميلاده في مدينة الفيوم جنوب القاهرة عام 1898. على شاطئ بحر يوسف كانت أولى خطوات الفتى الصغير، واختار والده اسم يوسف تيمناً بشاطئ بحر يوسف، كان الفتى ابن ذوات، والده هو عبد الله باشا وهبي، مفتش الري في الفيوم، وهو أحد المناصب الثلاثة الكبيرة في الأقاليم المصرية وقتها، بدأ مشواره مع التعليم في كُتاب الشيخ العسيلي في المدينة الهادئة، قبل أن ينتقل إلى المدرسة السعيدية في الجيزة لمواصلة دراسته.
كتب يوسف وهبي في مذكراته الشخصية "عشت ألف عام"، أنه انغمس في الحياة الإيطالية حتى وصل به الأمر للانضمام إلى أحد فروع المافيا الإيطالية
عُرف والد يوسف وهبي بمواقفه الوطنية إذ كان قادراً على حركة تطوير كبيرة في الفيوم، ما زالت آثارها حتى اليوم إذ حفر "ترعة عبد الله وهبي" التي تحولت معها آلاف الأفدنة من الأراضي الصحراوية إلى أراضٍ زراعية، كما قام بتأسيس مسجد عبد الله بك، الذي يعتبر من أكبر مساجد المدينة حتى يومنا هذا، لكن المفاجأة أن كل هذا المجد الذي صنعه الوالد لم يثنِ الابن على الخروج من جلبابه بسبب عشقه الفن والتمثيل.
كانت هوايات "بوسف وهبي" متعددة في طفولته، بدأت بلعب المصارعة في "سيرك الحاج سليمان"، وقام بتدريبه بطل الشرق في المصارعة "عبد الحليم المصري"، لكن نقطة التحول الكبرى جاءت خلال إحدى جولات والده في صعيد مصر بمحافظة سوهاج. شاهد يوسف وهبي في ذلك اليوم فرقة الفنان اللبناني سليم القرداحى، فترك الزراعة في الفيوم والمصارعة في سيرك الحاج سليمان، لتصبح طفولته كلها تتزين بإلقاء المونولوغات وأداء التمثيليات، لكن هل هذا سيرضي عبد الله باشا وهبي؟ بالطبع لا.
المشخصاتي في مواجهة مفتش الري
كان التحدي الذي يقف أمام يوسف وهبي صعباً، كيف يستطيع إقناع والده الأرستقراطي بأن يسمح له بالتمثيل ودخول الوسط الفني، كانت شخصية "المشخصاتي" في ذلك الوقت تهمة في حق صاحبها، لكن الفتى الصغير كان جريئاً، قرر الهروب من أهله إلى العاصمة، واتخذ لنفسه اسماً مستعاراً "رمسيس"، وذلك هروباً من نفوذ والده، ثم سافر إلى إيطاليا سراً عقب نهاية الحرب العالمية الأولى بعد أن أقنعه صديقه محمد كريم، وفي إيطاليا عرف يوسف الفن على أصوله، وتتلمذ على يد الممثل الإيطالي "كيانتوني"، وظل في إيطاليا مندمجاً في الحركة الفنية هناك. ويذكر يوسف وهبي في مذكراته الشخصية "عشت ألف عام"، أنه انغمس في الحياة الإيطالية حتى وصل به الأمر للانضمام إلى أحد فروع المافيا الإيطالية.
العودة إلى مصر
توفي والده أثناء وجوده في إيطاليا، فعاد الممثل الصاعد إلى مصر عام 1921 للحصول على ميراثه الكبير، عشرة آلاف جنيه ذهبية بالتساوي مع إخوته، ليبدأ أولى مراحل عمله الفني بالانضمام لفرقتي حسن فايق وعزيز عيد. كان المسرح المصري في ذلك الوقت يحبو، وتواجه الفرق المسرحية الكثير من المشاكل المالية، وكانت الحالة المسرحية السائدة تسيطر عليها روح الهواية وليس الاحتراف. قرر يوسف وهبي أن يغامر بضخ أمواله ميراثه لتأسيس فرقة "رمسيس"، بعد أن نجحت محاولات صديقيه عزيز عيد ومختار عثمان في إقناعه باستثمار أمواله فنياً، وسجل تاريخ المسرح المصري وقائع افتتاح مسرح رمسيس في 10 أذار/مارس 1923، وكان أول العروض مسرحية "المجنون"، التي عرضت أيضاً على مسرح راديو، وكانت الخطة الفنية التي قام عليها مشروع يوسف وهبي في مسرح رمسيس، هي تقديم الأعمال العالمية المترجمة لشكسبير، وموليير، وإبسن، مع مجموعة من الرواد الذين أثروا الحركة الفنية العربية، منهم حسين رياض، وأحمد علام، وفتوح نشاطي، وزينب صدقي، وأمينة رزق.
تجليات "مسرح رمسيس"
نجحت الحملة المسرحية ليوسف وهبي نجاحاً تاريخياً، واستطاع الشاب القادم من الفيوم أن يخوض مجموعة من التحديات باقتدار، ووصل نجاحه فيها إلى قمته بعد نحو عقد ونصف العقد على التأسيس، عندما قدّم ستة أعمال مسرحية خلال عام واحد هي: " ابن الفلاح، ناكر ونكير، الشبح، العدو الحبيب، يد الله، ألف ضحكة وضحكة" عام 1939.
وصل عدد العروض التي قدمتها فرقة رمسيس لـ300 مسرحية مؤلفة باللغة العربية، أو مترجمة عن لغات أخرى على رأسها الفرنسية، وقد نقل العديد من مسرحيات فرقة رمسيس إلى السينما، منها "راسبوتين، كرسي الاعتراف، بنات الشوارع، أولاد الفقراء، بيومي أفندي، المائدة الخضراء...
استطاعت الحالة الميلودرامية لمسرح يوسف وهبي خلق اتجاه مخالف لما كان يسير عليه نجيب الريحاني وعلى الكسار.
على الصعيد السينمائي، تقدم يوسف وهبي للمشهد مقتحماً كعادته، قام عام 1930 بالتعاون مع صديقه المخرج محمد كريم بتأسيس شركة سينمائية باسم "رمسيس فيلم"، وكان أول أفلامها "زينب" عام 1930، ثم توالت موجته السينمائية كمنتج، إلى جانب تألقه في التمثيل والتأليف والإخراج، علماً أنه كان يضع الألحان أحياناً.
أزمة فيلم "النبي محمد"
جرأة يوسف وهبي وضعته في أزمة كبيرة عام 1928 عندما عرض عليه بطولة فيلم يجسد من خلاله شخصية "النبي محمد". نشرت الخبر إحدى المجلات الإيرانية، وقالت إن شركة سينماتوغراف الفرنسية جاءت إلى مصر، واتفقت مع وهبي على تمثيل فيلم النبي محمد. حضر المنتج إلى القاهرة بصحبة المخرج توجو مزراحي، وبدأ وهبي في صنع صور فوتوغرافية لنفسه للاستعداد لرسم الشخصية، بحسب مذكرات وهبي.
بعد ذيوع الخبر أرسل شيخ الأزهر خطابًا إلى وزارة الداخلية يطالب بالتحقيق في الأمر ومنع وهبي من القيام بالدور، كما طالب بمخاطبة حكومة باريس بواسطة السفارة المصرية هناك، لمنع التصوير ومصادرة النص، وقد تسببت هذه الأزمة في تأخر دخول وهبي لعالم الفن السابع لمدة عامين وفي اتهامه بالزندقة، كما هدد الملك فؤاد بحرمانه من الجنسية المصرية إذا وافق على التمثيل في الفيلم، مما اضطر وهبي لنشر اعتذار في الصحف، متراجعاً عن مشروع الفيلم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...