لم تكن علاقتي بالمسرح في الطفولة أكثر من مشاهدة المسرحيات التي تعرض على القنوات المصرية أثناء الأعياد. ظلّت العلاقة سطحية إلى أن التحقت في 2008 بكلية الآداب، قسم الآثار اليونانية والرومانية، وفي مادة الأدب درست تاريخ نشأة المسرح وفلسفته.
عرفت أن المسرح نشأ كطقس ديني، في معابد إله الخمر ديونيسوس، كان أحد أنواع الصلاة. هذا البُعد عمّق علاقتي بالمسرح جداً. قرأت أعمال الفرنسي ألبير كامو، وتأثرت بها جداً، وأصبح كامو بطلي الخاص.
عرفت أن المسرح نشأ كطقس ديني، في معابد إله الخمر ديونيسوس، كان أحد أنواع الصلاة.
المسرح أحد حلول ممارسة الحياة أمام عبثية العالم. على المسرح إما أن تخرج حياً بتصفيق وإعجاب الجمهور، أو ميتاً بعدم الإعجاب منهم أو التجاهل، فالمسرح ليس إلا إحدى طرق لعب الروليت الروسية، طبقا لكامو.
عندما هاجمني الاكتئاب إلى درجة كادت تفتك بي، لم أجد علاجاً لدى الطبيبة النفسية، ولا حتى في الصلاة. كنوع من المحاولة اليائسة قرّرت تجريب المسرح واختبار ما قرأت عنه.
كانت عبادة ديونيسوس لدى الإغريق عبادة علاجية، تهدف إلى التنفيس عن كبت البشر من الحياة، وكنت أتمنى أن يكون المسرح، وهو أحد طقوس هذه العبادة، سبيلاً للتنفيس عني.
حرية الارتجال على خشبة المسرح
التحقت بفرقة حكي مسرحي للهواة، وبدأت أتدرب على أساسيات التمثيل والحديث على خشبة المسرح وكيفية الحركة، وكل التفاصيل الخاصة بأداء الممثلين المسرحيين، لم يكن لدى حماس كبير في التدريبات.
كان هناك جانب آخر للتدريب وهو الحكي الشخصي، لم أكن أبدي استجابة جيدة به أيضاً، كنت بارداً بلا روح، بلا مشاعر، كل تلك التدريبات على الحكي أو التمثيل كانت داخل غرف صغيرة للبروفات.
عندما هاجمني الاكتئاب إلى درجة كادت تفتك بي، لم أجد علاجاً لدى الطبيبة النفسية، ولا حتى في الصلاة. كنوع من المحاولة اليائسة قرّرت تجريب المسرح واختبار ما قرأت عنه
لكن مع أول بروفة فوق خشبة المسرح، حدث شيء لم أتوقعه. كان كل شيء مظلماً حولي إلا بؤرة الإضاءة التي أجلس فيها على كرسي أعلى المسرح، لا أرى أحداً من أعضاء الفرقة أو المتدربين، لا أرى إلا الظلام حولي، والنور يخرج مني، بسبب انعكاس الكشاف.
قررت أن أرتجل وأحكي قصة حقيقية، علاقة جمعتني مع فتاة من خارج ملتي. كان عقلي يعمل بسرعة أكبر من جسدي، كنت أرى في خيالي كل ما يجمعني مع ماريا، وأقوم باتخاذ قرارات سريعة حول تقديم أو تأخير بعض الأحداث، وحذف البعض الآخر، والانتقال من مشهد إلى مشهد، وأثناء الحكي بدأت أخطط أين أنهي كلامي بأي طريقة وماذا أقول بالتحديد.
عملية الارتجال فوق خشبة المسرح تمنح أفقاً أبعد من المعتاد في الحياة، كنت قادراً على التجول في خيالي وكأنه ملف تحرير فيديو، أرتب الصور بعد حذف الزيادات، وأقوم بالتشغيل، وأنقل من خلال أحبالي الصوتية مشاعري وما أراه.
اندمجت تماماً مع خيالي أثناء كلامي عن ماريا، بعد انتهاء الحكاية شعرت أنني بحاجة إلى المزيد من النور والهواء. خرجت من قاعة المسرح، كانت السماء تمطر. أشعلت سيجارة. كنت أنظر إلى السماء والمطر وأنا أبتسم، وبعد أن كنت فقدت الاستمتاع بتفاصيل الحياة، بدأت أكتشف تفاصيل خفية عن تجسيد الخيال وإضافاته لتجميل الحياة. قوة الخيال التي اكتشفت بدأت تقتلع جذور الاكتئاب من داخلي.
المسرح كعلاج لثقوب النفس
يعتقد الكاتب التركي أورهان باموق، في كتابه "الروائي الساذج والحساس" أن الكتابة تتيح له أن يلعب أي دور في الحياة، يمكن أن يكون لصاً أو شرطياً أو طبيباً أو أي شخص، وكان المسرح مثل الكتابة، أتاح لي أن أكون طبيباً نفسياً على خشبته.
يمنح المسرح متعة مزدوجة: متعة الأداء المسرحي والتمثيل، ومتعة إعجاب الحضور.
الخيال هو الحد الفاصل بين العقل والجنون، بحسب الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، فإذا تخيّلت أنني مدرس لغة عربية سيعتقد أصدقائي وأهلي أن عقلي أصابه عطب ما، بينما يمكنني الظهور كطبيب نفسي على خشبة المسرح، دون أن يحكم أحد على سلامة عقلي.
يمكنني ممارسة الجنون أو ادعاء أنني حمامة أو ثعبان أو حتى روح من خارج هذا العالم، على المسرح يضحى كل شيء مقبولاً.
عند مذاكرة دوري في المسرحية، بدأت أنبش عن المساحات المضطربة داخلي، وعلى أثر ما هو حقيقي وكامن فيّ. بدأت أشكل شخصية الطبيب مراد، الرجل الذي يهتز جسمه، تقدم عيونه غمزات لا إرادية للآخرين، لا يسمع مرضاه، ويصدر الأحكام سريعاً، ولا يتعاطف مع أحد، ويرى الجميع مرضى نفسيين، لا يهتم لأي قواعد ويقوم بالتدخين في كل مكان.
كان مراد ظهوري الأول أمام 300 شخص تقريباً على مسرح الجزويت في الإسكندرية. لم أخض التجربة من قبل، وكان مشهد البداية لي، وما إن تركزت الإضاءة علي، وبدأت أقدم نفسي: السيجارة التي أدخنها والطريقة الانفعالية للحديث. كانت الأصوات تتعالى ضاحكة، كنت سعيداً جداً وأشعر أنني استحوذت على اهتمام الجميع.
في المشاهد التالية من المسرحية كنت استمع إلى حالات المرضى في عيادتي، قلّل هذا من مساحة الاهتمام بي، خاصة مع ضجيج الجمهور المتحمس في بداية ظهوري الثاني، خطفت مني الشخصية التي تحكي معاناتها كل شيء، تهميشي بالمشهد الثاني كان محبطاً لي، كما أعتقد أنه كان محبطاً للجمهور الذي توقع مني شيئاً ما.
المسرح هو المساحة الوحيدة التي تمنح الاهتمام والإعجاب الذي نفتقده في حياتنا ونخجل أن نطلبه من الآخرين. رطّب المسرح روحي بعد أن جفّفتها الأحزان
قررت أن أضيف أداء حركياً لم يكن جزءاً من الدور، انطباعات عن سماع قصص الحالات، تارة أكتب، تارة لا يعجبني الحديث، أسقط القلم على الدفتر، وأنظر غاضباً للحالة، أو في بعض الأحيان تسيطر الانفعالات على عيني، أو يدي بشكل لا أتحكم فيه. بدأ الجمهور يبدي رد فعل مع تحركاتي، وهو ما جعلني شديد الرضا في نهاية مشاهد الاستماع.
مثلما يمكننا أن نكون أي شيء على المسرح باستخدام الخيال، يمكننا السعي إلى الحصول كل انتباه واهتمام الآخرين، ومثل هذا السعي في الحياة يجعل من الشخصية موصومة بالـ attention whore، بينما على المسرح، أنت محبوب لأنك ممثل بارع.
شعرت أن هناك حالة أخذ ورد بيني وبين الجمهور، في كل مشهد أرفع توقعاتهم تجاه ظهوري القادم، إلى أن جاء مشهد النهاية، وبعد هذا التصاعد في الأداء مني والإعجاب منهم، شعرت أنهم يجب أن يحصلوا على أمر أكثر متعة مما هو في النص المسرحي.
تختم المسرحية بإعجاب مراد بفتاة ثقيلة الظل، يهرب الجميع منها بعدما تطلق النكات، وهو ما حدث قبل دخوله النادي بدقائق، طفش عريسها الأخير بعدما أخبرته نكتة سخيفة، يجلس مراد إلى جوارها بسبب عدم وجود كراسٍ شاغرة في كافتيريا النادي، ويدور بينهما حديث، ثم تبدأ في قول نكاتها السخيفة، التي تعجب مراد.
بعد العرض، جاءتني فتاة تسألني: هل هذه شخصيتي الحقيقة أم أنها تمثيل وخيال؟ جاء رجل آخر يسألني أي مخدر تناولت حتى أقدم هذا الدور؟!
قررت أن أضيف ضحكة غريبة بعد كل نكتة تقولها، وكنت أطلب المزيد، ثم وجدتني أرتجل وأخرج عن النص، وأطلب منها أن تقابلني كل يوم ثلاثاء في عيادتي تخبرني المزيد من النكات، وبعد أن تنتهي، أعرّضها لجلسة كهرباء، حتى تتوقف عن قول نكاتها.
هذه المساحة من التلاعب جعلت الجمهور أكثر إعجاباً بما أقدم كمراد، ومع هذا لم أكتف تماماً، عندما جاء وقت التحية، أعتقد أنني حصلت على التحية الأقوى والأطول بين زملائي، لكنني شعرت بالرغبة بالمزيد، وبعد انتهاء الجمهور من التصفيق والتحية، قمت بإشعال سيجارة حتى يقدموا المزيد من التحية والتصفيق.
بعد العرض، جاءتني فتاة تسألني: هل هذه شخصيتي الحقيقة أم أنها تمثيل وخيال؟ جاء رجل آخر يسألني أي مخدر تناولت حتى أقدم هذا الدور؟!
متعة لانهائية
حين يموت الممثل على الخشبة يبقى بالحقيقة في الحياة، ولكن في منطق المشاهد والممثل يصدق الجميع أنه مات، في المسرح ذلك الإيمان الذي يجعل الإنسان يصدق الحياة. أعاد المسرح لي إيماني بنفسي والعالم والجمال.
يمنح المسرح متعة مزدوجة، متعة الأداء المسرحي والتمثيل، ومتعة إعجاب الحضور. هناك مساحة من الحقيقة، ورد الفعل المباشر، فلا شاشة تحجب الممثل عن الجمهور، ولا يحتاج أن ينهي أداءه ليعرف تقييمهم. إنه نوع من التقدير المباشر، من خلال الهمسات والترقب والضحك والتصفيق.
المسرح هو المساحة الوحيدة التي تمنح الاهتمام والإعجاب الذي نفتقده في حياتنا ونخجل أن نطلبه من الآخرين. رطّب المسرح روحي بعد أن جفّفتها الأحزان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه