تكمن حميمية المدن بانفتاح شوارعها على الزمن، ماضيه وحاضره، وبزواريبها المعتقة بالحياة، والألفة والأمان. لذلك نجد في المدن القديمة ملاذاً آمناً ومهماً لقضاء أوقاتٍ من الهدوء والراحة والمتعة، هكذا كنت أجد اللاذقية المدينة التي تغفو إلى شاطئ البحر، تداعب جفونه ليلاً، ليحرس الصيادين الذين يسعون إلى حياتهم دون كلل. المدينة التي تغسل عينيها من آلام الحرب وتداعب حيطانها نسمات الجبال القريبة، فهي كانت موطن التاريخ والجمال والثقافة، فالبحر أعطاها نقاءها، ومن أوغاريت انتشر الحرف الأبجدي الأول.
والسينما كما نعرف فن يجمع االتمثيل والأدب والشعر، حتى الرسم والموسيقى والنحت، والفنون التشكيلية والعمارة وغيرها. ولا ننسى الرقص أيضاً، لذلك يمكن اعتباره انعكاس النفس الإنسانية، وقادراً على تحريك الأحاسيس والتأثير عليها، وبالتالي تحريك المشاعر، ومن هنا يمكنه الارتقاء بالنفس فكراً وثقافة كرسالة حضارية وإنسانية مع مقدرته على إقامة حوار بين ثقافات الشعوب المختلفة.
تدمير دور السينما وتفريغ الحكايات
على مدى القرن الماضي وقبل العقد الأخير منه، كانت السينما حالة ثقافية مميزة في مدينة اللاذقية السورية، مع ست دور سينما هي: أوغاريت في ساحة أوغاريت، سينما اللاذقية في شارع هنانو الشهير، سينما دنيا في أول شارع المالكي، سينما الأهرام في وسط المالكي، ومقابلها تماماً سينما الكندي، وهي الوحيدة التي تتبع إلى مؤسسة السينما المملوكة من قبل الدولة، وآخرها سينما الزهراء القريبة من الحديقة العامة (المنشية). هذه هي الأمكنة التي كان يرتادها أبناء المحافظة، يرتاحون فيها ويتابعون أفلامهم التي يجدون أنها مناسبة، رغم أن نوعية الأفلام التي كانت تعرض تخضع للمعايير التجارية، وأهمها معيار شباك التذاكر.
كانت السينما حالة ثقافية مميزة، مع ست دور سينما في اللاذقية. ولكن فجأة استيقظ أهالي المدينة ليجدوا أن كل هذه الأماكن، التي شكلت ذاكرة المدينة الفنية وذاكرتهم أيضاً قد تبخرت دفعة واحدة. كيف وأين ولماذا؟ هذه هي الأسئلة التي لم يجد لها أحد أي جواب
ولكن فجأة استيقظ أهالي المدينة ليجدوا أن كل هذه الأماكن، التي شكلت ذاكرة المدينة الفنية وذاكرتهم أيضاً قد تبخرت دفعة واحدة، كيف وأين ولماذا؟ هذه هي الأسئلة التي لم يجد لها أحد أي جواب. ولكن ما لاحظه الناس، أن في مكانها ظهرت العمارات الجديدة التي تعج بالمحلات التجارية في طابقها الأرضي، وغيرها بالمكاتب التجارية والسكنية. إذاً هي مقايضة تجارية للحجر بالثقافة، فأصبحت الثقافة الفنية يتيمة المكان، ولم يبق سوى سينما الكندي، لأنها تتبع لمؤسسة السينما السورية، ولا تكترث بالنشاطات السينمائية إلا نادراً، فقد نجد خلال السنة كلها فيلماً واحداً يعرض، وغالباً يكون من إنتاج المؤسسة العامة للسينما.
سينما الأهرام
فشارع هنانو الذي كان يضم سينما اللاذقية، يبدأ من نهاية ساحة الشيخ ضاهر العريقة، والنابضة بقلوب اللاذقانيين وهم يرتاحون في مقاهيها الشعبية المشهورة، فيلتقي الطبيب والمهندس وأستاذ الجامعة مع العامل والمهني وكل الآخرين، حول طاولاتها التي شكلت مكاناً للمناقشات الفكرية والفنية والعامة، ولتلقي الأخبار.
وذلك منذ الخمسينيات، حيث كان يلتقي هنا الريف بالمدينة، لتدور نقاشات الحياة بزخمها وهمومها، وكانت روح الالفة والمحبة هي الفيصل في كل ذلك، وكان المشوار في شارع هنانو يمثل سفراً كونياً، إلى مخابئ الفن والمتعة، والتبضع والأكل، فكل ذلك كان يمثل أيقونة أعجب بها كل مرتادي الشارع، لينتهي عند مكتبة "عريف" الشهيرة، والتي كانت تزودنا بكل المجلات والجرائد المختلفة، ولا ننسى الكتب المتنوعة، لينتهي هنانو إلى تقاطع شارع "السيلمات"، كما كان اللاذقانيون يسمون شارع "المالكي"، الذي يمتد إلى الحديقة العامة (المنشية) قرب البحر، والذي كان يضم أربع دور سينما، كانت تزرع البسمة والفرح والمتعة والفائدة في نفوسنا.
سينما اللاذقية 1937
وسينما اللاذقية كانت بالقرب من ثانوية "جول جمال" ("التجهيز" سابقاً)، لذلك كان الكثير من مرتاديها من الطلاب الثانويين، وخاصة في العروض الصباحية. فغالباً ما كنا نحضر نصف الفيلم ونغادر السينما في الاستراحة لمتابعة الدروس، وذلك أثناء الدوام المسائي، ولكن كنا نعود عند الدوام الصباحي لنكمل القسم الثاني من الفلم، فكنا نركض مسرعين بالدخول من الباب، دون أن يلاحظنا الحارس، وهذا ما حصل مع فلم "اللص الظريف" لنهاد قلعي ودريد لحام مثلاً.
تجارب ثقافية في المدينة
كانت السينما بالنسبة لنا مكاناً للثقافة والاكتشاف؛ اكتشاف العالم بجغرافيته وشخوصه وهمومه، وطريقة حياته واختراعاته واكتشاف الأفكار، وبنفس الوقت كانت مكاناً للراحة والاستمتاع، وحالة اجتماعية عندما نرى الجميع يجلسون وينصتون بمودة، وإن كانت الكثير من الأفلام لا تشكل حالة فنية وفكرية مهمة، بل كانت مجرد استعراضات وغناء كما في الأفلام الهندية، ولكن تبقى السينما مكاناً للتحضر وللمستقبل، فهي القادرة على أن ترينا محاولات فانتازية فنية للمستقبل مثلاً.
ولذلك كان الكثير ومن مختلف طبقات مجتمع المدينة يرتادها، ولكن مع مرور الوقت أصبحت بعض هذه الدور تعرض أفلاماً متواصلة، فكانت الأفلام التي تعرض أغلبها يهتم بالأكشن والإغراء، فانحدرت مستويات العروض كثيراً. وهذا كله ناتج عن عدم اهتمام ودعم المؤسسات الثقافية لها، من خلال تأمين ما يلزم، أو دفع أصحابها إلى التقيد بمستويات معقولة من الجاهزية والأفلام، وانحسار الاهتمام الشعبي بالسينما، نتيجة الظروف الاجتماعية والاقتصادية ربما. وكل ذلك كانت أسباباً جعلت موتَ دور السينما يتحقق بسهولة ودون عناء.
أغلقت دور السينما، وخسرت اللاذقية واجهة فنية مهمة جداً، ولم يبق لها غير البحر تتنفس من خلاله. فالصالات ربما أصبحت فائضاً عن الحاجة وترفاً لا نرقى له، أو ربما يكفينا التلفاز بمسلسلاته الطويلة والقصيرة، والتي تمتلئ حشواً وحوارات لا طائل من أغلبها
في صالات السينما باللاذقية تعرفنا على أفلام عربية مثل "شيء من الخوف" وفيلم "الأرض"، و"زوجتي والكلب والفهد"، وغيرها الكثير من الأفلام، ولا ننسى الأفلام الأجنبية مثل "القيامة الآن"، "الحي الصيني" و"آني هال"، و"سائق التاكسي" و"الفك المفترس" وغيرها الكثير. كما استمتعنا ببراعة الممثلين وبالأمكنة التي كنا نعيش معهم فيها،. شكلت السينما لدينا حالة ثقافية فريدة، فهي تعطي الدهشة والمتعة والفن البصري والإثارة معاً. لكن ذلك فُقد اليوم بفقدان دور السينما التي كانت رائدة في اللاذقية.
سينما الكندي
وبغض النظر عن مستوى الأفلام التي كانت تعرض، فقد كانت تمثل السينما حالة مختلفة من الوقت والفراغ، كانت تملؤُه بمتعة وفائدة في أغلب الأحيان، لكن دور السينما بقيت وحيدة دون أن يساعدها أحد، أو يشجعها على المضي، بل من شجع أصحابها على بيعها أو هجرها، هم تجار العقارات الذين استأثروا بكل هذه الأبنية، دون أن يدفعهم أحد إلى الاحتفاظ على أي صالة ممكنة في أي بناء.
كانت تمثل هذه الدور بالإضافة إلى دورها في عرض الأفلام، مكاناً لإقامة الحفلات الفنية، والمسرحية، وكذلك لإقامة الندوات الثقافية والكثير من النشاطات الأخرى، التي انحسرت وانحصرت في أمكنة قليلة جداً.
هذه المهام كانت تشكل إضافة للمشهد الثقافي والفني اللاذقاني، ولكن مع ازدياد الإهمال الثقافي والفني وسيادة مبدأ الربح والخسارة، أصبح تجار العقارات الرابحين دون غيرهم. فأغلقت دور السينما، وخسرت اللاذقية واجهة فنية مهمة جداً، ولم يبق لها غير البحر تتنفس من خلاله، وربما أتت الأمواج التي قد تلوي عنق الآمال، لمراكب لم تستطع أن ترمي شباكها جيداً، فأكل السمك الرزق، وبقيت المدينة تلملم بقايا حبرها على حيطان الفن السابع المغيب عنها، فالصالات ربما أصبحت فائضاً عن الحاجة وترفاً لا نرقى له، أو ربما يكفينا التلفاز بمسلسلاته الطويلة والقصيرة، والتي تمتلئ حشواً وحوارات لا طائل من أغلبها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.