يأتي سوء مستوى مسلسل "الضاحك الباكي" ذي الثلاثين حلقة للكاتب محمد الغيطي والمخرج محمد فاضل، ليذكرنا بكل ما تعيشه الدراما المصرية من تراجع منذ العام 2014، تحديداً منذ تدخل "الضُباط" في ذلك الملف، ولكنه أيضا قد يكون ذروة تبشر قرب انتهاء هذا النوع من الإنتاج التليفزيوني القائم على الترهل ومط المشاهد والمونولوجات الطويلة والخطابات المباشرة، والموسيقى التصويرية الحزينة التي تحاول التأثير على المتفرج، وكأن المبالغات المسرحية في الأداء ليست كافية لإعطاء الإحساس الكافي بالمشهد، وهو أمر كان بإمكاننا التعاطي معه كمتفرجين حتى منتصف العقد الأول من الألفية، قبل أن ندرك التطور الذي صارت إليه الدراما في العالم كله، وصار الأمر غير مقبول بعد توافر منصات الإنترنت.
كل ما يحدث الآن في الدراما المصرية التليفزيونية الخارجة جميعها تقريباً من رحم شركة المتحدة السيادية، ليس أكثر من محاولات لاستنساخ النجاح القديم لمسلسلات فترتي الثمانينيات والتسعينيات، التي كتبها موهوبون بالفعل، وأداها نجوم وممثلون لم يحصلوا على الملايين، لكن كان يحركهم المزاج الفني في الأغلب، وذلك رغم ضعف الإمكانيات – وقتها- وخطاباتها القومية المباشرة الفجة التي نسخر منها الآن بأثر رجعي.
يأتي سوء مستوى مسلسل "الضاحك الباكي" للكاتب محمد الغيطي والمخرج محمد فاضل، ليذكرنا بكل ما تعيشه الدراما المصرية من تراجع منذ العام 2014، تحديداً منذ تدخل "الضُباط" في ذلك الملف
لكن ما يُنتَج حالياً يفتقد الإخلاص والموهبة، ولا تغلب عليه روح الفن. لذا فإن كل ما تبقى للقائمين على الإنتاج لاستنساخه هو أفكار موجَّهة، كالصورة القومية المتخيلة لمصر، ومعنى كلمة المصري. كل ما فهمه الضباط وكُتَّابهم من مسلسلات الثمانينيات والتسعينيات، أنها مسلسلات قادرة على أن تحشد العائلة، بما تعنيه بأن تكون مصر كلها عائلة واحدة كبيرة تتبع رجلاً واحداً كبيراً تقدم له الطاعة، وهو أمر يمكن أن نتبينه في الخطب الرئاسية. ومن دون ذلك الخط، لا يمكن تقديم موضوع، لا يمكن مناقشة أي شيء، لذا تأتي فارغة في شكلها ومضمونها وتحكمها الرداءة.
تلعب المسلسلات الآن ذلك الدور: اختزال كل ما يتعرض له المصريون من مشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية في بُعدهم عن شيئين: صورة المصري في ذهن الضابط، وصورة العائلة التي تجتمع معاً ولا تخرج خياراتها عن المألوف. وليس من المطروح التعرض لفكرة مسؤولية الدولة أو مسؤوليها عن هذا الوضع.
إنها الفكرة نفسها التي يروجها الإسلاميون، ولكن بارتداء مسوح أخرى بديلة، فكما يروج الإسلاميون أن الابتعاد عن الدين هو سبب كل مصائبنا، تروج دراما المتحدة أن الابتعاد عن صورة مصر والعائلة المصرية المتخيلة في عقل الضباط، هو سبب كل مصائبنا.
مسلسل الغيطي ليس أسوأ ما يمكن إنتاجه، لكن وصمه بذلك أمر مستحق تماماً، أولاً بسبب تصريحات مؤلفه التي تعكس ضعف موهبته، وسبابه المتكرر في البرامج التليفزيونية لكل من انتقده، بألفاظ وتصرفات يعاقب المجلس الأعلى للإعلام على ما هو أقل منها. ثانياً، بسبب إهداره فرصة عظيمة لإنتاج عمل درامي عن واحدة من أهم وأمتع السيرة الذاتية، هي سيرة نجيب الريحاني، بما تحمله أصلاً من حكايات درامية، وبما تكشفه عن واحدة من أكثر الفترات في مصر ثراء على المستوى الفني والاجتماعي والسياسي، إلا أن نجيب الريحاني اختطف من قِبَل مجموعة ضعيفة الخيال في الأساس.
كل ما يحدث الآن في الدراما المصرية الخارجة جميعها تقريباً من رحم شركة "المتحدة"، ليس أكثر من محاولات لاستنساخ النجاح القديم لمسلسلات فترتي الثمانينيات والتسعينيات، إلا أن أعين القائمين على الإنتاج لم تلتقط من تلك الفترة سوى "التوجيه"
المسلسل أيضاً مثال على إعطاء الفرص لكُتاب مرضي عنهم، حتى لو كانت موهبتهم ضعيفة كالغيطي، فنحن لا ننسى أنه وراء الشائعة التافهة والشهيرة بأسر مصر لقائد الأسطول السادس الأمريكي، ضمن خطة ترويج وتعظيم مضحكة لصورة البطل.
أما محمد فاضل فقد صار مخرجاً خارج الزمن، مازال يظن أن بإمكاننا أن نبتلع - كما كان يحدث قديماً- أن يعطي دوراً غير مناسب لممثلة تتحدى قوانين الزمن كفردوس عبد الحميد، فقط لأنها زوجته. رغم أنها في الأساس ممثلة جيدة، لكنها دائماً ما تكون ممثلة مفروضة علينا بسبب تلك الوساطة.
إهدار الفرصة في الأساس قادم من النرجسية الفارغة، فنجيب الريحاني لم يتم استدعاؤه الآن من أجل ثرائه الفني، بل لتأكيد صورة متخيلة عن مصر في ذهن الكاتب ومخرجه. صورة ندفع ثمنها قطعاً. تلك الصورة تعتمد على "ماض جميل" يستبعد منه كل ما هو سيء، ربما هو المنطق نفسه الذي قدم به محمد فاضل اسمه واسم المؤلف في التتر عبر صوت مفخم مسرحي ومبالغ فيه لفردوس عبد الحميد، كأنه تأكيد على الاستنساخ لحيوية فاضل في الثمانينيات، ولصورة أسامة أنور عكاشة، لكن شتان في المقارنة عكاشة والغيطي، بين موهوب ابن زمنه يؤمن بكل حرف يقوله ولا يزعجه النقد، بل يتحراه في مشاهدة المسلسل بين الجمهور على المقاهي وقلقه وشكه فيما كتبه، كما يحكي في أحد حواراته، وبين دعيّ يسبنا بأمهاتنا ويهددنا إذا ما انتقدناه.
ما يكشف عوار ذلك المسلسل هو أنه يأتي في ظل انتعاشة من المسلسلات القصيرة الجيدة والممتازة التي لا تتخطى العشر حلقات وهي مسلسلات يكتبها ويخرجها ويؤدي أدوارها ممثلون موهوبون تمنحنا الأمل، لكن تُنتج بقرار وأموال السعودية الواقعة على الضفة الأخرى، وتخبرنا أن مصر غنية بالمواهب وإن حكمها ضعفاء الموهبة والخيال.
نجاح تلك المسلسلات على منصات نيتفليكس وشاهد السعودية، أجبر منصة واتش إت المصرية، التي تعيش تحت السقف المنخفض للرقابة الصارمة، وسيطرة الحس الأمني على الكتابة واختيار النجوم المرحب بهم من السلطة، على أن ترفع السقف قليلاً وتنتج مسلسلات جيدة كريفو وتحقيق، والتي تحمل شيئاً من التمرد والجودة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...