لعب الفنان الشامل أنور وجدي (1904-1950) دوراً كبيراً في إثراء الساحة السينمائية المصرية والعربية، بتجاربه التي حلّ فيها منتجاً وممثلاً ومخرجاً، وربما بأدوار أخرى.
وقد رسمت حياة وشخصية وجدي تناقضات حادة، انعكست على مشواره الفني، فهو عاشق للفن، متعدد المواهب، وهو تاجر يبحث عن الربح، والذي يمكن أن يتغاضى في سبيل تحقيق هذا الهدف عن أشياء كثيرة، حتى وإن تسبب ذلك في أذى نفسي وجسدي لأقرب المقربين، أو حتى لروحه التي أنهكها الفقر قبل أن تظلمها الثروة والغنى.
شيك بـ 15ألف مليم!!
ذكر الكاتب السيد الحراني في كتاب "بخلاء يجعلونك تضحك" أنَّ أنور أثبت على نفسه تهمة البخل التي ظلّ ينفيها طويلاً، بموقف مع زوجته الفنانة ليلى مراد، ويحكي الكاتب أنَّ كمال الشنَّاوي، الذي كان أحد أقرب الأصدقاء إلى الزوجين، كان يهمس دوماً في أذن ليلى مراد، مطالبا إياها بأن تتمسك بحقها المادي في الأفلام التي تشارك فيها، وتكون من إنتاج زوجها، مؤكداً أنها نجمة كبيرة وأجرها يعد الأكبر في مصر بين النجمات، لكن ليلى دائماً كانت تقابل تحريض الشناوي بالضحك، مؤكدة أنها لا تلقي بالاً لمثل تلك الأمور، خصوصاً أن أموال زوجها هي أموالها.
كانت ردود ليلى عادة ما تثير ضحكات الشنَّاوي وسخريته، لكن في إحدى المرات فكرت ليلى.. ولما لا؟ لماذا لا تجرِّب على الأقلّ لتختبر ما يُقَال بين الكواليس، بأن وجدي تزوجها حتى لا يضطر أن يدفع لها أموالاً مقابل مشاركتها في أفلامه، وهي "الدجاجة التي تبيض له الذهب كل يوم"، بحسب قول الكثيرين.
اتخذت ليلى قرارها وطلبت من أنور مستحقاتها المالية عن أحد الأفلام، وهنا كانت المفاجأة، حيث أخرج وجدي من جيبه دفتر الشيكات الخاص به، وكتب لها شيكاً قائلاً بأعلى صوته أمام الجميع: "شيك بـ 15 ألفاً".
كان طموح أنور المادي كبيراً، فذهب إلى الكاتب الكبير مصطفى أمين وطلب منه أن يكتب عنه ليكون هناك مبرر يساعده على طلب رفع أجره إلى خمسة قروش، ولكن رُفض المقال، والسبب كما قال المسؤول: "مين أنور وجدي ده؟!"
"كان أنور وجدي نموذجاً غريباً من البشر، وتركيبة من عشرات التناقضات، مجنوناً بالمال وليس عبداً له، جامحاً مثل ثور هائج، ورقيقاً مثل طفل، يحب ليلى مراد ويخونها"
لفَّت الدهشة المكان، وأصيب الجميع في الاستوديو بالذهول.. أهذا أنور وجدي الذي تحيط به تهمة البخل من كل مكان؟ غير أن ليلى التي التقطت الشيك من يد زوجها فجأة حلت اللغز، فقد كان الشيك بمبلغ 15 ألف مليم فقط لا غير.
6 جنيهات تشعل الأزمة مع يوسف وهبي
في حلقة من البرنامج الإذاعي "هؤلاء كانوا ظرفاء"، والتي تناولت قصة حياة الفنان الراحل ومسيرته الفنية، جاء أن الفنان الشاب تعلق، في بداية مشواره الفني، بمسرح رمسيس، ووجد فيه الملاذ والسكن، فقط كان عليه في البداية أن يقبل بمبلغ قرشين صاغ في اليوم مقابل مشاركته في مسرحية "يوليوس قيصر"، حيث كان يقدم دور أحد الجنود الصامتين طوال العرض.
بالقرشين نجح أنور في توفير 3 أطباق فول ورغيف خبز يومياً، لتقف أمامه عقبة السكن، وهي الأزمة التي تحايل عليها عن طريق حارس المسرح الذي كان يسمح له بأن يبيت به، بعد أن ينصرف آخر النجوم في الثانية صباحاً، وهو الوقت الذي كان يعود فيه أنور إلى المسرح خلسة خوفاً من أن يراه أحد ويتعرض الحارس للمساءلة وربما الطرد.
كان طموح أنور المادي كبيراً، لا يتوافق مع القرشين صاغ، فذهب إلى الكاتب الكبير مصطفى أمين وطلب منه أن يكتب عنه ليكون هناك مبرر يساعده على طلب رفع أجره إلى خمسة قروش، لكن الكاتب الكبير محمد التابعي رفض نشر المقال في مجلة آخر ساعة متسائلاً: مين أنور وجدي ده، وإزاي ننشر مقالات عن كومبارس؟!
"مين أنور وجدي ده، وإزاي ننشر مقالات عن كومبارس؟!".
كان الرد صادماً لأنور، لكن القدر كان يخبأ له تصريفاً آخر، ففي أحد ليالي عرض "يوليوس قيصر" تغيبت إحدى الممثلات، وكاد العرض يتوقف إلا أن وجدي أقنع الفنان الكبير يوسف وهبي بأنه يمكن أن يقدم الدور على أفضل ما يكون، خصوصاً وأنه يحفظه عن ظهر قلب، وبعد ارتداء ملابس الشخصية وبعد المكياج والحركة الأنثوية المتقنة التي برع فيها وجدي، قرر وهبي أن يحل وجدي بديلاً في تلك الليلة للممثلة المتغيبة، كما قرّر في الوقت نفسه رفع أجره إلى 7 قروش نظير إخلاصه وإتقانه للعمل.
وبمرور أيام أخرى أسند يوسف وهبي أول دور متكلم لأنور وجدي من خلال مسرحية "نصر الدين"، وكان الدور بداية وجدي الحقيقة في المسرح، ومنها رشحه يوسف وهبي لبطولة فيلم "الدفاع"، الذي أنتجه في 1935، وكان عقد أنور وجدي وقتها 6 جنيهات.
كان المبلغ كبير جدا وقتهاً، ما سمح لخيال الفنان الشاب بأن يرسم خططاً واعدة لتحقيق كل أحلامه المؤجلة، غير أن أزمة اقتصادية عالمية ضربت دولاً عدة وتركت أثرها على مصر، ففشل وهبي في سداد المبلغ، بل وتم حلّ فرقة "رمسيس"، وعاد أنور مرة أخرى دون عمل.
وفي منتصف الأربعينيات، وبعد كد وكفاح ومشاركة في أكثر من فيلم، أسس أنور وجدي شركته "المتحدة للإنتاج والتوزيع السنيمائي" عام 1945، وقدم من خلالها حوالي 20 فيلماً من أشهر أعماله، وفي واقعة تترجم مدى تعلقه بالمال، قرر أن يتعاقد مع يوسف وهبي، للظهور كضيف شرف في فيلم "حبيب الروح" الذي عرض 1952، مقابل 1000 جنيه، إلا أن وهبي فوجئ بأن الشيك الخاص بأجره بمبلغ 994 فقط، وعندما استفسر عن الـ6 جنيهات المتبقية، قاله له أنور إنها قيمة عقده عن فيلم "الدفاع" والذي لم يصرفه منذ عام 1935.
شهادة أخرى على ولع أنور وجدي بالمال، تأتي هذه المرة على لسان صبري موسى في كتاب "ليلى مراد"، حيث أكد أن حياته مع ليلى كانت عاصفة، مضيفاً: "كان نموذجاً غريباً من البشر، وتركيبة من عشرات التناقضات، مجنوناً بالمال وليس عبداً له، كان جامحاً مثل ثور هائج، وكان رقيقاً مثل طفل، كان يحب ليلى مراد ولكنه كان يخونها".
ولا شك أن فيروز واحدة من أهم اكتشافات وإنجازات أنور وجدي، وقد صرحت في حوار تلفزيوني لها مع البرنامج اللبناني "خليك بالبيت"، بأنها عاشت لفترة في منزل وجدي، مع زوجته ليلى مراد، وكانت شاهدة على صفة البخل في الفنان الراحل.
تحكى: "كان وجدي ينقل أثاث شقته إلى استديو التصوير، ليستغلها في تصوير 3 أفلام معاً، ثم يعيدها إلى المنزل، ما كان يثير غضب ليلى".
"أعطني المال والشهرة"
يروى الباحث والناقد الفني، وجيه ندى في أحد مقالاته، تفاصيل مرض أنور وجدي والدعاء الذي تسبب في موته، طلباً للمال، وقال ندى إن أنور كان يعاني من الفقر بشكل كبير، وفي أحد الأيام وقف في الاستديو ليهتف قائلاً: يارب أعطني الشهرة والمال وخذ أي شيء، حتى لو كانت صحتي!
يارب أعطني الشهرة والمال وخذ أي شيء، حتى لو كانت صحتي!
وفي التفاصيل جاء أن وجدي وبعد أن حصد ثروة طائلة، قدرت بحوالي نصف مليون جنيه، إلى جانب عمارته الشهيرة ومعمل لتحميض الأفلام، تعرض في نهاية حياته إلى أزمة صحية حادة، حيث أصيب فجأة بمرض الكلى، وبعد أن تدهورت حالته الصحية طلب منه الأطباء السفر للعلاج في أوروبا، فاختار السويد، وهناك حاول الأطباء إنقاذه غير أن حالته كانت قد تدهورت بشكل كبير، ولم تفلح محاولات الإنقاذ حتى بوجود الكلى الصناعية، ليموت في النهاية بسرطان الكلى ويترك النصف مليون والعمارة ومعمل الأفلام، لورثة دب بينهم الخلاف و"الخناقات" حول الميراث في سرادق عزاء النجم الكبير، وقبل أن تمر 24 ساعة على رحيله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت