أنتم أيضاً تتساءلون عن اسم "إسطامو"، وأين هي؟ ولماذا نكتب عنها؟ وما علاقتها بالمنفى؟ أنا مثلكم لم يخطر ببالي ذات يوم، أن أسأل عن هذه التفاصيل، إلا بعد أن حدث زلزال السادس من شباط/ فبراير، وأسقط ستة عشر بناءً في تلك المنطقة، وعجن معها خمسين إنساناً فأحال يومهم اﻷخير، العادي ككل أيام السوريين، إلى اﻷبدية.
خمسون إنساناً كانوا ينتظرون مثلنا اﻵن، رسالة المازوت أو الغاز أو الكهرباء في شتاء قارص، ويحاولون تهدئة أحلام أطفالهم الباردة بدفء لا يأتي، وينتظرون أيضاً صباحاً يخرجون فيه إلى كل فجّ عميق بحثاً عن لقمة العيش المضنية.
نحن لا نبالغ، هكذا هي الحياة، محاولات ثم محاولات لترميم ذواتنا واﻵخرين. ذات قصيدة، كتب رفيقنا الشهيد مهدي عامل (حسن حمدان): "نكتب ربما ﻷنّ الحياة محاولة فاشلة". العمل شكل من أشكال الكتابة على جلد الحياة.
سوف نمشي معاً بهدوء هناك، وسنحاول ألا نوقظ أحداً من الراحلين، لعلّنا نستطيع لقاء أحلامهم اﻷخيرة مرميةً فوق الركام. هنا سنجد كثيراً من اﻷحلام، السوداء والرمادية غالباً، مكسورةً ومتناثرةً شظايا، أحلام السوريين باﻷبيض واﻷسود، مثل أيامهم منذ سبعين عاماً، يا للحظ العاثر، هناك دول حظوظها أفضل من غيرها، نحن ملوك الحظ العاثر منذ تأسست دولتنا على أنقاض الشام الكبرى.
يا إله اﻷشياء الصغيرة والكبيرة، كم نحن باهرون في رواية الحزن والموت. ذات عصر سُئل شاعر عربي من عهد ما قبل النبي محمّد: "لماذا مراثيكم أجودُ أشعاركم؟ فأجاب: ﻷننا نكتبها وقلوبنا تحترق".
نحن منذ عشر سنوات نحترق ولا نترمّد. نموت. جّربوا فينا جميعهم ـأنظمةً ومعارضات ودولاًـ كل أساليب الموت والخنق والقتل والتعذيب والبراميل وقصف الطائرات والصواريخ، ولم نمت، ولكن لم نعطَ حق اختيار مكان دفننا.
يا إله اﻷشياء الصغيرة والكبيرة، كم نحن باهرون في رواية الحزن والموت. ذات عصر سُئل شاعر عربي من عهد ما قبل النبي محمّد: "لماذا مراثيكم أجودُ أشعاركم؟ فأجاب: ﻷننا نكتبها وقلوبنا تحترق"
نحن ما زلنا على قيد، أو بلغة الراحل سعد الله ونوس، محكومون باﻷمل… أيّ أمل! ما علينا.
موسم الهجرة إلى… إسطامو!
كل من درس في معاهد وكليّات جامعة تشرين في اللاذقية، وربما كليات ومعاهد جامعات سوريا اﻷخرى، يعرف هذا الاسم جيّداً؛ إسطامو. لقد مرّت على تلك اﻷوقات سنوات طويلة.
بعد النكسة العربية الشهيرة عام 1967، وهي تعبير ملطّف عن تلك الخسارة الفادحة لخمس دول عربية أمام الـ(…) -لماذا لم يعد بإمكاننا تسمية اﻷمور بمسمياتها الحقيقية؟- ما علينا، لنكمل، بعد تلك الخسارة أقرّت سوريا ونظامها البعثي الحاكم برنامجاً لتدريب الطلاب الذكور على أن يكونوا جزءاً مسانداً للجيش السوري، فظهرت مادة "التربية العسكرية" للمدارس اﻹعدادية والثانوية، وتوسع البرنامج لاحقاً حتى وصل إلى الجامعات السورية تحت مسمّى "التدريب العسكري الجامعي". ضمن هذا التدريب، يجب قضاء أسبوعين من "العسكرية الميدانية" في معسكرات يقودها ضباط فاشلون غالباً في الجيش، أو مغضوب عليهم لأسباب لا علاقة لنا بها اﻵن، ويقضي فيها الطلاب تدريباً مكثفاً على حياة الجيش اﻷصلية.
كانت الجائزة مقابل الالتحاق بهذه المعسكرات، اﻹعفاء من ستة أشهر من الخدمة العسكرية الفعلية للذكور والبالغة عامين ونصف العام، وهكذا كان اﻷمر مغرياً لنا كي نواظب على الحضور إلى هذه المعسكرات خاصةً أنها أخف وطأةً بكثير من حياة الجيش المتعبة والقاسية بكل ما فيها من غربة وفقر وجوع. معسكرات ذكور اللاذقية كانت في إسطامو.
تقع إسطامو في منطقة "الجوبة"، على بعد بضعة كيلومترات من أوتوستراد اللاذقية-طرطوس الدولي، وتتبع إدارياً لناحية الفاخورة، واﻷخيرة تتبع لـ"القرداحة"، وتقع ذكريات كثر من ذكور سوريا هناك أيضاً.
في تلك المعسكرات كنا نغنّي: "منفى الشباب إسطامو... يامو"، لقد كان المنفى قريباً أكثر مما نتخيل. هل كان نزار قباني مثلنا عندما كتب: "كل المنافي لا تبدد وحشتي ما دام منفاي الكبير بداخلي؟". لقد كان نزار قباني سورياً.
والاسم ليس دليل صاحبه إنْ... وقع
يقول الباحثون في علوم اﻹيبوغرافيا (الإسمولوجيا)، إنّ اسم إسطامو آتٍ من السريانية، من السطم، اﻹغلاق والصموت (مصمت) وهو في العربية ذو معنى مشابه، لكن ذلك ليس صحيحاً، إذ إنّ معنى الاسم "الحديد الصلب"، على هذا يمكن تقدير عمر البلدة ببضعة آلاف من السنين، ويؤكد ذلك أنّ لها اسماً قريباً في اﻷوغاريتية: "إيليشتامو"، والاسم اﻷوغاريتي يتضمن المقطع "إيل" أو "إيلي"، وهو اسم يلتصق بالكثير من أسماء القرى هنا، ويعادل كلمة "الله" في العربية. "إيل" هو رب اﻷرباب في مجمع (بانثيون) أوغاريت الإلهي، ثم "شتامو" وهي التي أصبحت اليوم "إسطامو" وتعني الحديد الصلب القاسي.
نحن منذ عشر سنوات نحترق ولا نترمّد. نموت. جّربوا فينا جميعهم ـأنظمةً ومعارضات ودولاًـ كل أساليب الموت والخنق والقتل والتعذيب والبراميل وقصف الطائرات والصواريخ، ولم نمت، ولكن لم نعطَ حق اختيار مكان دفننا
لكن الزلزال لا يهمه إنْ قُدّت الأماكن من فولاذ، فهو اﻵمر الناهي القدير على كل خراب. لا أحد في إسطامو يهمه هذا الكلام، ولا أنا.
حين سقطت الأبنية الستة عشر هنا، لم يكن الله حاضراً على الأرجح، فلو كان حاضراً ربما خطر في باله أن يغيّر توقيت الزلزال إلى العاشرة صباحاً، موعد خروج الناس إلى الأقرباء أو المحال لشراء إفطار أو ستكون غالبية منهم في أعمالها "البرّية"، كون السوريين اليوم صاروا في أكثريتهم يعملون في البحث عن غذاء في البراري، لكنّه فعلها في "عزّ النوم"، كما تقول فيروز.
على اﻷقل لو كان حاضراً لكان أعطى إشارةً إلى عبيده (أليس هذا تعبيره المفضّل؟)، إشارةً من قبيل صياح ديك بشكل متكرر، ضجيجاً ما ليفرّوا من جحيم أرضي وقوده الحجارة واﻹسمنت الفاسد والحديد المغشوش والمتعهدين السفلة. الله، على اﻷرجح، لم يكن حاضراً.
تأخرت... تأخرت
وصلتُ إلى البلدة المهدّمة في آخر يوم لعمليات البحث عن ناجين تحت اﻷنقاض، وقضيت مع المنتظرين ساعات طوال وأنا أصلّي صلاتي ليخرج أحدهم من تحت الركام الفاضح. أخبرتني صحافية صديقة بأنّ هناك عدداً غير معروف ما زال تحت اﻷنقاض.
لا أحد هناك من المنقذين يمتلك أدوات حديثةً من قبيل الكاميرات والحساسات كي يلتقط نبضاً محتملاً تحت الركام، فقط النقارات تعمل بدأب وحذر وخوف، يقودها سائقون لديهم خبرة تكسير الباطون بضربات متتالية مع توقفات متكررة وصراخ في جوف اﻷبنية، إن كان هناك أحياء.
يخطر في بالي أنّه لا يوجد سوري يتشبث بحياته إلى هذه الدرجة. إن خرج حياً سيخرج بفرح للحزن على أحد ما، و"من مات استراح".
بعض اﻷحياء خرجوا من تحت اﻷنقاض، فالحياة ليست قابلةً للتكرار بسهولة، برغم أنّ الديانة السائدة هنا، لنسمها كذلك من دون فذلكات إسلامية، العلوية، تؤمن باحتمال العودة إلى الحياة بثوب إنساني جديد، إذا كنت فرداً صالحاً في حياتك اﻷولى، أي ما يسمّونه هنا: التجييل. يتفق مع هذا أبناء المرشدية المنشقون عن العلوية والمقيمون بجوار بعضهم هنا، "إخوةً أعداء"، منذ نحو نصف قرن.
في تلك البلدة الصغيرة، هناك مقام ديني يحمل اسماً غرائبياً لم يمسسه أذى الزلزال: مقام "الشيخ ريح"، وهو لقب سائرٌ هنا للصحابي "أبو محمد عبد الله بن رواحة" اﻷنصاري الذي استشهد في غزوة مؤتة في العام الثامن للهجرة، وهو من نقباء اﻷنصار، ومقامه مقدّس لدى المسلمين عموماً، ووفق الأدبيات العلوية فهو موكّل بشؤون الرياح، ولعل هذا ما يفسّر اسمه وله مقامات مختلفة في الجبل العلوي.
أسأل بوضوح افتقدته طوال اﻷسبوعين الفائتين منذ الزلزال: ماذا ستفعل يا أنا في هذه البرهة الزمنية التي لا تتجاوز ميلاد فراشة في تاريخ الكون؟ من جهتي أهبط إلى الشارع وأشعل سيجارةً.
لا وقت للآلهة، الوقت رصيد ينتهي كلّما تقدمنا في العمر، أي الحياة. الزمن أمر آخر.
يقول الصديق حسين عجيب، إنه اكتشف نظريةً جديدةً للزمن. أفكّر في ماذا لو استطعنا أن نعود بالزمن إلى الساعة الرابعة صباحاً قبل وقت الزلزال بثلث ساعة؟ ما هي الخيارات التي يمكن لنا أن نختارها إذا علمنا أنّ الزلزال سيحدث بعد ثلث ساعة؟
أسأل بوضوح افتقدته طوال اﻷسبوعين الفائتين منذ الزلزال: ماذا ستفعل يا أنا في هذه البرهة الزمنية التي لا تتجاوز ميلاد فراشة في تاريخ الكون؟ من جهتي أهبط إلى الشارع وأشعل سيجارةً.
الفقر والفاقة والتجاهل
ساعات طويلة مضت بعد الزلزال وأهل البلدة يعملون وحدهم في محاولة إنقاذ أحبتهم ومعارفهم من تحت بيوتهم المنكوبة، ولم تصل فرق اﻹنقاذ الحكومية إلى هناك إلا بعد أن أغرقوا وسائل التواصل الاجتماعي بنداءاتهم. سقط خمسون شخصاً (العربية لغة المذكر كثيراً) ونجا أقل من خمسة وعشرين بناءً من ستة عشر تهدّمت ﻷسباب شتّى.
مشهد الدمار الكوني يمتد إلى أماكن عدة، كل منها أشبه بمقبرة محتملة لوجوه معروفة وأخرى غير معروفة. تنتهي إزالة اﻷنقاض بجهود محلية، جميع فرق اﻹنقاذ العربية واﻷجنبية وصلت بعد أيام عدة على الكارثة، وقليلاً ما أفادت في إنقاذ ضحايا. وربما لو وصلت في الساعات الأولى لكان احتمال العثور على ناجين أعلى بحكم وجود تقنيات لديها لا تمتلكها فرق الدفاع المدني السوري المتعبة والمتهالكة. تُشكر جداً فرق الدفاع المدني ومنظومات اﻹسعاف الحكومية، فهي لم تقصّر في أي نداء ولو تأخرت عن البعض ﻷنها لا تملك معدات كافيةً لتغطية كل أماكن الانهيارات. تلك لعنة أخرى أصابت البلاد فليس هناك من يؤمن بأنّه حتى الكوارث يجب أن تكون لها إدارة.
هذه البلاد تعاني في كل شيء، حتى في لحظاتها العادية.
قبل الزلزال بكثير، كنا أمام مدن مدمرة بالكامل خلال سنوات الحرب، ومن اليقيني أنّ أبنيتها قابلة للسقوط إنْ كان بفعل العوامل الجوية أم بفعل تضررها من القذائف والصواريخ والبراميل وغيرها. لم نفعل شيئاً سوى تسجيل الانتصارات على "إخوتنا اﻷعداء".
في إسطامو تتأكد تماماً من أننا نعيش بقدرة كونية، إلهية، عبثية، حيث الفقر اﻷسود مقيم في قرى هذه البلدة وجوارها. قراها التي تحمل أسماءً شعريةً لا علاقة للشعر بها. هل سمعتم بحارة صغيرة اسمها "حرف الهوى"؟ الهوى بالألف المقصورة وليس الهواء؟ ستقولون إنه اللفظ اليومي الذي يخفف آخر الكلمات، حسناً، أكانت هوىً أم هواءً، الحرف يجمعها.
من قال إنّ الماء لا لون له ولا طعم ولا رائحة؟ هنا الماء والحياة بطعم العلقم، والضحايا الذين يموتون، هم على جبهات لا علاقة لهم بما يجري فيها
كل أنواع الحاجة متوافرة، من الطعام إلى اللباس. هل سبق وشاهدتم عشرات الذكور يرتدون الجاكيت نفسها "الفيلد العسكري"، في مكان واحد وليسوا من العسكر؟ هل سبق وشاهدتم نساءً يحملن الحطب على ظهورهنّ ويبتسمن للقدر؟ من قال إنّ الماء لا لون له ولا طعم ولا رائحة؟ هنا الماء والحياة بطعم العلقم، والضحايا الذين يموتون، هم على جبهات لا علاقة لهم بما يجري فيها.
هنا كل فقر ممكن.
عندما وصلنا إلى هناك مع باصين محمّلين بالمواد الغذائية والبطانيات والمياه، احترنا على من سوف نوزّع تلك اﻷشياء التافهة. معظم الناس دون خط الفقر، أيّ خط هذا؟ معظم الناس فوق اﻷرض وتحت كل أنواع الخطوط. كاد الناس أنْ يشتبكوا بالأيدي. كل واحد منهم يبحث عن نجاة ما من أي شيء، نُدرك أن الكوارث تُخرج أسوأ ما فينا نحن البشر. في العمل الميداني للإغاثة تلتقط كاميرا روحك أشدّ أنواع التطرف البشري المبرر كلياً بلعنة الوجود.
تعود ولا تعود
سيّدة سبعينية على الطريق تصنع خبز التنور، ابتسامتها أوسع من وطن مهدّم فوق رؤوس مستأجريه. تقول الحكومة البلهاء إنّ ترميم البيوت المتصدعة على حساب أصحابها، والمصارف ستيسّر قروضاً بقيمة ملايين الليرات لموظفين رواتبهم بالليرات.
تبتسم السيدة وتدعونا إلى تذوّق خبزها. تعجنه بالبطم فيتحول إلى قصيدة (يمكن لكم/ ن أن تغيّروا التشبيه على كيفكم)، تقول السيدة: "اللي كاتبو ربك بيصير". أوافقها غير راغب في الجدل مع يقين مستقر: "نوم على يقين... خير من ألف صلاة على شكّ"، يقول الإمام علي، وأقول بعده: "كم هي ضخمة مكتبة الله لتحوي كل هذه السجلات المكتوبة فيها أعمالنا التافهة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.