الرحيل، المقبرة التي على الجدران
كان المفتاح على الباب الخارجي للمنزل، باب غرفتها مغلق على غير العادة، هل بقيت في المنزل ولم تذهب إلى العمل؟ أسرعت لوضع ردائي عليّ، يبدو أني لست وحدي في المنزل. مرّت الأوهام سبعة في الدقيقة الواحدة. منذ عدة أيام لم أغسل شعري، وضعت عليه شامبو وماء ساخن، شعرت بأن شيئاً ما سيحدث وبأن عليّ أن أغسل شعري حتى أستعد للحظات القادمة.
فقط مجرد مفتاح من الداخل، باب غرفة نوم مغلق بشكل محكم، لا ضوء يتسرب، ولا خفّي نوم مسنودين على عتبة باب الخروج، ربما كان تأخراً عادياً عن العمل لشريكة سكني الممرضة.
بينما نتحدث على السكايب، بحثنا مرة أنا وصديقي السوري عن معنى اسم فلورانس، قال ضاحكاً: "ازدهار". وحين كنا نتحدث يسألني: "كيف هي زوجتك ازدهار؟". كانت فلورانس تخشى البقاء وحدها في غرفة المعيشة، هي التي كانت تريد أن تشاركني في كل شيء: الطعام، مشاهدة الأفلام، الخروج للمقاهي، ركوب المترو، المشي بين باب البيت ومحطة التراموي.
كنت قد درّبتُ نفسي على البقاء وحيدة، لم يعد الأمر ينفع بعد الآن، أن أعيش اللحظة، أن أتكلم عن الطقس بطريقة طبيعية كأن لا يوجد عاصفة وراء كل كلمة وشمس في كل خلل لفظي سببته اللكنة السورية. كان من الصعب أن أنسى، كان ينقصني الكثير لأنسى، الكثير لدرجة أنه صار هو أيضاً كيانا بمفرده، يعيش وحده، وربما كان يسليني ولا ترينه فتخافين.
كنت أقول عن "ازدهار" إنها تخاف من شيء ما داخلها، شيء ما يحركها ويجعلها لطيفة على الدوام، تخشى البقاء وحدها، وكيف لي أن أعرف سبب هذا الخوف؟ بينما أثرثر كي أطعم ذلك الكيان من كلمات مفتتة يسألني صديقي ممازحاً: "اجت مرتك؟".
موت بيدين مضمومتين
صباح يوم الجمعة من شهر كانون الثاني ماتت فلورانس، دخلت غرفتها بعد عدة محاولات لإيقاظها مباشرة وبشكل غير مباشر، أصوات أبواب، نداء من وراء الباب، مكالمات صوتية... لا أحد.
كانت الشمس قد عادت للعمل من الثامنة صباحاً حتى السادسة مساء، مثل مهندس في شركة حديثة، ولم تكن فلورانس هنا، كان علينا أن نتعود، أن تنطفئ امرأة ملاك فقط لأنها نامت، أو ربما لأن الشمس نسيتها... مجاز في رصيف22
دخلت، وكانت الغرفة عاتمة، كأن الشمس كانت تعرف موت من في الداخل، كأن من يموت ينسى أن يفتح النافذة في السادسة صباحاً. فلورانس فلورانس... لا أحد يرد. لمست يدها، باردة، دلو ماء بارد على شعري المبلل أصلاً، ذهبت للجهة المقابلة، لمست كتفها، ساخن، هل لأنه تحت اللحاف؟ هل هي هنا، بيد باردة وكتف ساخنة... من أصدّق؟ البرودة على أطراف اللحاف أم ذلك الدفء تحته؟
اتصلت بالطوارئ، شعري لا زال مبللاً. صفي لنا المصابة/ المريضة/ الشخص.... نسيت ماذا يقولون. هل هي قاسية؟ نحن متفقون إذن على أنها قاسية ولا يمكن تحريكها؟ نعم نعم. حسناً. حسناً ماذا؟ سيدتي، أعتقد بأن الشخص الذي أمامك ميت. أعطنا العنوان، سنرسل طبيب طوارئ وسنتصل بالشرطة ووو...
حسنا، والآن، ماذا حدث؟ منذ قليل كنت أحلم، مازالت سوائل الحلم تسيل على الطاولة، بالكاد غسلتها من تحت عيني، من بين فخذي، يا ليت الذين يرحلون لا يفعلونها في الصباح الباكر. تقوّس ظهري، كانت تلك هي المرة الثانية التي يتقوس فيها ظهري من الصدمة، المرة الأولى حين غرق أبي في غيبوبة صغيرة معلنة بدء مسيرته مع الأزمات الدماغية، ومعلنة شللاً عاطفياً من قِبلي، اختلالاً في الصورة، وفي وزن الشجرة التي آوتني من دون أسئلة، ثم علّقتني أرجوحة لا ساقين لها.
بانتظار وصول الشرطة والطبيبة، لبست ثوباً كحلياً منقطاً بالأبيض، كولون شتوي مشدود على الأصابع والأفخاذ والساقين، سترة صوفية، وجلست على الكنبة. حين أشعر بالخوف، ذلك الخوف الذي لا تتنظر أن تحدث كارثة بعده، بل لأن الكارثة كانت ماثلة أمامك، ثم تفجرت كحبات حصى صغيرة داخل كِلية موضوعة على الطاولة، أبدأ بالاهتزاز للأمام والخلف، نعم، مثل يهودي على حائط المبكى، أو مثل جرة مليئة بالحليب كانت جدتي تملأها حتى تخرج الزبدة في آخر دورة الهز، كتلك التي كانت النساء يضعن الرضع أمامها حتى تخرج اللثغات من أفواههم.
منذ قليل كنت أحلم، مازالت سوائل الحلم تسيل على الطاولة، بالكاد غسلتها من تحت عيني، من بين فخذي، يا ليت الذين يرحلون لا يفعلونها في الصباح الباكر... مجاز في رصيف22
نصف كأس لبن يوناني. تسألني مجموعة الشرطة الأولى: ماذا حدث، استيقظت، كنت شاهدت المفتاح في الباب، غسلت شعري، ولبست ثوباً منزلياً خفيفاً لأنني لست وحدي في المنزل، ثم بعثت رسالة نصية لفلورانس: coucou. تسألني الشرطية هل من الممكن أن ترينا "الكوكو" في رسالتك؟ انفلتت مني ابتسامة مثل قطعة خمسين سنتاً بين مئات اليوروهات، اختفت وبقيت لمعتها مثل طعم مرّ وصدِئ، ابتلعتها ولم يلاحظها أحد.
لوح شوكولا مُرّة من مدغشقر مقصوص نصفين وعلى ظهره مكتوب: تجارة عادلة. تسألني طبيبة الإسعاف ماذا حدث؟ كنت أشعر بالنعاس، رأيت باب غرفتها مغلقاً، فلورانس لم تذهب إذن إلى العمل، أخذت حمام دوش ساخن وغسلت شعري هذه المرة ثم ناديت من خلف طاولة الفطور عدة مرات... فلورانس. لا أحد يرد.
يسألني فوج الشرطة الثاني: ماذا حدث سيدتي؟ ربع موزة يزداد اسودادها مع كل لحظة تمرّ، مع أني لم أكن أملك الصبر اللازم كي ألاحظ ذلك. طرقت الباب عدة مرات... فلورانس. لا أحد يرد.
فنجان عليه زهور ووجه بطة مليء حتى خصره بالقهوة، لا بد أنها صارت باردة. تسألني ضابطة الشرطة العدلية أين هويتك سيدتي؟ أين تقع هذه الـ "طرطوس"؟ هل لدى الميتة مشاكل مع أحدهم؟ أكانت علاقتها بأخيها جيدة؟
أن يدفنوك مع ثوبك المفضل، مع طوقك وأقراطك التي تحبين، مع ضحكتك إلى الأبد، ثم يضعون دمعهم مع التراب، جميل وقاس وغير قابل للحركة، بعينين مغلقتين وفم توقف عن التساؤل، عن فتح الأسنان صفين من السنونو
امتلأ الصالون بالشرطة، بعضهم على الشرفة الصغيرة، لمحتها لوهلة من بعيد: شرطي ضخم بكمامة، ثلاث حاويات، واحدة للمواد الممكن إعادة تصنيعها، واحدة عادية، وأخرى للمواد العضوية، عشّ للحمامات التي تأتي فقط حين نختفي عن الشرفة، ونبتة بقدونس ميتة بسبب المطر الزائد أو الإهمال.
مرات وأنا أحكي لهم عن الدوش الساخن وكيف دخلت الغرفة وقلبت فلورانس على ظهرها في محاولة مني لجعلها تتنفس بسبب نصف جسدها الساخن، لاحظت بأني لم أكن أضع كمامة على فمي، فأبتعد نصف خطوة، وأكاد أدوس على شرطي آخر. غريب أنّ ما ذكّرني بالحياة وقتها هو سبب آخر للخوف.
من مخمل أسود مخطط بالدانتيل الذهبي، حذاؤها المفضل، وما هو ثوبها المفضل؟ يسألني أخوها، ومن هم مغنوها المفضلون؟ ثم علينا اختيار الثوب. أن يدفنوك مع ثوبك المفضل، مع طوقك وأقراطك التي تحبين، مع ضحكتك إلى الأبد، ثم يضعون دمعهم مع التراب، جميل وقاس وغير قابل للحركة، بعينين مغلقتين وفم توقف عن التساؤل، عن فتح الأسنان صفين من السنونو.
حين لا تعرفين أصلاً ما هي وجهتك
كانت فلورانس ممرضة في مصحة نفسية، مرات كثيرة بينما نمشي في المدينة يناديها عابرٌ باسمها، يبدو عليه التعب من الحياة ومن ضرورة الاندماج بمساعدة الأدوية والعقاقير، بينما أنا إلى جانبها وأنظر إلى نفسي، على الطريق الفرنسي الجميل، مليئة باحتمالات عقاقير، مكدسة بذكريات أمراض، محتشدة بخوف من الهشاشة التي تحول مرضى فلورانس إلى أوانٍ قابلة للكسر بشكل مباشر. أحيانا تكاد تشعر بأنك قطار سريع قد يصيب أحدهم بأذى، فتفرح هرباً، تفرح هرباً بالحياة.
كانت أنيقة، حذاءان مخططان بدانتيلا الذهب، سراويل واسعة، قرطان ليسا متماثلين، كأنه يكفينا تماثل الأذنين، فلماذا لا نكسر تماثل الرؤية، أو لا نكون قطارات سريعة محتشدة بانكسارات تماثل الرؤية؟ وحده الزجاج فينا قد يعرف فيما إذا كانت شجرة أمام تلكلخ مختلفة عن تلك التي تراها قرب مدينة كاوور، ذلك الزجاج السريع حين تكون قطاراً ينظر من وراء نفسه.
أكثر ما يؤلم هو غياب الضحك، هي العملة الوحيدة التي نندم عليها ونشعر بصوت تكسرها تحت قطار لا ينزل منه ولا قطرة دم... مجاز في رصيف22
علينا إذاً اختيار الثوب، الحذاء، الأقراط، الموسيقى من أجل الكنيسة. أقفلت باب البيت للابتعاد بضعة أيام، الطاولة مليئة ببطاقات بنكية ووصول شراء وفواتير، بحثت الشرطة في كل شيء، تركت فاتورة شراء قرطين زهريين من محل "مواه" قرب علبة اللبن، نظرت إلى البيت نظرة أخيرة: لا يزال مليئاً بالشرطة، في زاوية ما ظهري يترنح للأمام والخلف، كانوا قد رحّلوا جسدها، وجسدي أنا بقي مطوياً لعدة أيام، أنظر إلى الآخرين وأنا مقوّسة.
كانت الشمس قد عادت للعمل من الثامنة صباحاً حتى السادسة مساء، مثل مهندس في شركة حديثة، ولم تكن فلورانس هنا، كان علينا أن نتعود، أن تنطفئ امرأة ملاك فقط لأنها نامت، أو ربما لأن الشمس نسيتها. ثم تعوّدنا، نقصَ منا واحدٌ، فتعوّدنا على الغيب الأكبر بلعبة صغيرة من بيادق يلبسون أقراطاً وسراويل واسعة وقمصاناً مزركشة، يمارسون الحب في الظلمة، ويموتون في الظلمة.
صديقتي مدربة اليوغا قالت لي: لا بد أن روحها الآن في مكان أفضل. صديقتي المكسيكية تقول بأنها عاشت حياة مليئة بما تحب، اعتقادات تحيي الموت، تضع على رأسه زهرة ليخرج بسلام هو أيضاً من باب البيت، لتقل الخسائر داخل الروح الباقية داخل هذه الرأس. ضحكنا وقلنا ربما هي الآن ترانا، أو ربما كانت تولد في مكان ما، من ينتهي لا ينتهي هو فقط، لكن ما كان يملأه من فراغ بروح تلبست ذاك الجسد، تلك الأزياء، تفرعت عنها تلك الضحكة الخاصة جداً.
أكثر ما يؤلم هو غياب الضحك، هي العملة الوحيدة التي نندم عليها ونشعر بصوت تكسرها تحت قطار لا ينزل منه ولا قطرة دم. حين دخلت البيت مرة أخرى، لم يكن هناك أحد، تذكرت للحظة ما قاله أنسي الحاج: "كلما أحببتهم سقطوا من القطار"، يحدث الخلل حين لا تعود تعرف أصلاً ما هي وجهتك، لماذا نزل هذا الصديق، لماذا تركني الأب وأنا لا زلت صغيرة وبحاجة ذلك الكيان؟ ماذا أفعل بكل هؤلاء الغرباء الآن؟ تلزمني شمس كثيرة وصوت سكك تتقطع تحت العجلات وموسيقى جنائزية حتى أسمح للكارما بأن تتغلغل فيّ، فأنسى هذا العالم وما فيه من نقاط تساؤل مرعبة.
يلزمني موسيقى سيزاريا أيفوريا وتراسي شابمن وبيل هاربر ونورا جونز على مدخل كنيسة قرية فرنسية، مع جسد فلورانس بخفين ذهبيين وقرطين بغمازين، حتى أنسى.
والآن، مرت خمسة أيام على الذكرى، وقت قليل ولا تزال طرية، يدها لا تزال زرقاء وقريبة من الأرض، توقظني صاحبتي التي أنام عندها لتقول لي: "ميس! لقد تأخرت عن موعد الطبيب، صارت الساعة عشرة وربع". نظرت إليها بسرعة، لمست وجهي يصحو على هذا العالم، قلت لها كلمتين بالعربية، خرجتا كحبتي زيتون، كادتا تخنقاني، كأن كل نوم هو حلم طويل، أو نجاة من الموت، أو مجرد نزهة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه