على ضوء أصفر خافت، في غرفة سوداء تماماً، يقبع بجسده المضرج بالدماء، بعد انتهاء جلسة تجاوزت الثلاث ساعات. كانت فيها كل أنواع الضرب والتعذيب، من دون أن يعلم ما تهمته، ومن دون أن يُدرك أيضاً هويّة معذبيه/ خاطفيه.
قد يبدو المشهد من أحد المسلسلات أو الأفلام الدرامية، التي تُبثّ طوال الوقت على شاشات التلفاز، ولكنها قصة حقيقية عاشها رائد، وهو اسم مستعار لصحافي من بغداد، اختطفه مجهولون من منزله ليل 23 حزيران/ يونيو الماضي، من دون أي توضيح.
"ما أكدر أنسى التاريخ، ولا أنسى التعذيب"؛ يقول رائد وهو يروي قصته لرصيف22، ويضيف: "كنت أتصفح هاتفي كعادتي في المساء، بحثاً عن الأخبار أو الأحداث، ولكني لم أدرك بأنني سأكون القصة بحد ذاتها".
في تلك الليلة، داهمت داره قوة ترتدي زياً عسكرياً، ولكن ملابسهم خالية من أي دلالات توحي بالجهة التي ينتمون إليها. حطموا الباب الخارجي، ودخلوا عنوةً لاعتقاله، من دون توضيح الأسباب. يقول: "أخذوني إلى مُعتَقلي المجهول، ومنذ وصولي بدأوا بلكمي على وجهي، وركلي في المناطق الحساسة، وإطفاء أعقاب السجائر على جسدي، وشتائم ووعيد، من دون طرح أي سؤال قد يبرر ممارساتهم الوحشية. كل همهم كان تعذيبي".
سجلت جمعية الدفاع عن حرية الصحافة أكثر من 233 انتهاكاً في عام 2021 حصراً، ونحو 139 حالة اعتداء
رموه بعد إشباع ملذاتهم الدونية بالقرب من باب داره، عاجزاً عن الحركة، ومصاباً بكسور في الأضلاع والقدم واليد، وبارتجاج في الدماغ، فما كان من عائلته إلا أن أرسلته فوراً بعد تجبير يديه، إلى إقليم كردستان في البداية لإنهاء علاجه، ليغادر بعدها إلى خارج البلد، ولكنه بالرغم من ذلك، لا يزال يعيش في رعب ذكرياته، ويزيدها ألماً خوفه المستمر على عائلته التي لا تزال في العراق.
رائد يؤكد أن نشاطه الصحافي والانتقادات التي حملتها مواضيعه ضد بعض الأحزاب، كانت سبباً في استهدافه. مثل هذه القصص مرّت على الكثير من صحافيي العراق ضمن ملف الانتهاكات المستمرة ضدهم.
أعوام على التضييق
يُصنّف العراق ضمن أخطر البلدان على الصحافيين، إذ عايش كثيرون منهم تجارب مشابهةً لما عاشه رائد، وإن لم يصرّحوا بها، حتى عُدّت جزءاً لا يتجزأ من مهنتهم الخطرة، وتشمل الانتهاكات في حق الصحافيين والناشطين، والتهديد والملاحقة المسلحة، والاحتجاز من دون مبررات، بحسب جمعية الدفاع عن حرية الصحافة، التي سجلت أكثر من 233 انتهاكاً في عام 2021 حصراً، ضمن بيانها المنشور في 26 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وسجلت بالإضافة إلى ذلك، نحو 139 حالة اعتداء بالضرب ومنع وعرقلة التغطيات الصحافية، و34 حالة اعتقال واحتجاز، وغيرها ضمن الممارسات القمعية.
ليس هذا فحسب، بل قُتل أيضاً، نحو 500 صحافي منذ عام 2003، بحسب نقابة الصحافيين العراقيين، وهو عدد يشكك كثيرون في دقته ومنهم النقابة، بحسب تصريحات صحافية، ويستند التشكيك غالباً إلى أعداد من لم يُصَرح عن سبب وفاته الحقيقي، بالإضافة إلى العديد من الصحافيين المغيبين، الذين لا يزال مصيرهم مجهولاً حتى اليوم.
أصابع الاتهام تشير غالباً إلى الجماعات المسلحة المقربة من الأحزاب السياسية، وهو ما يجعل الأخيرة ضالعةً في هذه الانتهاكات بشكل أو بآخر، ضمن محاولاتها قمع الأصوات المعارضة لسياساتهم أو الكشف عن تفاصيل تمس عملهم وأنشطتهم داخل البلاد.
كل هذه الأرقام جعلت العراق يستحق بجدارة المرتبة 172 من أصل 180 دولةً، في إحصائية منظمة مراسلين بلا حدود لعام 2022، للحريات الصحافية، في تراجع ملحوظ عن العام الماضي، حيث كان يحتل المرتبة 163.
"تهمتي مواطن صحافي"
"حجزوني يومين في غرفة التحقيق، من دون أن أعرف ما هي تهمتي"؛ هذا ما عاشه الصحافي محمد التميمي، من محافظة بغداد، بعد أن اعتقلته قوة من الشرطة المحلية، في آب/ أغسطس الماضي، بعد مغادرته ساحة التحرير، حيث مركز الاحتجاجات الشعبية وقتها.
أخذوني إلى مُعتَقلي المجهول، ومنذ وصولي بدأوا بلكمي على وجهي، وركلي في المناطق الحساسة، وإطفاء أعقاب السجائر على جسدي، من دون طرح أي سؤال قد يبرر ممارساتهم الوحشية. كل همهم كان تعذيبي
ومحمد صحافي مستقل، تخرّج من كلية الإعلام وعمل على تغطية أحداث التظاهرات التي شهدتها المنطقة وقتها، عبر صفحاته الشخصية في وسائل التواصل الاجتماعي، في محاولة منه لاكتساب الخبرة الصحافية، ولكن الرعب الذي عاشه في الاعتقال كان كفيلاً بإنهاء مسيرته قبل انطلاقها.
محمد لم يواجه أي تهمة أيضاً، واكتفى معتقلوه بمصادرة هاتفه وكاميراه الشخصية، وهو ما يدفعه للقول لرصيف22: "العراق لا يناسب المهنة، لقد تمكنت الحكومة من إهدار جهودي الدراسية، وكل تعبي، وإبعادي عن الإعلام. هم لا يرغبون في وجود صحافة أو حرية تعبير أساساً".
تضييق الحريات
بالرغم من أن قانون حقوق الصحافيين المرقم 21 لعام 2011، والذي ينص في مادته التاسعة على أنه "يعاقب كل من يعتدي على صحافي في أثناء تأدية مهنته أو بسبب تأديتها، بالعقوبة المقررة لمن يعتدي على موظف في أثناء تأدية وظيفته أو بسببها"، وهو نص صريح على اعتبار أن الاعتداء على الصحافيين بمثابة الاعتداء على موظفي الخدمة العامة في أثناء أداء وظائفهم.
ويعاقب عليه وفق قانون العقوبات في مادته 226، بالسجن لمدة ثلاث سنوات كحكم أولي، وصولاً إلى الإعدام في حالة القتل، ولكن التهاون في تنفيذه بناءً على أجندات خاصة، يضع الحكومة بدورها محل اتهام، بالتعاون في عمليات التضييق على الصحافيين.
وتتغاضى الحكومات العراقية المتعاقبة عن الاعتداءات المتكررة في حق الصحافيين، ولكنها تطبّق القانون عليهم، وهذا التهاون وعدم اتخاذ إجراءات للحد من حالة الإفلات من العقاب ضد الصحافيين والناشطين، دفعا مرصد الحريات الصحافية إلى المطالبة بإحالة ملف جرائم استهداف الصحافيين في العراق إلى المحكمة الجنائية الدولية، كونها جرائم حرب، في بيانه المنشور مطلع شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.
تم استخدام المادة ذاتها المرقمة 226، التي ينص عليها قانون العقوبات العراقي في الحكم على الناشط حيدر الزيدي
ومثال على ذلك، تم استخدام المادة ذاتها المرقمة 226، التي ينص عليها قانون العقوبات العراقي رقم 111 لعام 1969، في الحكم على الناشط حيدر الزيدي، في 5 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، بالسجن لمدة 3 سنوات، بتهمة ازدراء مؤسسة الحشد الشعبي.
قانون وفق المزاج
الزيدي كان قد اعتُقل في تاريخ 6 حزيران/يونيو 2022، بتهمة إهانة الحشد الشعبي، بعد نشره منشورات عدة على صفحاته الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي، عن "أبو مهدي المهندس"، الذي قُتل في غارة جوية أمريكية بالقرب من مطار بغداد في 3 كانون الثاني/ يناير عام 2020، ووصفه بالعميل.
وبالرغم من اللغط الحاصل على أساس التهمة، ولكنه ينافي بصراحة مبدأ حرية التعبير عن الرأي، وعلى الإثر انطلقت تظاهرات منددة بالحكم في محافظة بغداد، بالإضافة إلى النجف الأشرف والديوانية، في ظل دعوات لإقامة وقفة احتجاجية أخرى، تطالب بالإفراج عنه.
وتشير المادة 226، إلى أنه "يعاقب بالسجن مدةً لا تزيد على سبع سنوات أو بالحبس أو الغرامة من أهان بإحدى الطرق العلانية، مجلس الأمة أو الحكومة أو المحاكم أو القوات المسلحة أو غير ذلك من الهيئات النظامية أو السلطات العامة أو المصالح أو الدوائر الرسمية أو شبه الرسمية".
وبالرغم من الانتقادات الموجهة إلى قانون العقوبات، فإن العمل فيه لا يزال سارياً، ولكن على ما يبدو فإن هناك محاولات للالتفاف على هذا القانون، بقانون جديد يلغي صفة النظام السابق عنه، ولكنه يحمل مضامينه نفسها، ويندرج ضمن مساعي بعض الأحزاب لصد هجمات منتقديها عبر القانون، بعد سيطرتها على الدولة.
قانون جديد وأزمة جديدة
الصحافيون والناشطون اليوم، أمام قانون جديد قد يمحو الثغرة الأخيرة المتبقية لحريتهم، بعد أن أنهى البرلمان العراقي القراءة الأولى لقانون الحريات، وهو قانون تم زجّه ضمن جلسة البرلمان المنعقدة يوم 3 كانون الأول/ ديسمبر الحالي.
القانون الحالي لاقى جدلاً واسعاً في المجتمع العراقي، جراء ما يتضمنه من تناقضات متتالية، ويقول مصدر كان يعمل سابقاً في المكتب الإعلامي لرئاسة الوزراء، إبان وزارة عادل عبد المهدي، إن "إصرار الحكومة والأحزاب على هذا القانون، يندرج في خانة محاولاتهم الالتفات على الرأي العام الدولي والإيحاء بتشريع قوانين في مجال الحريات، تساهم في إبعاد العراق عن ذيل قائمة الحريات الصحفية".
ويستدرك في تصريحه لرصيف22، "كان من المفترض عدم السماح بتسريب القانون للإعلام، لضمان تمريره بدون أي معارضة شعبية".
يتجه البرلمان العراقي إلى إقرار قانون يحد من الحريات ويطلق يد الأجهزة في ملاحقة الناشطين، فمن يقف خلفه ومن المستفيد من قمع الحريات في بلاد تغرق بالفساد؟
القانون الجديد يتضمن بنوداً كثيرةً، منها حق الدولة في حجب بعض المعلومات، ولكن الجدل الأكبر يندرج ضمن خانة التعبير عن الرأي وحرية التظاهر، إذ يقول رئيس مركز العراق لحقوق الإنسان علي العبادي، إن "هذا القانون سيقضي على ما تبقّى من الحريات في العراق، في ما يتعلق بضرورة استيفاء موافقة الحكومة على التظاهر، وتحديد أوقات الاحتجاجات، وفرض الغرامات على مخالفة قوانينه".
ويضيف لرصيف22: "هذه القوانين تخالف المنطق، خاصةً أنها ستكون مقيدةً بموافقة جهات قد تكون معنيةً بالتظاهر أو فاسدةً يشملها الانتقاد، والموقف ضد هذا القانون لا يعني تأييد الفوضى أو الاضطراب، خاصةً أن الدولة هي الشعب في أساسها، ولكن الأوضاع الخاصة التي يمر بها البلد، ووجود أولويات يجدر حلها حالياً، مثل الكشف عن قتلة المتظاهرين، والفساد المالي، أجدر بالدراسة من القانون الحالي".
العبادي يلفت إلى "وجود تدخلات حزبية خلف هذا القانون، ترغب من خلاله في القضاء على ما تبقّى من صوت الإصلاح، ضمن محاولاتهم للبقاء في السلطة، والحل يكمن في تنظيم وقفات احتجاجية وتدخّل البعثة الأممية والمنظمات الدولية من أجل ثني البرلمان عن تمريره".
وكان 36 نائباً قد وقّعوا على عريضة تطالب بسحب هذا القانون، لإجراء تعديلات عليه، نظراً إلى مخالفته مبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة المنصوص عليها في الدستور.
هناك دلائل قوية على استبعاد القانون من جلسات مجلس النواب في الفترة الراهنة، ولكنه لن يبتعد طويلاً، وقد يعود بعد هدوء موجة الغضب، ليكتب ختام حرية الصحافة والتعبير في آن واحد، وإن لم يتم إقراره، ففوّهات الرصاص لا تزال مصوبةً نحو رؤوس المعارضين، في بلاد لم يعد للسلام والحرية معنى فيها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون