شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الطرد النهائي من الدراسة... التلميذ التونسي بين التأديب وتدمير المستقبل

الطرد النهائي من الدراسة... التلميذ التونسي بين التأديب وتدمير المستقبل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 1 فبراير 202301:58 م

يوم 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، عاش التونسيون على وقع جريمة صادمة كان مسرحها أحد الفصول الدراسية، حيث اعتدى تلميذ قاصر يبلغ من العمر 17 سنةً، على أستاذه بسكين كبيرة وبساطور وكاد أن يرديه قتيلاً.

بعد اعتقال التلميذ المتهم، اعترف خلال التحقيق بأنه ارتكب جريمته بسبب "رفض أستاذه مساعدته على إعادة أحد الاختبارات، وتعرّضه للإهانة والطرد أمام زملائه في الفصل، فقرر الانتقام".

وقال التلميذ إنه خطط لجريمته قبل 10 أيام من ارتكابها، ثم تسلل يوم الحادثة إلى الفصل وطلب من التلاميذ الخروج واعتدى على أستاذه بالآلات الحادة التي كانت بحوزته مخلّفاً له إصابات خطيرةً خاصةً على مستوى الرأس، وهرب تاركاً سلاح جريمته، وأكد خلال التحقيق "عدم تعاطيه مخدرات وندمه على فعلته".

وإلى جانب إيقافه والتحقيق معه، فقد تم اتخاذ قرار الطرد النهائي ضد هذا التلميذ من كافة المعاهد التونسية.

في واقعة أخرى شهدها أحد المعاهد الخاصة (الثانويات)  في تونس العاصمة، تم يوم الثلاثاء 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، طُرد تلميذ نهائياً من المعهد بعد تداول واسع لمقطع فيديو يظهر فيه وهو يلقي ملابس داخليةً نسائيةً على أستاذه في قاعة الدرس.

وأوضح مدير المعهد الخاص كمال الطرابلسي، في تصريحات صحافية، أن هذا التلميذ (16 سنةً)، كان يقضي فترة عقوبة طرد مدتها ثلاثة أيام بسبب الأكل في أثناء الدرس واندسّ في آخر أيام عقوبته إلى القاعة وقام بفعلته.

وأضاف أن التلميذ "كان ينوي إضحاك أصدقائه، وليس إيذاء أستاذه الذي لم يرفع شكايةً ضده بعد اعتذاره منه".

"تنمّرٌ فشتْم"

حادثة أخرى وقعت في الأول من كانون الأول/ ديسمبر 2022، أبطالها كذلك تلميذة وأستاذ مسرح في معهد العمران في تونس العاصمة، أسالت الكثير من الحبر بعد نشر تلميذة مقطع فيديو تنتقد فيه بعبارات شديدة اللهجة أستاذ المسرح الممثل مهذب الرميلي، "وتشتمه"، وتتهمه بالتنمّر عليها أمام أصدقائها، لذا وقع طردها نهائياً ومن المعهد الذي تدرس فيه فقط.

وتعليقاً على الحادثة، أفاد وزير التربية فتحي السلاوتي، يوم 16 كانون الأول/ ديسمبر 2022، بأنه "بإمكان التلميذة إعادة التسجيل في أقرب مؤسسة تربوية مشابهة".

وأكد "احترامه القانون وقرار مجلس التأديب في معهد نور، ولكنه عاهد نفسه أنه لن يمضي طوال حياته بالموافقة على قرار طرد نهائي ضد أي تلميذ احتراماً لقيمة التمدرس".

عقوبة التلميذة أعادت الحديث عن النظام التأديبي التونسي بغض النظر عن شدة الذنب الذي ارتكبه التلميذ وعن تداعياته ومدى مشروعية تسليط عقوبة الطرد النهائي من الدراسة، وإن كان نظاماً تربوياً إصلاحياً أم هدّاماً؟

النظام التأديبي التونسي

وينقسم النظام التأديبي في تونس إلى قسمين، الأول هو نظام المذاكرة التكميلية الذي يهدف إلى تحفيز التلميذ على احترام توقيت الدرس وتوفير فرصة تدارك تمكّنه من إنجاز عمل مدرسي تقاعس عن القيام به.

وعند اقتراح هذه العقوبة، يقدّم الأستاذ تقريراً في المسألة إلى مدير المعهد يبيّن فيه الأسباب التي دعته إلى ذلك ويحدّد نوع العمل المطلوب من التلميذ والحصة المقترحة لإنجازه وتكون الحصّة إما عشيّة السبت أو صباح الأحد وتُضبط مدّتها إمّا بساعتين أو بأربع ساعات.

أما القسم الثاني، فهو نظام المحافظة على آداب السلوك، الذي يضم عقوبات تتراوح بين الإنذار والطرد المؤقت من يوم إلى ثلاثة أيام، وعقوبات يتراوح الطرد فيها بين 4 و15 يوماً أو الطرد النهائي من المعهد ويقرّرها مجلسا التربية أو التأديب، وعقوبة الطرد النهائي من جميع المعاهد والمدارس الثانويّة العموميّة.

وبالنسبة إلى هيئة التأديب، فهي تتكون من مجلس التربية الذي يمكن، في الحالات الاستثنائية التي يقدّرها المدير، أن يتحوّل إلى مجلس تأديب وتنعقد اجتماعاتهما عند حضور أغلبيّة الأعضاء.

ووفق موقع وزارة التربية التونسية، فإن مجلس التربية "يسهر على حسن سير المؤسسة التربوية ويضمن حق التلميذ ولا يتسنى له القيام بهذه الرسالة إلا متى توفّرت له الأدوات الضرورية لذلك، والمعتمدة على الوسائل التربويّة أساساً، كالإقناع والحوار، وعند الاقتضاء يتمّ اللجوء إلى الوسائل الردعيّة بالنسبة إلى من لم تنفع معه الوسائل التربويّة العاديّة".

"المظلوم والضحية"

يرى المتخصص في علم النفس مروان الرياحي، في تصريح لرصيف22، أن الطرد النهائي من الدراسة، "يندرج في إطار مَرَضيّ غير عادي عندما يتم اللجوء إليه كحل وحيد، مما يعني وجود مشكلة كبيرة على مستوى منظومة العقوبات، خاصةً في ما يتعلق بالطرف الذي يطبّقها".

ويؤكد أنه، وقبل الوصول إلى قرار الطرد من الدراسة بيوم أو أكثر أو نهائياً، لا بد من التدرج في استعمال القوة ويمكن معاقبة التلميذ بطريقة أخرى تجعل سلوكاً سويّاً وتحافظ على وجوده في محيطه التربوي.

بدوره، يصف رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ رضا زهروني، آلية الطرد النهائي من كافة معاهد البلاد، "بالحل الأقصى في نظام العقوبات الذي تجاوز حدود المنطق وبات يشبه عقوبة القضاء الجزائي وهي السجن".

ويقول لرصيف22، إن نظام العقوبات التأديبية الحالي موجه أساساً إلى واجبات التلميذ من دون حمايته من تجاوزات أخرى، داعياً إلى التعامل مع هذا الموضوع بواقعية أكبر مع الأخذ بعين الاعتبار الواقع الاجتماعي والثقافي المعيش اليوم في تونس.

برأي الزهروني، فإن الغاية من التعامل اليوم مع العقوبات يجب أن تكون ربح التلميذ، وليس خسارته ووضعه في الشارع، "خاصةً أنه لا يتحمل مسؤولية سلوكه وعنفه وظروفاً عدة يمر بها. ولأننا لم نبحث عن أسباب عنفه فيمكن أن تكون أخطاء الأولياء أو الأساتذة".

يدرّس الأستاذ سامي عزوز، مادة التربية المدنية في المعهد الثانوي في منطقة لسودة في محافظة سيدي بوزيد (وسط غرب)، منذ سنة 1994، ولم يسبق له طوال مسيرته المهنية أن طرد تلميذاً من الفصل أو أحاله على مجلس التأديب، ولكنه شارك في مجالس تأديب بوصفه عضواً منتخباً أو أستاذ قسم وساهم في إسناد عقوبات إلى تلاميذ كلما ارتأى أنهم يستحقون ذلك.

"آخر سلاح"

كما يرى أن عقوبة الطرد النهائي هي آخر سلاح يمكن أن يلجأ إليه مجلس التأديب، وهو "ليس مؤسسةً عقابيةً بدرجة أولى، لأنه يمكّن التلميذ من فرصة حضور اجتماعه ويستمع إلى دفاعه، ولا يمكن أن يصدر قراراً بمعاقبة التلميذ إلا بحضوره أو بإظهار ما يثبت أنه تمت دعوته أو غاب عن المجلس ليتم بعد ذلك اتخاذ العقوبة بأغلبية الحاضرين".

يضيف في حديثه إلى رصيف22، أن هذه العقوبة لا تكون إلا في الحالات القصوى وأنها "عقوبة خطيرة تحرم التلميذ من فرصة الدراسة وتقدّمه فريسةً إلى الانحراف والتهور والهجرة غير النظامية والظواهر السلبية الموجودة في المجتمع التونسي".

في المقابل، يرى عزوز أن الطرد النهائي يبقى "عقوبةً ضروريةً وردعيةً لا بد من وجودها واستعمالها حتى يتيقن التلاميذ بإمكانية اتخاذ مثل هذه العقوبات ضدهم ولأنه في حالات قصوى لا يستقيم سير المدرسة بوجود تلميذ اقترف فعلاً يستحق بموجبه مثل هذا الطرد".

تراجع كبير

تحدث الأستاذ عن الوضع التربوي الحالي في تونس اليوم، وأكد أنه يعرف "تراجعاً كبيراً في منسوب التزام التلاميذ بالنظر إلى التغيرات الاجتماعية الوطنية والعالمية وضعف المراقبة من قبل الأولياء وتراجع القيم والأخلاق ما ساهم في تفشي ظواهر سلبية عديدة داخل المؤسسات التعليمية".

ويضيف أن هذه الظواهر تضع المؤسسات التعليمية بين أمريْن اثنين: إما تطبيق القانون كما هو، وتالياً ستتكرر حالات الطرد ويتم إفراغها من العديد من التلاميذ، أو بتغاضيها عن التجاوزات وتصبح هناك إشكالية تربوية أخلاقية حقيقية داخلها.

 "الطرد عقوبة خطيرة تحرم التلميذ من فرصة الدراسة وتقدّمه فريسةً إلى الانحراف والتهور والهجرة غير النظامية والظواهر السلبية الموجودة في المجتمع التونسي"

ويؤكد أن الأساتذة يعانون من هذه الإشكالية، "لأنهم في علاقة مباشرة بالتلاميذ داخل الفصول ما يجعلهم أمام تحدٍّ كبير لاكتساب مهارات كبيرة جداً في عملية السيطرة على فصل يضم تلاميذ غير مبالين بالدراسة ولديهم إشكاليات أخلاقية".

ولمعالجة هذه الوضعية، يشدد عزوز على أهمية تظافر جهود الإدارة التي "لا يجب أن تكون مستقيلةً من عملها وعليها أن تقوم بدورها التأطيري"، ومن الأستاذ الذي عليه أن "يعدّل طريقة تدريسه التي تتغير بالتوازي مع تغير طبيعة الشباب بين الماضي والحاضر".

وبرأيه، يجب على الأستاذ امتلاك القدرة على مجاراة هذا التغيير ومسك العصا من الوسط، وأن يكون في الوقت نفسه متفهماً وحازماً، بالإضافة إلى ضرورة تنقيح القوانين ومراجعتها، "لأن المؤسسات التربوية اليوم أصبحت منفرةً لعدم احتوائها على مرافق ترفيه حتى أصبحت ردة فعل التلميذ جافةً في مواجهة أي محاولة لتصويبه".

فضاء حاضن

كما أشار إلى ضرورة عودة المؤسسة التربوية، "فذلك الفضاء الحاضن للتلميذ يضم أنشطةً تربويةً متنوعةً حتى يفرغ التلميذ شحناته وطاقاته في مختلف مجالات الرياضة والثقافة ليدخل إلى الفصل وهو مجهّز لتلقّي الدروس".

وبشأن بدائل هذه العقوبة، يقترح وفي صورة ثبوت ارتكاب تلميذٍ فعلاً نتيجة ظروف نفسية أو اجتماعية أو غيرها، تخفيف العقوبة ومرافقة التلميذ من قبل أخصائيين اجتماعيين ونفسيين لضمان عدم تكراره ذنبه الذي اقترفه.

"المؤسسات التربوية اليوم أصبحت منفرةً لعدم احتوائها على مرافق ترفيه حتى أصبحت ردة فعل التلميذ جافةً في مواجهة أي محاولة لتصويبه"

من جهته، يؤكد رضا الزهروني، رفضه العنف مهما كان مصدره ومرتكبه وأسبابه ودرجاته ويشدد على ضرورة معرفة ما إذا كان سلوك التلميذ المذنب "استثنائياً أو عادياً، قبل اتخاذ قرار طرده النهائي من الدراسة، لأنه يمكن أن يرتكب السلوك العنيف ذاته مع والديه ومع نفسه كالانتحار لأنه لم يجد طريقةً ينفس بها عن غضبه".

وأقرّ الزهروني "بوجوب معاقبة التلميذ على ارتكاب الخطأ، ولكن أكد في المقابل ضرورة عدم التعامل مع مسألة العقوبات ببعد نظري بحت، "لأن هناك عقاباً يؤدي إلى الإقصاء، وربما يعمق المشكلة بدفع التلميذ إلى الشارع وهو يائس ومحبط".

وكبدائل لآلية الطرد النهائي من الدراسة، يقترح دراسة وضعية التلميذ، كنقله من معهد إلى آخر، أو تخفيف العقوبة، والبحث في مبررات ارتكابه ذنباً ما ومعالجتها.

طرد بشروط

أما المتخصص في علم النفس مروان الرياحي، فيرى أنه في حال تم التدرج في العقوبات مع التلميذ الذي كرر الذنب مرات عدة، بسلوكياته العدوانية نفسها، "فحينها يمكن أن يكون لعقوبة الطرد النهائي معنى ولكن بشروط".

هذه الشروط تتلخص برأيه في ضرورة التأكد مما إذا كان التلميذ مذنباً أو لا، لضمان عدم ظلمه عند معاقبته وبعد التأكد من درجة ارتكابه الذنب تأتي مسألة مدى مشروعية تسليط أقصى العقوبات عليه من عدمها من خلال إمكانية تفادي الطرد النهائي وإصلاح المشكلة وتغيير سلوكه إلى الأفضل.

ويؤكد أنه وقبل تسليط العقوبة على التلميذ المذنب لا بد من توعيته بحجم الكارثة التي ارتكبها "فالأهم من العقوبة ألا يخرج التلميذ بعقلية المظلوم والضحية لضمان عدم فتح الباب أمام مشروع منحرف خطير في المجتمع بالاكتفاء بطرده فحسب".

جاهزية الدولة

يتساءل الرياحي عن مدى تجهيز الدولة بدائل بعد تسليط العقوبة لاحتواء التلميذ وتأطيره خارج الفضاء المدرسي، "أو أنه سيجد بيئةً أخرى في الشارع في انتظاره تهيئته ليصبح مشروع مجرم منحرف بسلوكيات هدامة ومدمرة ومضرة لنفسه ولمحيطه كالإدمان والسرقة؟".

ويؤكد أن أكبر خطأ هو تحميل المربّي مسؤولية عدم تغيير التلميذ، لأن المربي يحتك به في فترات معينة، والتلميذ المراهق هو مسؤولية والديه ثم البيئة التي تربى فيها ثم يأتي دور المُربّي.

ويشدد على أن كامل المنظومة من أسرة وإطار تربوي ومجتمع وتلاميذ تتحمل المسؤولية.

ولتحسين علاقة التلميذ بالإطار التربوي، يدعو الرياحي إلى ضرورة البحث في الأسباب الحقيقية التي دفعت التلميذ إلى القيام بتصرف خطأ مع أستاذه "وهي نتاج لتربيته منذ الطفولة"، يقول.

كما يؤكد ضرورة إعادة الاعتبار إلى مفهوم الأسرة كما يشدد على أهمية العمل على الأسرة التي يصفها بنواة التربية الأولى، "فالأزمة هي أساساً أزمة أخلاق قبل توفير فضاءات ترفيه".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard