شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
نحن سوريون نحتاج إلى مساعدة نفسية ومادية...

نحن سوريون نحتاج إلى مساعدة نفسية ومادية... "ولكننا لا نطلبها خجلاً!"

حياة نحن والحقوق الأساسية

الأربعاء 22 فبراير 202305:46 م

على مدار الأيام الماضية، عقب كارثة الزلزال الذي ضرب مناطق عدة في تركيا وسوريا، أخفتْ هالة (30 عاماً)، عن عائلتها وأصدقائها المقربين، خبرَ انفصالِها عن خطيبها بعد علاقة استمرتْ لأكثر من ستة أعوام.

لقد تم الانفصال قبيل ساعاتٍ قليلة من الزلزال. لم تستطع هالة أن تحدّث أحداً عنه سوى صديقتها التي تعمل في إحدى المنظمات الإنسانية الناشطة محلياً في سوريا. نقلتْ إليها الخبر من دون أي تفاصيل أخرى، إذ اتفقتا على اللقاء في صباح اليوم التالي ومناقشة الأمر. ولكن صديقتها هذه كانت قد التحقتْ بجموع المتطوعين على الأرض في المحافظات المنكوبة لتقديم المساعدة.

شعرتْ هالة بأنها وحيدة جداً. لقد استيقظتْ على صوت أمها يتحشرج من شدة البكاء خوفاً على أقربائها الذين يقطنون في إحدى المناطق المتضررة من الزلزال. كانت هالة تتجهّز للتوجه إلى العمل وهناك أيضاً كان زملاؤها يتبادلون ما يقرأونه على منصات التواصل الاجتماعي؛ "هذا قد توفّي وهو يحتضن طفلته الرضيعة، وذاك هو الناجي الوحيد لأسرة مكونة من تسعة أفراد...". لم يأبه أحد لآثار دموعها في الليلة السابقة. لم يسألها أحد: كيف الحال؟ هل تسير الأمور جيداً؟ لماذا تبدين حزينةً اليوم؟

تقول هالة التي تعمل في أحد المصارف في العاصمة دمشق، لرصيف22، إنها شعرتْ بما يشبه الاختناق طوال الأيام اللاحقة للزلزال: "من الصعب أن تكتم شعوراً قاسياً وغير محتمل لأن هنالك من سيعدّه شعوراً تافهاً وسخيفاً في خضم كل ما يحدث". لقد سمعت أحد الأشخاص في مكان عملها يقول لزوجته التي هاتفته للسؤال عن أمر ما: "الناس وين وإنتي وين؟".

تقول هالة: "شعرتُ بأن هذا بالضبط ما كانت ستقوله أمي لو أخبرتها صباح اليوم بأنني أتألم، أو لو اتصلت بصديق، أو حتى لو لجأتُ إلى الله". فكّرت في طلب المساعدة، ولكنها لم تجرؤ على ذلك، "خجلاً".

"الناس وين وإنتي وين، هذا بالضبط ما كانت ستقوله أمي لو أخبرتها صباح اليوم بأنني أتألم، أو لو اتصلت بصديق، أو حتى لو لجأتُ إلى الله. لم أجرؤ على طلب المساعدة خجلاً"

"اعتقدت أن محاولة التواصل مع معالج نفسي في تلك الأوقات هو أمر غريب وشاذّ جداً"، تحكي هالة، وتضيف: "ربما سينظر إليّ المعالج النفسي نظرة قرف ويقول في نفسه أيضاً ‘الناس وين وإنتي وين؟’، على الرغم من أنني كنتُ أشعر بالألم الشديد؛ نبضات قلبي كانتْ تتسارع ونفسي متقطّع، لم أتناول الطعام جيداً خلال الأيام الماضية وساعات نومي كانت محدودةً، كما أنني بدأتُ باللجوء إلى المسكّنات والعقاقير المنوّمة ولم تثِر خوفي الهزات التي ظلّتْ تحدث بعد الزلزال".

لست بجاحد... ولكن

بالنسبة إلى يوسف اليوسف (27 عاماً)، وهو سوري مقيم في هولندا منذ نحو عامين، فإن الحديث عن الهموم والمشكلات والآلام الشخصية مع أقرباء له أو أصدقاء في سوريا، هو حديث على درجة كبيرة من الحساسية على الدوام. يقول: "أن تتحدث عن همومك وأوجاعك وما تعانيه لشخص آخر يعاني يومياً من قلة في كل شيء، ويكافح في ظروف معيشية صعبة كما هو الحال في سوريا، فهذا يعني أنك وكما يقال في الأوساط جاحد. من الصعب أن أتكلم عمّا أعانيه أو عما يزعجني وأنا هنا في هولندا، لأيٍّ من المقيمين في سوريا".

يرى يوسف أن ما حدث بعد الزلزال ضاعف هذا الشعور لديه كما ضاعفه بالنسبة لكل مغترب سوري لديه أقرباء وأحبّة وأصدقاء داخل سوري، "الآن نحن نشعر بأن كل شيء تافه أمام هذه الكارثة وتداعياتها".

لقد اندفع الشباب السوري لتقديم كل ما يمكن تقديمه من مساعدات في المناطق المنكوبة ضمن سوريا جرّاء الزلزال، ليس فقط من خلال التبرّع العيني أو النقدي، بل أيضاً عبر العمل على الأرض وضمن مراكز الإيواء لإيصال المساعدات إلى المحتاجين.

يقول خريج كلية طب الأسنان قاسم عواد (28 عاماً)، وهو أحد الشبّان الناشطين في العمل الإغاثي في سوريا منذ أكثر من ستة أعوام، إن هذا الأمر بالضبط له نتائج كارثية على المدى الطويل، ويضيف: "حالة التضامن التي أبداها الشباب السوري للاستجابة لهذه الكارثة كانتْ رائعةً بالفعل، ولكننا نتحدث عن أشخاص كثر قد هبّوا للمساعدة على الأرض ولم تكنْ لديهم أي خبرات أو تجارب سابقة في العمل الإغاثي، ولذلك فقد تتسبب مشاهد الزلزال بمشكلات نفسية كبيرة لديهم قد لا تظهر مباشرةً".

ولعلّ أهم الدروس المستفادة من الكوارث والأزمات التي حدثتْ في سوريا هي ضرورة إحداث هيئة متخصصة في العمل الإغاثي في حالة الكوارث في المستقبل، بحسب ما يقول قاسم، ويبّرر هذه الضرورة بأن تدخل غير المتخصصين في حالة الكوارث تترتّب عليه مشكلات نفسية كبيرة على الصعيد الفردي، وما قد يحدث على الصعيد الفردي ينعكس بطبيعة الحال على المجتمع عموماً.

من الخطأ جداً تجاهل الآلام الشخصية أياً كانت الظروف المحيطة، وأياً كان حجم تلك الآلام، فلن ينجم عن هذا التجاهل في المستقبل سوى المزيد من المشكلات

بالنسبة له، فإن خبرته في العمل الإغاثي تجعله أكثر قدرةً على الفصل ما بين مشاعره الشخصية وما يقوم به من عمل؛ "يمكنني أن أعمل طوال النهار في ظل ظروف إنسانية قاسية، ولكن في نهاية اليوم سأعود إلى دائرة حياتي الشخصية"، ويضيف: "من الطبيعي أن تكون هنالك إزاحة للمشاعر الشخصية والهموم الفردية في ظل كارثة تحدث على مستوى الجماعة التي ننتمي إليها، لا سيما خلال الأيام الأولى، ولكن هذا لا يجب أن يستمر طويلاً، لأن الحياة تستمر ومن الطبيعي أن يعود كل منّا للتعاطي مع همومه ومشكلاته ومعاملاته الشخصية".

كيف نتعامل مع آلامنا؟

تقول المرشدة النفسية نور شربا، لرصيف22، إنه "من الخطأ جداً تجاهل الآلام الشخصية أياً كانت الظروف المحيطة، وأياً كان حجم تلك الآلام، فلن ينجم عن هذا التجاهل في المستقبل سوى المزيد من المشكلات".

وتصنف شربا طرق التعامل مع المشاعر وفق أنواعها، إذ يستلزم ما يندرج تحت نوع الصدمات العاطفية، اللجوء إلى متخصص، لأن الصدمة العاطفية تُعدّ تراكماً لجروح عاطفية على مدى زمني طويل ومن الصعب جداً التعامل معها إلا عن طريق متخصص، وأيضاً هنالك ما يندرج تحت مسمى الجروح العاطفية وقد يمكن للمرء أن يتعامل مع هذه بنفسه، ولكن من الأفضل له اللجوء إلى متخصص أيضاً.

أما بالنسبة إلى المشاعر ذات الكثافة الحسية المنخفضة، والتي غالباً ما تتكون وتتشكل على إثر مواقف أو أحداث يومية تسبب الإزعاج للشخص، فهذه يمكن للمرء أن يتعامل معها بنفسه عن طريق الكتابة، والتي تعدّها شربا، "طريقةً ناجعةً جداً ويُقصد بها أن يقوم الشخص بكتابة وتفريغ كل أفكاره ومشاعره على الورق، ويمكن أيضاً التعامل مع تلك المشاعر من خلال الممارسات الروحية والتأمل، أو من خلال الرياضة، أو القيام بأعمال التنظيف والترتيب، أو قضاء الوقت في الطبيعة وممارسة الطقوس المفضلة والابتعاد عن وسائل التواصل الاجتماعي والأخبار السلبية".

وتؤكد شربا أن "المتخصص النفسي هو الخيار الأفضل في كل الأوقات، وأنه من غير الممكن على الإطلاق أن يتعامل المتخصص مع المريض بالنظر إلى أن هنالك أشخاصاً آخرين يعانون أكثر أو بالمقارنة مع تداعيات كوارث إنسانية تحدث بالقرب منه".

وتقول: "يعتمد كثيرون على العائلة أو الأصدقاء المقربين في الحديث عن مشاعرهم وأفكارهم وآلامهم على الدوام، وما يحدث الآن وفي خضم أحداث شبيهة لحادثة الزلزال، هو أننا نكون أمام مجموعة هائلة من أولئك الأشخاص غير القادرين على البوح لأصدقائهم وأقربائهم خجلاً على الرغم من معاناتهم الكبيرة، وربما قد يقابلهم أولئك فعلاً بالقول إنهم ليسوا فقط من يعانون أو إن معاناتهم لا تساوي شيئاً أمام معاناة من فقد أسرته أو دُمّر بيته بفعل الزلزال، ولكن ما هو مؤكد أن المتخصص النفسي لا يفعل ذلك".

الانغماس في معاناة أشخاص آخرين لن يحدث أي تغيير إيجابي في حياة هؤلاء، بل على العكس هو قد يلغي أي مساعدة من الممكن أن أقدمها لهم بسبب الضرر النفسي الذي لحق بي

وتشير شربا إلى أن هناك العديد من المنصات التي تتيح خدمة الاستشارة النفسية مجاناً للسوريين ومنها منصة "فضفضة"، كما أن هنالك العديد من المنصات التي أتاحتْ خدماتها مجاناً للمتضررين من الزلزال لتقديم المساعدة والاستشارة النفسية المناسبة لهم.

المقارنات مع الآخرين

هنالك من يحاول تخفيف آلامه ومشكلاته الشخصية بعقْد مقارنات مع آلام الآخرين وأوجاعهم، لا سيما في حالة الكوارث، وتقول شربا إنه "من غير المنصف على الإطلاق عقد هذا النوع من المقارنات أياً كانت الظروف لأن لكل شخص رحلة حياة خاصةً به وجسداً له استجابات مختلفة وعتبات ألم شعورية مختلفة".

وتضيف: "حتى إن بقينا في دائرة الحديث عن الزلزال وتداعياته، هنالك أشخاص تضرروا نفسياً بسبب الزلزال أكثر من أشخاص آخرين على الرغم من كونهم قد تشاركوا الحدث ذاته والمسبب نفسه. أغلبنا يعاني من جروح عاطفية وصدمات ولكن شدتها تختلف من شخص إلى آخر، كما أن مسبباتها تختلف من شخص إلى آخر وما يمكن أن يسبب لشخص مشكلةً نفسيةً، قد لا يؤثر في آخر على الإطلاق".

الجهاز العصبي للإنسان، بحسب شربا، يتعامل مع المواقف من دون النظر إلى مسبباتها وجذورها، وقد يبدي في حالة الكوارث أو الهرب والخوف من الزلزال استجابةً تتمثل في ضيق تنفس ودقات قلب متسارعة وغيرهما من التأثيرات المباشرة على الجسم، وأيضاً قد يبدي هذه الاستجابة نفسها إزاء موقف محرج أو انفصال عن شريك عاطفي أو رسوب بالفحص مثلاً، وبذلك لا يمكن أن تكون هنالك تراتبية للألم، لأن الألم هو الألم والجهاز العصبي للإنسان يعمل وفق هذا المبدأ".

وتشير شربا إلى "حالة شائعة جداً في مجتمعاتنا العربية، وغالباً ما يتم ربطها بالإنسانية وهو أمر خطأ جداً، وهي أننا قد نصل إلى حالة من الاندماج بمعاناة الآخرين ومشاعرهم تكون على مستوى التبني وليس فقط التعاطف، ولكن من الضروري أن يتم العمل على الفصل بين ما أشعر به وبين ما يشعر به غيري لأن هذا الدمج والانغماس في معاناة أشخاص آخرين لن يحدث أي تغيير إيجابي في حياة هؤلاء، بل على العكس هو قد يلغي أي مساعدة من الممكن أن أقدمها لهم بسبب الضرر النفسي الذي لحق بي".

الحاجة والعوز

العديد من السوريين يعتمدون في سد احتياجاتهم الطارئة، لا سيما الطبية منها، على ما تقدّمه الجمعيات الخيرية والمؤسسات الإنسانية من مساعدات. لقد انصرف اهتمام وتركيز وجهود تلك الجهات نحو إغاثة المتضررين من الزلزال وبهذا تراجع تصنيف أولئك الذين هم بحاجة بسبب ظروف معيشية صعبة، في مقابل تقدم شرائح أخرى قد فقدت المأوى وخسرت كل ممتلكاتها الشخصية وأصبحتْ بحاجة مستعجلة إلى الإغاثة والمساعدة.

من الصعب أن تكتم شعوراً قاسياً وغير محتمل لأن هنالك من سيعدّه شعوراً تافهاً وسخيفاً في خضم كل ما يحدث

يؤكد مدير مؤسسة "بصمة شباب سورية-فرع حمص" محمود جنيدي، والذي حوّل صفحته الشخصية على فيسبوك منذ مدة طويلة إلى مكان تُستقبل من خلاله الحالات الإنسانية للنشر واستقطاب المساعدة، أنه لا يمكن تجزئة العمل الإنساني وأن هنالك أشخاصاً وعوائل قد يشعرون بالخجل فعلاً من طلب المساعدة في ظروف كهذه.

ويقول: "لا شك أن فرق المؤسسة تحركت على الفور لمساعدة الأهالي الذين تضرروا جراء الزلزال، ونحن مستمرون في العمل الإغاثي بالتشارك مع بقية الجهات الفاعلة في المحافظات المنكوبة، ولكننا ومن خلال إداراتنا وفرقنا الموزعة في المحافظات لم نتوقف عن استقبال الحالات التي هي بحاجة إلى مساعدة، إذ إن هناك عوائل بحاجة إلى أدوية سرطان أو عمليات مستعجلة وإسعافية، لا يمكن أن نقول إن هذه الحالات هي في تصنيف آخر بسبب تداعيات الزلزال أو إنها ليست ضمن أولوياتنا".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image