بعد تولّيه حكم مصر عام 1805، أدرك محمد علي باشا حاجته إلى عمّال يساهمون في بناء دولته الحديثة، ولتوفير عمالة رخيصة اتّجه صوب إفريقيا لجلب "الرقيق"، أي المستعبَدين، فألحقهم بالجيش، واعتمد عليهم في تشغيل المصانع، ووطّنهم في القرى لزراعتها.
في كتابه "الوجود المصري في إفريقيا في الفترة من 1820-1899"، يشير الدكتور السيد يوسف نصر، إلى أن محمد علي كان يحتاج إلى عناصر بشرية لازمة لبناء جيشه على أسس حديثة، بعيداً عن أبناء مصر الذين كان عليهم أن يتفرغوا للعمل الزراعي، فوجّه ناظريه باتجاه إفريقيا التي كانت تنتشر فيها تجارة الرقيق على أوسع نطاق.
طُرُق جلب المستعبَدين
بين عاميْ 1820 و1821، أرسل محمد علي حملتين عسكريتين باتجاه إفريقيا لتحقيق أهداف عدة، كان من بينها إحضار أشخاص لاستعبادهم، وفي الفترة نفسها أرسل مأمور جرجا إلى مديرية بربر في السودان، لاستجلاب الأخشاب اللازمة لبناء ثكنات في كل من أسوان وإسنا في صعيد مصر للمستعبَدين المزمع إحضارهم من السودان.
وبحسب نصر، انتهى العمال من تشييد الثكنات في مدة قصيرة، وزُوّدت بما يلزمها من مؤن وملابس ومعدات وأسلحة وذخائر، وكذلك بمستشفيات لعلاج الجنود كي لا يكونوا عرضةً للأمراض الفتاكة، كما زُودت بعدد كبير من الضباط اللازمين لتدريب الجنود الجدد، وكان هؤلاء الضباط على جانب كبير من العلم والمعرفة، لأنهم تلقّوا تعليمهم على أيدي أحد كبار القادة الفرنسيين، وهو الكولونيل جوزيف أنثيلم سيف Joseph Anthelme Sève، الذي عُرف في ما بعد باسم سليمان باشا الفرنساوي.
صيد وشراء وضرائب
يذكر نصر أن جلب المستعبَدين كان يتم بطرائق مختلفة، منها مهاجمة قوات محمد علي للقبائل السودانية لإلقاء القبض على عدد من أفرادها لإرسالهم إلى مصر. ويشرح نصر أن الأعداد التي كانت تنجو من الكمائن، كانت تفرّ هاربةً إلى المناطق النائية لتنجو بحياتها، وكانت القبائل التي لا تتعرض للهجوم تفرّ هي الأخرى بمجرد أن تسمع عمّا تعرّض له غيرها من مخاطر، ما أدى إلى تدهور أحوال البلاد الاقتصادية والاجتماعية، زيادةً على انتشار الفوضى والذعر في أرجائها.
ولذلك، قرر محمد علي إلغاء هذه الطريقة واستبدالها بطريقة "الشراء"، فطلب من ناظر مصلحة أسوان أن يشتري مستعبَدين، خاصةً من الذكور، عبر التجار القادمين من دارفور. وبحسب نصر، كان هؤلاء المستعبَدون يُشترون من التجار مقابل المال، أو من خلال مقايضتهم بجَوارٍ.
واستخدم محمد علي طريقةً أخرى في جلب المستعبَدين تتمثل في نظام "الفردة"، وكان نوعاً من أنواع الضرائب المعروفة في السودان، فقرر والي مصر أن يحصل على عبد واحد مقابل "الفردة" المقررة على كل خمس عمليات سقاية للأرض الزراعية.
تمرّد في الجيش
لعبت هذه الطرائق الثلاث دوراً كبيراً في جلب أكبر عدد ممكن من المستعبَدين السود اللازمين للمشروعات العسكرية والاقتصادية. في الجيش، عُرفوا بالشجاعة والطاعة وحب النظام، ولكن بالرغم من ذلك، تمرد عدد قليل منهم في بعض الأحيان وأعلنوا العصيان، مثلما حدث في معسكر التاكة الواقع في شرق السودان عام 1845، ما أثار القلاقل والاضطرابات بين سكان المديرية، ولكن حكمدارية السودان تمكنت من إخماد الفتنة وإعادة الأمور إلى نصابها.
وفي العام نفسه، حدث تمرد آخر في معسكر وادي مدني في السودان، كان من نتائجه انتشار الفوضى والاضطرابات بين السكان، لكن الحكمدارية تمكنت أيضاً من إخماده، وقدّمت 26 جندياً للمحاكمة بتهمة التمرد، وتقرر إعدامهم، ولمّا عُرض الأمر على محمد علي خفّف عنهم الحكم، واكتفى بإرسالهم إلى مصر تمهيداً لتوزيعهم على وحدات عسكرية مختلفة.
ويبدو أن السبب في تمرّد الجنود السودانيين هو عدم حصولهم على مستحقاتهم من التعيينات والمهمات، وربما كانوا يحصلون عليها لكن بكميات قليلة لا تتناسب مع ما يبذلونه من جهد، فضلاً عن عدم حصولهم على مستحقاتهم الشهرية في مواعيدها المحددة، بحسب نصر.
وبالرغم من ذلك، لعب الجنود السودانيون دوراً مهماً إلى جانب المصريين في حروب اليونان والشام والحجاز. ومقابل ذلك، لقوا من نظارة الجهادية المعنية بأمور الجيش كل العناية، فحصلوا على التعيينات والملابس والترقيات، وتمتعوا بالرعاية الطبية، فكان الأطباء المصريون يقومون بتوقيع الكشف الطبي عليهم وتطعيمهم ضد الجدري والأمراض المعدية.
زراعة أراضي القرى
إلى جانب الجيش، عمل المستعبَدون في الزراعة، فاختار محمد علي مجموعةً منهم ضمّت أطفالاً ونساءً ورجالاً، وخصص لهم قريةً صغيرةً بجوار مديرية منفلوط في صعيد مصر، عُرفت باسم "كوم كام بوها"، وزودها بعدد من الفلاحين المصريين المهرة، لتعليم المستعبَدين حرفة الزراعة، وبطاحونة لطحن الغلال، وبمسجد ليؤدي السكان فيه الصلوات الخمس، وبعدد من الماشية والأغنام والطيور والملابس والأطعمة، روى نصر.
كان محمد علي باشا يحتاج إلى عناصر بشرية لبناء جيشه على أسس حديثة، بعيداً عن أبناء مصر الذين كان عليهم أن يتفرغوا للعمل الزراعي، فوجّه ناظريه باتجاه إفريقيا التي كانت تنتشر فيها تجارة الرقيق على أوسع نطاق
غير أن هؤلاء المستقدمين فشلوا فشلاً ذريعاً في إتقان الزراعة، والدليل على ذلك أنهم عجزوا عن سداد قيمة أثمان الأشياء التي حصلوا عليها من الحكومة المصرية، ما اضطر شيخ القرية إلى أن يطلب من محمد علي السماح له بتوزيعهم، خاصةً أقوياء البنية منهم، على بعض المصانع، لكن الباشا رفض هذا الاقتراح، وطلب من الشيخ أن يستخدم القسوة في معاملتهم حتى يجدّوا ويجتهدوا في أعمالهم الزراعية.
ويبدو أن فشلهم في فلاحة الأرض يرجع إلى أنهم كانوا معتادين على حياة بوتيرة لا تتضمن الكثير من المهمات اليومية، إذ كانوا يعتمدون في بيئتهم الأصلية على جمع والتقاط النباتات والثمار البرية، ويعيشون حياةً بسيطةً لا يمارسون فيها حرفة الزراعة إلا نادراً، بحسب ترجيح نصر.
المصانع الحربية
استخدمت الحكومة المصرية المستعبَدين، رجالاً ونساءً، في تشغيل المصانع الحربية في "ترسانة القلعة" (مصنع للأسلحة في منطقة قلعة صلاح الدين في القاهرة)، وأعدّت لهم منازل بجوار باب الغرب هناك، وفي سبيل ذلك اشترت أشخاصاً من تاجر الرقيق الطرابلسي المعروف باسم أحمد المغربي، وسددت أثمانهم من منتجاتها المصرية، فدفعت له نحو 300 أردب من الأرزّ الرشيدي، و500 مقطع من القماش الدمنهوري المصري، يروي الدكتور جمال عبد الرحيم خليفة، في دراسته "الرقيق الحكومي في مصر 1822-1879".
واشترت الحكومة أيضاً الكثير من النساء للعمل في مصانع الغزل والنسيج، منها 200 مغزل بجوار القلعة (قلعة صلاح الدين)، كما عملن في مناسج أو معامل القماش الواقعة في منطقة "الخرنفش" في القاهرة. وبحسب خليفة، كانت هذه العمالة مجانيةً، إذ تكفلت الحكومة بإطعام هؤلاء الأشخاص وإيوائهم فقط.
إسطبلات الحكومة
عمل العديد من المستعبَدين الذكور أيضاً في رعاية الإبل والخيول في الإسطبلات التابعة للحكومة، مثل إسطبل شبرا، في شمال القاهرة، وإسطبل بلاد الجفالك في المنيا في صعيد مصر، وإسطبل العريش في سيناء. ولهذه الأعمال عمدت الحكومة إلى شراء أشخاص من أصحاب البشرة السوداء متمرسين في خدمة الإبل.
ويذكر خليفة أن الإسطبلات كانت ملجأً ومقراً للمستعبَدين الذين فشلوا في الخدمة العسكرية، وأُخرجوا منها بسبب عدم لياقتهم وكفاءتهم.
وبالإضافة إلى خدمة حيوانات الإسطبلات، كان المستعبدون يرافقون ويصطحبون الجِمال التي تحمل مهمات وأغراض الحكومة والأنفار الشغالة، مثلما حدث عند تنفيذ بعض أعمال العمران الحكومي في منطقة طور سيناء.
وكان خروج المستعبَدين مع حيواناتهم إلى المناطق البعيدة عن القاهرة، يدفع بعددٍ منهم إلى اغتنام الفرصة والهروب. ولعلاج هذه الظاهرة دمغتهم الحكومة ليسهل عليها معرفتهم والقبض عليهم، وحتى لا يستطيع أحد ما أن يعيد بيعهم لأنهم ملك للحكومة.
مستعبَدون متعلمون
لم يقتصر شراء الحكومة على مستعبَدين من أصحاب البشرة السوداء فقط، فقد اشترت أشخاصاً بيضاً من الشركس، وانتقتهم من الذكور الصغار في السن (بين سبعة و13 عاماً)، وألحقتهم كتلاميذ في مدارسها المختلفة. وبحسب خليفة، هدف محمد علي من وراء ذلك إلى خلق طبقة من المتعلمين تدين بولائها للحكومة.
جلبُ المستعبَدين كان يتم بطرائق مختلفة، منها مهاجمة قوات محمد علي للقبائل السودانية لإلقاء القبض على عدد من أفرادها لإرسالهم إلى مصر
بجانب ذلك، ألحقت الحكومة بالمدارس بعض الأطفال المجلوبين من الحبشة و"ممن يتمتعون بالذكاء والوجه الحسن"، بحسب خليفة، وسمحت لعدد منهم ممن لم يبلغوا سن الـ13 بالسفر إلى الخارج للتعليم، ومنهم شخص يُدعى "ألماس"، سافر إلى إنكلترا للتعليم.
مرافقون لرجال الحكومة
عمل المستعبَدون أيضاً في مرافقة وخدمة المسافرين من الحكام ورجال الحكومة في تنقلاتهم الرسمية، سواء داخل البلاد أو خارجها، وكذلك في خدمة قوافل الحج، وتخصص في هذا الأمر المستعبَدون الأحباش، واشترطت الحكومة فيهم حسن المظهر والوجه، واشترتهم من بعض تجار بلاد الحجاز، وسددت ثمنهم من خزينة جدّة التابعة لحكومة محمد علي.
ويذكر خليفة أن الحكومة كانت توفر للمستعبَدين الرعاية الصحية، وكذلك الملابس والكسوات اللازمة صيفاً وشتاءً، وصرفت تلك الملابس من خزينة الأمتعة، كما قامت بتزويج المستعبدات العاملات في مصنع النسيج في منطقة الخرنفش، بالمستعبَدين المقيمين في وكالة بولاق، وجمع الزوجين في مسكن واحد.
كذلك، اهتمت الحكومة بزواج المستعبدات بعد أن حصلن على حريتهن، أو عتقهن، واتخذت إجراءات عدة في سبيل ذلك، فمنحتهن بعض الأراضي الزراعية. على سبيل المثال منحت 500 فدان من الأطيان لعشرٍ من المستعبدات في مديرية البحيرة، بواقع 50 فداناً لكل واحدة، لترغيب الرجال وحثهم على الزواج منهن.
محاولة إلغاء الرقيق
جرت محاولات عدة لإلغاء تجارة الرقيق وتحرير المستعبَدين الحكوميين في عهد محمد علي، بسبب ضغوط إنكلترا عليه في هذا الشأن. ويذكر الدكتور سمير عمر إبراهيم، في كتابه "الحياة الاجتماعية في مدينة القاهرة خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر"، أنه إزاء هذه الضغوط اتخذ والي مصر بعد زيارته إقليم السودان عام 1838، إجراءاتٍ من شأنها الحد من تجارة الرقيق هناك، فكتب إلى جنوده يطالبهم بمنع جمع البشر، وقال إنه على استعداد لتحمّل بعض التضحيات التي يتطلبها إبطال هذه التجارة.
ومع ذلك، فإن قوات محمد علي استمرت في جمع البشر وإرسالهم إلى مصر للالتحاق بالجيش، وكان يرد على احتجاج إنكلترا في هذا الشأن بأنه قد يحدث عصيان من بعض القبائل، أو تعدٍّ من قبائل على أخرى، فتزحف الجنود بالضرورة، ومَن أُسر من الصبيان والنسوة يُردّ إلى أهله، ومن كان في سن التجنيد يدخل في سلك الجيش ولا يعامَل معاملة الرقيق، ولا يُمنَع من الزواج.
وفي أواخر الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، عُقد في إنكلترا مؤتمر لمناهضة الرقّ، أخذ يتابع هذه المسألة في مصر والخطوات التي تُتخذ بصددها، وأرسل المؤتمر في آب/ أغسطس 1840، خطاباً إلى محمد علي يعبّر فيه عن اقتناعه بالدور الذي يقوم به الوالي خلال غزواته في شرق إفريقيا، وأشاد بتحذيره قواته وجنوده للامتناع عن خطف وجمع المستعبَدين، ولكنه دعاه إلى بذل المزيد من الجهد، غير أن تلك الجهود لم يُقدَّر لها النجاح، بحسب إبراهيم.
ويذكر إبراهيم أن تزعّم إنكلترا لهذه الحملة الكبيرة ضد تجارة الرقيق، يحمل بعض البواعث السياسية التي تتخفى وراء دوافع إنسانية، فإنكلترا كانت تتزعم في ذلك الوقت حركة مقاومة توسع محمد علي في الشام والأناضول وتأييد الباب العالي ضده، بينما كانت فرنسا تؤيد والي مصر، ولهذا وجدت إنكلترا في مكافحة الرقيق في مصر ثغرةً تنفذ منها إلى بسط نفوذها في مصر ومكافحة النفوذ الفرنسي.
كما أن الإنكليز أنفسهم كانوا يتاجرون في الرقيق الأسود في مستعمراتهم في إفريقيا حتى عام 1838، أي في الوقت نفسه الذي كانوا ينادون فيه بمحاربة الرقّ في مصر، بحسب إبراهيم.
تحرير المستعبَدين الحكوميين
استمر الأمر على ما هو عليه، حتى قام سعيد باشا باتخاذ أول خطوة عملية نحو إلغاء وتجريم تجارة الرقيق في مصر، فأصدر قراراً بإلغاء طائفة "الأسيرجية" التي تجلب الرقيق، وحدد لذلك موعداً أقصاه الثاني من آب/ أغسطس 1856، حسب ما ذكر خليفة.
بعد ذلك، قام سعيد باشا بتجريم تجارة الرقيق نهائياً في مصر، وأصدر قراراً بأن آخر موعد لهذه التجارة هو الأول من أيلول/ سبتمبر 1856، وبعد هذا التاريخ يعاقَب صاحبها بموجب الأحكام والقانون.
ولم يقتصر التحرير على الرقيق المملوكين للأهالي فحسب، إذ صدرت بالتوازي أوامر بـ"إنهاء خدمة" كل مستعبَدي الحكومة في المديريات وغيرها، وإطلاق سراحهم، ودفع ثمنهم من متأخرات وماليات تلك المديريات والمصالح الحكومية.
وبحسب خليفة، لم يتبقَّ من مستعبَدي الحكومة وجواريها حتى 18 تشرين الأول/ أكتوبر 1863، أي أوائل عهد حكم الخديوي إسماعيل باشا، سوى مستعبَد واحد وأربع مستعبَدات حكوميين/ ات، وبعد صدور قرار من الحكومة بعتق هؤلاء وتخصيص معاش لهم أُقفل الباب على صفحة سوداء في تاريخ أسرة محمد علي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...