شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
أحمل كاميرتي وأتخيل أنني ضحية... لأنني تعبت من النجاة!

أحمل كاميرتي وأتخيل أنني ضحية... لأنني تعبت من النجاة!

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الخميس 23 فبراير 202302:35 م

لم تكن تغطية زلزال السادس من شباط/ فبراير، الذي ضرب سوريا وتركيا، حدثاً اعتيادياً بالنسبة لنا نحن الصحافيين السوريّين الذين نعمل في الميدان على تغطية الموت الذي يحكم بلادنا منذ أكثر من إحدى عشرة سنةً، بل كان نقطة تحوّلٍ أعادتنا إلى ذاكرةٍ مليئةٍ بالمشاهد القاسية والصور الدامية، التي لطالما حاولنا بكل قوانا أنّ نتناساها أو نطردها من مخيّلتنا، حتى نستطيع الوقوف مرّةً أخرى أمام هول مجزرةٍ أو مذبحةٍ جديدة.

مع بداية الثورة السوريّة، كان العمل في مجال الصحافة ليس بالأمر السهل، فهو تحدٍّ فُرِض على جميع الصحافيين الذين أرادوا نقل حقيقة ما يجري في سوريا إلى العالم بإمكاناتٍ بسيطة، وبخبراتٍ ضعيفة. ومع الانتقال إلى المرحلة العسكرية، والصراع ما بين النظام السوري والفصائل المعارضة، بات المشهد أشدّ قساوةً، وازداد التحدي في التغطية الصحافية، فالموت أصبح قريباً من كلّ العاملين في هذا المجال، وكثر من فقدوا حيواتهم في سبيل الحقيقة، ومشاهد الموت المتواصل على مدار السنوات الماضية، كانت راسخةً في عقولنا، نهرب منها نهاراً فتلاحقنا ليلاً، ونواجهها بالنسيان، فتلاحقنا بحدوثها مجدداً في كل يوم. نصارع عقولنا لكيلا تكون حاضرةً في لحظات فرحنا النادرة، فتسبقنا إلى الخروج من داخلنا لتمسح ابتسامةً وتبدّلها بدمعة.

ولكوني أكتب عن نفسي وتجربتي في العمل الصحافي الميداني للمرة الأولى، أودّ هنا أن أعود بكم إلى ذاكرةٍ مليئةٍ بالخوف والحزن، حاولت مراراً نسيانها أو لأكون دقيقاً تناسيها، لأنّ في بلدٍ كسوريا كُتب على كل شيء فيه الموت، إلا النسيان، يبقى حيّاً أبدّياً لا يموت.

عشر سنواتٍ أمضيتها في العمل الميداني كمراسلٍ صحافي لجهات سورية عدة، غطّيت خلالها الكثير من المواضيع والقضايا المختلفة، وعاصرت فيها الموت والنزوح والتشريد والحاجة إلى كل شيء، ونقلت صوت شعب. لم يبقَ شيء في هذه الأرض إلا قهره الموت. كتبت عن الموت وأعداد الضحايا باستمرار، ورصدت عدسة كاميرتي مشاهد النّزوح والقصف، ووثقَّت بصوتي لحظات من القهر تكفي العالم بأكمله.

أسعى في كل مرّة إلى التجرد من مشاعري البشرية في الحزن والقهر والتأثر بهول ما أرى، لأنّي وبكلّ بساطة كان عليّ أن أكون جماداً مجرّداً من الحواس، وإلا سأسقط في عتبة الانهيار، المستحيل أيضاً في بلدي

عشر سنوات كانت مليئةً بالكثير من المآسي التي لا تنتهي، جعلت مني صحافياً منهكاً نفسياً ومثقلاً بهموم ومخاوف تفوق سنّي وفترة عملي. كنت دائماً أحاول مقاومة ما أرى من قسوة، وأعمل على أن أكون وسيطاً ما بين المشهد وعين المشاهد أو أذنه، فحاولت تجريد نفسي من جميع العواطف البشرية، لأهرب مراراً من التأثر الطبيعي كإنسان يملك فطرةً بشريةً مجبولةً بالعواطف.

أقنع عقلي الباطن بأنّي هنا لأنقل صوت من لا صوت له، وأخبر العالم بالصورة الحقيقية للواقع، وأسعى في كل مرّة إلى التجرد من مشاعري البشرية في الحزن والقهر والتأثر بهول ما أرى، لأنّي وبكلّ بساطة كان عليّ أن أكون جماداً مجرّداً من الحواس، وإلا سأسقط في عتبة الانهيار، المستحيل أيضاً في بلدي. أعود إلى المنزل، مثقلاً بجبالٍ من الأوجاع والقهر، فتنهال الدموع التي حبستها خارج حدود قوقعتي، وتنهار قواي الجسديّة، وتلاحقني المشاهد القاسية إلى نومي لأحيا مع الأرق.

جميع ما كنت شاهداً عليه خلال هذه السنوات العشر، كنت قادراً على تناسيه لبعض الوقت، ربّما كان التكرار كفيلاً بأن ينزع ما قبله، إلّا مشهد طفلٍ صغير فقد أطرافه السفليّة قبل ستّ سنوات جرّاء قصف جوي بالبراميل المتفجرة من قبل النظام السوري على بلدتي الصغيرة في أقصى جنوب محافظة إدلب، بلدة "الهبيط". كان حينها مشهد جلوس الطفل على الأرض فاقداً أطرافه وهو يصرخ باكياً لوالده: "يا بابا شيلني"، كفيلاً بأن يجعلني أطفئ كاميرتي وأجلس منهاراً أمامه. كان العجز سيد الموقف، وكان كلّ شيءٍ مختلفاً عما مضى، وعما عاصرته قبل هذا المشهد.

بقيت أيّاماً متواصلةً عاجزاً عن النوم، مستذكراً مشهد الطفل في كل الأطفال. لم يسعفني التناسي هذه المرّة، وحفر هذا المشهد في ذاكرتي إلى الأبد. وبرغم تكرار المشاهد القاسية الأخرى خلال عملي، إلّا أنّه وحده بقي لا يغادر مخيلتي، وسط عجزي عن معرفة السبب: هل براءة الطفل؟ أم كلماته التي نالت من قدرتي على النسيان والاستمرار؟ أم أنّ الإنسان في لحظة ما تستقر في ذاكرته أشياء أبدية؟

توالت السّنون القاسية وتوالت معها الأحداث المريرة، وبقي مشهد الطفل عالقاً لا يغادرني كلما صادفت مشهداً مشابهاً، أو جلست مع ذاتي أراجع شريط ذكرياتي، أو حتى بلا أي مناسبة أو حدث. كانت صورته تزورني في المنام، لأبقى أسيراً.

مع اقتراب نهاية العام الماضي، وبعد سنوات من التغطية الميدانية، وبعد مجموعة ضخمة من المشاهد والذكريات المأساوية، وصلت إلى مرحلة من التعب والانهيار النفسي دفعتني إلى الهروب من الميدان، والابتعاد قليلاً عن مشاهد المأساة الموجعة. طلبت من مديري في العمل إجازةً قصيرةً، وبعدها عدت للعمل من منزلي كمحرّر لمواد خدمية وبعض المشكلات المجتمعية. ظننت حينها أنني سأنال قسطاً من الراحة والسكون النفسي، لكنّي لم أنل إلّا المزيد من القهر مما أشاهده حولي أو أكتب عنه. أيقنت حينها بأنك عندما تكون صحافياً ابن بيئة مكلومة، لا يمكنك أن تخلد إلى راحة، لأنك ستواجه المآسي والمشاهد القاسية في كل تفاصيل يومك.

انتهى الشهر الأول من العام 2023، وأنا مصرّ على الابتعاد عن العمل الميداني، وبدأ الشهر الثاني حاملاً معه حدثاً كارثياً تقف أمامه كل مشاهد القسوة عاجزةً، حدثاً بفعل الطبيعة هذه المرّة وليس بفعل البشر، الطبيعة التي لم تنصف السوريّين أيضاً وجاءت لتكمل على ما تبقّى من أرواح وأشخاص وأشياء، وتوقظ الكثير من الأوجاع والذكريات الدّفينة.

لم أستطع الجلوس في المنزل ومشاهدة أهوال الكارثة عبر منصات التواصل الاجتماعي. توجّهت نحو مدينة جنديرس في ريف حلب الشمالي، المدينة التي تأثّرت بشكل كبير بفعل الزلزال مقارنةً بالمناطق السورية الأخرى.

حجم الدمار الكبير في المدينة، مشاهد فرق الإنقاذ، أصوات الجرّافات، تجمعات المدنيّين، صرخات المكلومين، ثبات المنتظرين، لحظات لا تجد لها وصفاً في كل قواميس اللغات. مشهد لا يشبه سوى "القيامة". كنت أحاور ذاتي قائلاً: "عليك أنّ تبقى متزناً، عليك أنّ تركز على نقل المعلومة والصورة، عليك أنّ تكون غير متأثّر". حاولت للوهلة الأولى الصّمود أمام ضخامة الكارثة، ومع تحركي من بناء مهدّم إلى آخر، وازدياد حدّة المشاهد، كانت قواي تضعف، وبدأ الانهيار يتصاعد بشكل طردي مع حدّة ما أرى. عادت بي مشاهد الأطفال إلى مشهد الطفل المستقرّ في أسفل ذاكرتي. شريط المآسي الذي كنت أجاهد لنسيانه بدأ يدور في رأسي بشكل يعجز عن التوقّف، بتّ حائراً في ما يحدث لي: لماذا أتذكر؟ لماذا في هذا التوقيت؟ وألف لماذا لا إجابة عليها.

كيف ننسى ونحن العاملين في هذه المهنة محكومون بامتداد الذكريات وتواصل الأحداث، حتى وصل بنا الحال إلى أنّ نحلم بأن نكون في عداد الضحايا، لأننا تعبنا من النجاة!

جلست قليلاً بالقرب من الرّكام محاولاً استعادة توازني والعودة إلى العمل، نجحت قليلاً قبل أن أعود إلى منزلي متخماً بالرعب، ومشحوناً بالخوف.

في نهار اليوم الثاني، استوقفني مشهد امرأة تبحث بيديها بين الركام والدموع تغطي وجهها المليء بغبار الأبنية المنهارة. وقفت بالقرب منها أطمئن عليها، وسألتها عما تفعل هنا، لتنهار باكيةً وتجيبني بأنها تبحث عن أطفالها تحت هذه الأكوام من الأبنية. توقفت عن الكلام وجلست فوق الركام مذهولاً. لم أعد أقوى على الحديث وعلى فعل أي شيء، طلب مني صديقي المرافق لي في التغطية الذهاب، لكن لم أستطع حينها النهوض حتى. أكثر من ثلاثين دقيقةً وأنا أصارع ذاكرتي التي انطلقت كقطار سريع من كلام الأم المكلومة إلى الطفل الذي فقد قدميه.

أمضيت في مدينة جنديرس ستة أيام متواصلة من التغطية، كنت أعمل بكل ما أوتيت من طاقة متأرجحة على نقل الصورة الحقيقية لما يحدث، وفي كلّ مرّة أقف فيها لأنقل حدثاً مباشراً أو مداخلةً على القنوات الإخبارية، كانت الكلمات ترتجف وهي تخرج من حنجرتي، فهذه الأيام كانت كفيلةً بإعادتي إلى الصفر، أو إلى ما تحت الصفر بكثير لأكون دقيقاً. أيام كانت مليئةً بالقهر والحزن والتعب، كنت محروماً من النوم ولو لبضع ساعات، كان كلّ شيء فيها يوقظ ما أردت تناسيه، فكيف ننسى ونحن العاملين في هذه المهنة محكومون بامتداد الذكريات وتواصل الأحداث، مهما حاولنا تجاهلها، حتى وصل بنا الحال إلى أنّ نتمنى التوقف قسراً عن عملنا المليء بالقهر والتعب، وأن نحلم بأن نكون في عداد الضحايا، لأننا تعبنا من النجاة!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image