يُعرّف حلم اليقظة في معجم علم النّفس والتّربية أنّه استرسال في رؤى تتخايل فيها الرغبات غير المشبعة وكأنها تحققت، وحلمي هو ما أبقاني على قيد الحياة رغم كل الصدمات والرّضات النفسية التي تعرّضت لها منذ الطفولة حتى هذه اللحظة، بفارق بسيط عن التعريف السابق، هو إدراكي أنّ حلمي سيتحقق يوماً.
كفرد في المجتمع أو في مجتمعنا على الأقلّ، من المتعارف عليه أن تُنهي عدداً من مراحلك الدّراسية بنجاحٍ يخوّلك لتبدأ مسيرتك الجامعية في عمر الثامنة عشر تحديداً، وكأن جميع من قطع مراحله الدراسية يعرف ماذا يريد أن يعمل! مناهجنا الدراسية مغيّبة تماماً عن جوانب حسّاسة كمعرفة الذات وتحقيقها، كما أنّها لا تعلّمنا كيف نصبح أمهاتٍ وآباءً وأزواجاً صحيّين، ولا كيف نستطيع إدارة منزل أو هدف أو علاقة، وكيف نتعلم من أخطائنا، إذن من أين لنا أن نعرف ماذا نريد أن نصبح وفي عمرٍ كهذا؟!
كلّ الذين أعرفهم من أبناء جيلي و شهدتُ -بطبيعة الحال- تلك المرحلة من حياتهم، كانوا مثالاً شديد الوضوح لفكرة واحدة: إنّ دراسة فرعٍ جامعيٍّ (تحبه) رفاهية، نعم، أن تحلم حلماً وتسعى لتحقيقه هنا بات رفاهية غير مشروعة، لم أصادف في حياتي المدرسية شخصاً يعرف مايريد، أو يحلم بدراسة فرع معين، فآراء العائلة والأقارب والجيران أولى بالاهتمام من الوعي الذاتي بنظر الكثيرين ممن أعرفهم، وأنا لا ألومهم لأننا تربينا هكذا لكن بدرجات متفاوتة، وبات اقتراح فرع آداب أو معهد بالنسبة لطالب أنهى المرحلة الثانويةبمثابة شتيمة لا أكثر، أضف أنّ الألقاب المهنيّة (دكتور، مهندس، محامي...) صارت عذراً لإزاحة الأحكام الإنسانية بعيداً عن أصحابها، فهي تمنحهم نوعاً من حصانة اجتماعيّة لا تتبعُ المنطق.
أصبح حلم تصميم عرض مسرحي غنائي راقص هو "شغلي الشاغل" وشعلتي بحلّتها الجديدة، كانت ترافقني في نومي ويقظتي، وما كان لحلمٍ كهذا أن يظهر إلا بصورة ساذجة وتافهة في محيطي بسبب جديتي في التعامل معه
بالنسبة لي، كان هناك ما يتوقد بداخلي منذ أن سمعت أول أغنية في حياتي، كنت أستقل ميكروباص برفقة أمي، وسمعت حينها أغنية الراحل نصري شمس الدين "يا مارق عالطواحين"، وحينها، بدأت أشعر بشعلة تسري في عروقي جعلتني أتمنى أن أوقف الميكروباص و أجعل جميع الركاب يرقصون معي على أنغام الأغنية، ولكن هذا حلم يقظة، فهو لم يتحقق.
كطفلة في الألف الثالث، قررت أن أستبدل قنوات أغاني الأطفال المشهورة بمحركات أقراص كانت قد بدأت تنتشر حينها، لفيروز ونجوى كرم وغيرهن، واستبدلت أفلام الكرتون بالمسلسلات والمسرحيات وبرامج الهواة، ولاحقاً، باتت مسرحيات الرحابنة وأغانيها كالصلاة بالنسبة لي، كنت أصنع مايكروفون وهمي من خلال بيل كهربائي تالف، أو فرشاة لتسريح الشعر، وأغني أمام المرآة، أذكر نظرات أبي الساخرة عندما كان يفتح باب الغرفة ويشاهدني أغني، وأذكر ردة فعل زملائي في المدرسة عندما سمعوا زميلة لي تدندن، أو ردة فعل إحداهن عندما شاهدت صور بعض الفنانين معلقة على جدار غرفتي.
هذه اللحظات كانت كفيلة أن تجعلني أحيد عما أهواه أمام الملأ، كون هشاشتي النفسية حينها قد فرضت نفسها عليّ، ولاحقاً ومع تغير تلك النظرات تدريجياً وبروز العديد من الموهوبين، علقت في وهم الخوف والغرابة، وما كان لشيء أن يخرجني من تلك الدوامة سوى وجود من يشاركني شغفي هذا باعتباره غير موجود في حياتي، لا في المدرسة ولا في البيت، وحلم احتراف الغناء أصبح حلم يقظة أيضاً.
كنت أكبر وتلك الشعلة تكبر معي، لطالما كانت سبباً لاستعادة نفسي من البكاء أحياناً ومن الانتحار أحياناً أخرى، ومن ردّات فعلٍ كثيرة كانت طبيعيّة آنذاك لمراهقة لا وجود لمن يحتوي شغفها هذا.
كبر معي حبي للمسرح، وأصبح حلم تصميم عرض مسرحي غنائي راقص هو "شغلي الشاغل" وشعلتي بحلّتها الجديدة، كانت ترافقني في نومي ويقظتي، وما كان لحلمٍ كهذا أن يظهر إلا بصورة ساذجة وتافهة في محيطي بسبب جديتي في التعامل معه، وهنا أخذ الصراع مظاهر جديدة تقاطعت مع الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة من جهة، وبعض الأحكام النمطية المجتمعية المفروضة من جهة أخرى.
بين حلم حضور الكهرباء لمدة ساعتين متواصلتين، وإيجاد حافلة دون أن نتأخر على عملنا أو جامعتنا، وبين تماسك العائلة للحفاظ على أسطوانة الغاز لما يقارب الشهرين بلا انقطاع، يتوه حلمي المنشود، فلا مشروعية الحلم تجعل كل من حولك ينظرون لك نظرةً مفادها أنّك حالمٌ لا واقعي وأنانيّ في بعض الأحيان، وبالتالي ستغرق في دوامة جلد الذات وتأنيب الضمير عما تهتم به من "رفاهية" في ظروف كهذه.
"أنت مجنونة لتنقلي من الإعلام لعلم الاجتماع وتنزلي مرتبة؟"، الجمل الصادرة من عائلتي وأقاربي، وحتى موظفي شؤون الطلاب، لم تجعلني أغيّر قراري، حتّى بدا لي أنّ تغيير فرعي الدراسي مشكلة وطنية لا شخصية
أصبحت مرحلة ما بعد الشهادة الثانوية كابوساً لا حلماً في زمني، وبات سؤال "شو بدك تدرسي؟" يلاحقني في نومي كما يقظتي، سواء كان صادراً من أناس يهتمون لأمري بحسن نية، أو بدافع الفضول وفرض الرأي الشخصي، الضياع والحيرة كادا يقتلاني، هنا بين البحر والشجر لا وجود لمايكروفون حقيقي، أو شخصيات تؤدي نصوصي المسرحية بجديّة، ما جعلني أخضع لقرار دراسة الإعلام والانتقال للعيش في السكن الجامعي في دمشق، وقرار كهذا ليس سوى قناع للعبور أمام عائلتي، عبورٌ سيمكّنني لاحقاً من التقدم للمعهد العالي للفنون المسرحيّة، و تغيير فرعي الجامعي بمجرد قبولي في المعهد.
كشخصية حديّة، لا أستطيع أن أتقبل المواقف المستفزة حول التدخل في حياتي ، كنت أسعى للحرية منذ الصغر، وها أنا أتحدى كل من حولي لتحقيقها، لا تختفي من ذهني ردات فعل أبي وبعض الأقارب حول مصيري الدراسي المُخطط ذاك، وهذا ما زاد من الضغوطات النفسية عليّ بعد أن تم قبولي في قسم الدراسات المسرحية في المعهد العالي، إذ اضطررت، رغم تقبّلي للإعلام، أن أرتب أولوياتي وأنقل فرعي الجامعي لفرع لا يتطلب دواماً إجبارياً يومياً كي أستطيع تمرير الوقت في المعهد.
"أنت مجنونة لتنقلي من الإعلام لعلم الاجتماع وتنزلي مرتبة!"، "شو خطرلك"، "حدا بيستغني عن الإعلام"، كل هذه الجمل الصادرة من عائلتي وأقاربي، وحتى موظفي شؤون الطلاب، لم تجعلني أغيّر قراري، لم أبرّر لأحد بشكل مباشر، وقمت بصد العديد من محاولات التدخل، حتّى بدا لي أنّ تغيير فرعي الدراسي مشكلة وطنية لا شخصية.
في داخلي كنت أحترق بالمعنى الحرفي للاحتراق، فباعتباري شخصية حديّة عالقة بين التناقضات، أهدأ ساعة وأثور لساعات، علقت بين تفردي بحلمي وبين آراء الناس، وماهية علاقتها بمسيرة حياتي، فكيف لي أن أصف لكل هؤلاء معنى الأولويات والشغف والطموح والسعي للحرية؟ كيف لي أن أبرّر لكل هؤلاء أنني لست أصلح لأكون شخصية إعلامية؟ كيف لي أن أمنع عائلتي من أن تحقق حلمها بي؟ كل هذا لا ينفع مادامت التراتبية اللامنطقية تحكم حياتنا.
أنا اليوم أدرس فرعين لا ينفصلان عن بعضهما مضموناً، في كلية الآداب أدرس الاقتصاد والثقافة والسياسة والإنسان والشخصية والتاريخ والإحصاء تحت عنوان "علم الاجتماع"، وفي قسم الدراسات المسرحية لست سوى طفلة أكتب وأتعلم وأخطئ وأجرّب وأتعرّف على ذاتي في كل تجربة مهما كانت نتيجتها، مع الوقت تقبلت عائلتي قراري، وبتّ أسمع الجمل الداعمة من العديد ممن حولي رغم التهكم من قبل البعض الآخر، و أتعرّض يومياً لمواقف تجبرني على ترك المعهد وأتحداها، لا أعرف إن كنت سأقوى على التحدي في المرات القادمة، ولا أعرف إن كان هذا الطريق الذي يعتبر المنفذ الوحيد سيحقق حريتي المنشودة في ظل الظروف التي لا تبشر إلا بالحضيض بالنسبة لأبناء جيلي، لكن ما أعرفه حق المعرفة أن الشعلة التي أبقتني على قيد الحياة ليست مجرد حلم يقظة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...