جاءت الثورة الصناعية الأولى في تاريخ مصر في زمن يتوسط ثورتين صناعيتين أوروبيتين: الأولى، بدأت في بريطانيا سنة 1784، في أعقاب اختراع المحرّك البخاري؛ والثانية بدأت بعدها بقرابة 100 عام، وبالتحديد سنة 1870، في الولايات المتحدة، مع استخدام الطاقة الكهربائية في الإنتاج.
استراتيجية محمد علي باشا الكبير (1769-1849) مؤسس دولة مصر الحديثة وأبو مشروع النهضة الصناعية المصرية تمثلت في نشر المصانع في كل ربوع وأقاليم مصر، حتى لا تُحرم بقعة من أرض مصر من التصنيع، ما دفع القنصل الروسي حينذاك، الكولونيل ألكسندر دوهاميل، إلى إبداء تعجبه من المصانع المنتشرة في الأقاليم كأنما بثتها يد السحر. كما وصف قنصل بريطانيا في مصر باتريك كامبل، في تقرير إلى وزارة خارجيته، بتاريخ تموز/ يوليو 1840، القدرة المتعاظمة لآلة محمد علي الإنتاجية بقوله: "بعد أن كان في بداية أمره يشتري من أوروبا عتاده الحربي بكامل أنواعه من بنادق وسيوف ومعدات إلى جانب المدافع والسفن الحربية أصبح يصنع كل شيء الآن في مصر".
لم يكن المشروع الصناعي الضخم لمحمد علي هادفاً إلى الربح وجني الثروات الصناعية فحسب، لكنه كان مكرساً لتحقيق هدف كبير هو بناء إمبراطورية شرقية من طراز الإمبراطوريات الصناعية الحديثة، وهو ما أكده لأصدقائه الأوروبيين في مناسبات عدة، منهم السير الإنكليزي جون بورنغ الذي حاول إقناع محمد علي بأن لا جدوى اقتصادية من وراء الكثير من مصانعه، لأنها تستنفد رأس المال، فضلاً عن أنها تصرف العمال عن النشاط الزراعي ذي الجدوى الربحية الأعلى. يقول السفير: "فأجابني بأنه إنما يواصل مشروعاته الصناعية ليعوّد الشعب على الاشتغال بالصناعة لا انتظاراً لربح يجنيه".
المفارقة البارزه هنا هي اعتياد الاشتغال بالصناعة مع غياب الحافز الربحي، ليصير الاشتغال بالإنتاج عبئاً أو عبودية أو "سخرة". والسخرة كانت اللفظ الذي أَطلق على نظام تشغيل المنتجين في مشاريع محمد علي الكثيرة. وبرغم ذلك، كان لدى الباشا إدراك واضح بأن لا سبيل إلى بناء مشروعه الصناعي إلا بتحديث المجتمع المصري تحديثاً شاملاً وبتحويله إلى مجتمع ذي ثقافة إنتاجية حديثة، وهو ما عكسته كلماته للسير بورنغ: "لقد بدأت كما بدأتم وتحملت من النفقات الطائلة ما تحملتم في بادئ الأمر. وليس هناك أمل كبير في الوصول إلى نتائج مرضية في المراحل الأولى ولكني واثق من أن النجاح سيأتي رويداً رويداً".
التصنيع من نقطة الصفر
عندما بدأ مشروع محمد علي الصناعي في العام 1816، كانت طرق الإنتاج في المجتمع الزراعي المصري لا تختلف كثيراً عمّا كانت عليه منذ عهد قدماء المصريين. ولم تكن أبعاد التحول الصناعي العالمي واضحة في أوروبا نفسها، ولا انتقلت منها إلى أي من بلدان الشرق كذلك. لم يكن هناك مناص أيضاً من تدخل الدولة للتوجيه والإدارة لتحديث نظم الإنتاج البدائية الموروثة، إضافة إلى ما دعت إليه ضرورات السياسة والوضع الدولي من أن يصبح المجهود الحربي للجيش محوراً للمشروع الصناعي.
ورغم أن الرحالة والدبلوماسيين الأوروبيين، وكانوا جلهم من أصدقاء محمد علي، رأوا أن تكريس التصنيع لتغذية المجهود الحربي لا يتناسب وموارد البلاد، وأن أعداد المجندين والمشتغلين بالصناعات الحربية سيحرم وجوه الانتاج الأخرى من موارد لا غنى عنها، لكن احتفاظ محمد علي بمقعد ولايته على مصر، في ظل تحفز الباب العالي العثماني الدائم ضده، لم يكن ليتحقق بدون الاعتماد على جيش قوي، أو بحسب ما جاء في أحد أوامره: "إن كل عمل من أعمالنا له خطره وأهميته ولكن مسألة الإكثار من البنادق هي أهم من كل شيء".
في كتابه "تاريخ الصناعة في مصر"، يُقِيم المفكر الاقتصادي علي الجريتلي موازنة بين مشروع محمد علي الصناعي في مصر ومشروع بطرس الأكبر التحديثي في روسيا، وكلاهما واجها نفس الصعوبات وفي مقدمتها قلة العمال الفنيين، وصعوبة الحصول على معدات الصناعة، وعدم وجود حافز قوي لتخفيض تكاليف الإنتاج، نظراً إلى رخص الأجور وقيام الاحتكار الحكومي، إلى استمرار نظام الرق الذي جعل التشغيل في المصانع الحكومية يستند إلى نظام السخرة، إضافة بالطبع إلى الممانعة الموجهة من العناصر التقليدية في المجتمع ضد كل أشكال التحديث.
"بعد أن كان (محمد علي باشا) في بداية أمره يشتري من أوروبا عتاده الحربي بكامل أنواعه من بنادق وسيوف ومعدات إلى جانب المدافع والسفن الحربية أصبح يصنع كل شيء الآن في مصر"
الفارق الأساسي بين التجربتين كان أن إنشاء المصانع الحكومية في روسيا لم يشكل حائلاً في طريق نمو الاستثمار الصناعي الفردي ولم يمنع توجيه مدخرات التجار والملاك الزراعيين إلى الاستثمار الصناعي. فقد لقي أرباب الصناعة الروس تأييداً حكومياً كبيراً، ضمن استراتيجية تعتمد على القيادة الحكومية للتصنيع وليس احتكاره: كانت الحكومة الروسية تنشئ المصانع النموذجية ليقتفي المستثمرون أثرها ثم تتخلص منها عندما تبدأ الصناعة الفردية في الازدهار، من ثم سار نمو الصناعات الفردية جنباً إلى جنب مع نمو الصناعات الحكومية، وبقيت الصناعات الحرفية قائمة تزوّد السواد الأعظم الفقير من السكان باحتياجاته من السلع الرخيصة.
أما في مصر، فكان محور برنامج التصنيع قائماً على الاحتكار الحكومي الشامل للمصانع ووسائل الإنتاج، مما قضى على فرص نمو الصناعات والاستثمارات الفردية، ومنع دفع المدخرات الزراعية إلى مجالات الصناعة. لذلك فإن الاحتكار الحكومي وإنْ كان قد أدى إلى زيادة الانتاجية الصناعية في مصر، إلا أنه، بعكس روسيا، لم يؤد إلى رفع مستوى معيشة الكثرة الغالبة من السكان، وانتشالهم من الدرك السحيق من الفقر الذي بلغوه في عهود المماليك والعثمانيين. كما أنه وضع ركائز اجتماعية وتقاليد ثقافية تاريخية لمشروع النهضة المصرية الحديثة، كانت في القلب منها مفاهيم الاعتماد على الدولة، وهيمنتها على عمليات ووسائل الإنتاج، واحتكارها لوجوه الصناعة والنشاط في المجتمع المصري.
التحجير
شغف محمد علي البالغ بالآلات والصناعات المكيانيكية وبالمشاريع الضخمة، بالإضافة إلى رغبته في الإسراع في الإنشاء، كانا طاقة الاندفاع الملهمة لمشروعه الصناعي الكبير ودافع تحقيقه أبرز نجاحاته، لكنهما كانا في نفس الوقت آفة مشاريعه الضخمة بما ترتب عليها من أخطاء كبيرة.
فكثيراً ما أقدم الباشا على تنفيذ مشاريع استناداً إلى تقديرات غير عملية يظهر عند التنفيذ بُعدها عن الواقع. وعليه، كانت النفقات الفعلية لمشاريعه تزيد عشرات المرات عن التقديرات الأصلية. وكان الفشل في تنفيذ بعض المشاريع يرجع أحياناً إلى نفاد صبر الباشا وإلحاحه على معاونيه بإنجاز ما يعهد إليهم بأسرع وقت.
"إن كل عمل من أعمالنا له خطره وأهميته ولكن مسألة الإكثار من البنادق هي أهم من كل شيء"
يروي المهندس الفرنسي الذي كان كبير مهندسي الأشغال العمومية في مصر بين عاميْ 1831 و1869 لوي موريس أدولف لينان دو بلفون (لينان باشا) في كتابه الذي يحمل عنوان "مذكرات حول أعمال الأشغال العمومية الرئيسية المنفّذة في مصر منذ الماضي السحيق حتى يومنا" أنه سأل ليفيبور دي سيريزي، المدير الفرنسي لترسانة الإسكندرية، وهو مشروع ضخم لصناعة السفن ضمن سلسلة مشروعات محمد علي، عن الوقت الذي يستغرقه بناء سفينة من نوع ما في الترسانة الجديدة. ولمّا أجاب المهندس بأن في وسعه إتمام البناء في سنتين إذا كرس له ألف عامل، طلب منه محمد علي مضاعفة عدد العمال وإنجاز البناء في نصف الوقت، مع ما في هذا الإسراع من مخاطر.
وكثيراً ما حدث أن اشترى الباشا آلات ظهر في ما بعد أنها غير صالحة للاستعمال إطلاقاً أو متعذرة الاستعمال لعدم وجود مَن يحسن إدارتها فيكون مصيرها التخزين والتلف، فحسب دفاتر المعية التي تعود ملكيتها لدار المحفوظات التي أنشأها محمد علي عام 1829، والتي ينقل عنها الجريتلي هذه المكاتبة: "بيعت آلات وأنوال صناعة الحرير لمَن يرغب في شرائها لعدم إمكان استعمالها بسبب عدم وجود أسطوات يعرفون استعمالها".
كان من بين أخطاء مشروع محمد علي أنه فكر عندما احتاج إلى موارد في بسط سيطرته الكاملة على الصناعات الصغيرة بقصد احتكار أرباحها وفرض ضرائب مباشرة على الصناع وغير مباشرة على المستهلكين، وهو ما أطلق عليه المؤرخ الشهير عبد الرحمن الجبرتي (1753-1825) مسمى "التحجير"، ويعني به التأميم أو الاحتكار الذي بدأ بصناعة النشوق وامتد إلى صناعات النطرون والشمع والحصير وأنواع الأقمشة والنسيج وماء الورد والشحوم وغيرها.
يقول الجبرتي: "بعض المتصدرين من نصارى الأروام أنهى إلى كتخدا بك (محافظ العاصمة) أمر النشوق وكثرة المستعملين له والدقاقين والباعة وأنه إذا جمع دقاقوه وصناعه في مكان واحد ويجعل عليهم مقادير ويلتزم به ويضبط رجاله وجمع ماله وإيصاله إلى الخزينة من يكون ناظراً وقيماً عليه كغيره من أقلام المكوس التي يعبرون بالجمارك فإنه يتحصل من ذلك مال له صورة".
بالطبع، استلزم تطبيق نظام التحجير عدداً كبيراً من الموظفين لإحصاء الإنتاج ومحاسبة الصناع وجمع السلع. وكان الموظفون يستندون إلى تقدير جزافي للأسعار بأقل من السائد عند شرائها من الصناع الذين حوّلهم نظام العمل الإجباري إلى أجراء حكوميين، وبأعلى من السعر السائد عند تزويدهم بالمواد الخام، ثم إلى تحديد سعر بيع الحكومة للمنتجات مع نسبة مبالغ فيها من الربح تصل أحياناً إلى أضعاف نفقات الإنتاج، مما أدى إلى ركود السلع.
كثيراً ما أقدم محمد علي باشا على تنفيذ مشاريع استناداً إلى تقديرات غير عملية يظهر عند التنفيذ بُعدها عن الواقع. وكان الفشل في تنفيذ بعض المشاريع يرجع أحياناً إلى نفاد صبره وإلحاحه على معاونيه بإنجاز ما يعهد إليهم بأسرع وقت
ومن الطبيعي أن يؤدي هذا التدخل الاحتكاري إلى قتل روح الابتكار لدى الصناع، إذ كانت الحكومة تحظر إنتاج السلع البديلة وتمنع اتّباع طرائق جديدة للإنتاج خوفاً مما يترتب على ذلك من خسارة للمشاريع الحكومية. كان من الطبيعي كذلك أن تؤدي سياسة القسر إلى إضعاف الحافز على العمل وإلى حمل العمال على الهرب من المصانع.
وبرغم تلك القيود الحكومية المشددة مع توظيف القواصين (الجواسيس)، ازدهرت سوق سوداء لتداول المنتجات خارج النظام المفروض ودل ذلك على الفشل الذريع في منع "البراني". يعترف الباشا في أمر له بأن: "تنبيهنا بعدم بيع البراني لم يشاهد منه ثمرة".
على العكس أيضاً من أوامر الباشا بمنع الظلم والاضطهاد و"المعارضة والأذية" الواقعة على أرباب الحرف والصناع والعمال، كانت ثغرات النظام الكثيرة تلحق الحيف بأصحاب الحرف وبالصناع الأجراء وبعمال المصانع على السواء، وهو ما تعكسه شكوى الجبرتي المريرة من "ازدياد ضيق الحال وتضاعف الأسعار بعد أن كان يتعيش منها ألوف العالم". نفس الأمر أكده المؤرخ الفرنسي المعاصر فليكس مانجان في كتابه "تاريخ مصر في عهد محمد علي" بقوله إن إعجابه بما أداه الباشا لمصر من خدمات لا يمنعه من الإشارة إلى أن نظام الاحتكار أضر بمصالح الشعب وحرم الصانع ثمرة عمله وقضى على مصدر الثروة.
يأس النهايات
يشير المهندس الفرنسي لينان دو بلفون إلى أن مشروعاً عجيباً جال بخاطر محمد علي في المراحل الأخيرة من حكمه، عندما بلغ به اليأس مبلغه من توطين الصناعة في مصر: فكر في نقل المصانع كلها إلى أسوان نظراً إلى جفاف الجو فيها وقلة التراب وتوافر القوة المحركة في شلالات النيل.
اختمرت الفكرة في ذهن الباشا إلى حد أنه أمر مديري الأقاليم بإعداد لوازم البناء ولم يعدل عنها إلا بعد أن أوضح له بلفون أن هذا العمل سيكبد نفقات باهظة لا قبل للخزانة باحتمالها، فضلاً عن تركيزه للصناعة في مكان يبعد كثيراً عن مصادر المواد الأولية وعن الأسواق الداخلية والخارجية، كما أن هناك صعوبة في إنشاء المصانع عند الشلالات أصلاً.
وكما يورد المؤرخ أمين سامي في موسوعته "تقويم النيل"، تتسم مراسلات محمد علي في أواخر حكمه بطابع التشاؤم والاستياء من قلة ما أصابه من نجاح في تذليل صعوبات توطين الصناعات الآلية في بلد ينقصه الكثير من مقومات التصنيع، بالإضافة إلى "قلة الأعوان وترادف تقلبات الأحوال وتنوع تيار صعوباتها وشدائدها من زمن مديد بعكس وجهة آمالي".
كانت شكوى محمد علي مريرة دوماً من جهل أعوانه ورفضهم للتجديد وإضرابهم عن الابتكار وقلة مَن يستطيع الاعتماد عليه منهم. لكن السلطة المطلقة التي تمتع بها كانت من بواعث إسرافه في الاعتداد بنفسه ومن ثم فشله في إعداد المساعدين المدربين على تحمل المسؤولية. وهو ما يؤكده الجبرتي في مقطع شهير قال فيه: "ومَن تجاسر عليه من الوجهاء بنصح أو فعل مناسب حقد عليه وربما أقصاه وأبعده وعاداه معاداة مَن لا يصفو أبداً. وعرفت طباعه وأخلاقه في دائرته وبطانته فلم يمكنهم إلا الموافقة والمساعدة في مشروعاته إما رهبة أو خوفاً على سيادتهم ورياستهم ومناصبهم وإما رغبة وطمعاً وتوصلاً للرياسة والسيادة وهم الأكثر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.