شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
من هنا بدأت أسطورة علاقة الوباء والغلاء باحتجاب النساء

من هنا بدأت أسطورة علاقة الوباء والغلاء باحتجاب النساء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والنساء نحن والتاريخ

الأحد 19 فبراير 202305:32 م

التاريخ عند ابن خلدون، هو إخبار عن الاجتماع الإنساني من خلال استقصاء أخبار الناس وحركتهم في الماضي، وما يعرض لطبيعة ذلك الاجتماع العمراني من الأحوال، فالعلاقة بين التاريخ والاجتماع علاقة وثيقة لا تكاد تنفصم، حتى وإن بدا – في الظاهر- أن الجزء الأكبر من كتابات المؤرخين تاريخاً سياسياً يعتني بحياة النخب الحاكمة، تظل ممارسات الأفراد والجماعات على اختلاف مواقعها الاجتماعية؛ هي العمود الفقري لأي دراسة تاريخية.

وتختلف دراسة الحياة الاجتماعية عن دراسة الأحوال السياسية؛ ذلك أن الأحداث السياسية دائماً ما تتعرض إلى تغييرات حادة وتحولات سريعة، على عكس الحياة الاجتماعية التى غالباً ما تميل إلى الاستقرار، خاصة في مجتمع يغلب عليه السمت الزراعي كالمجتمع المصري. لهذا من السهل أن نجد ظواهر اجتماعية مستقرة ومستمرة في المجتمع المصري منذ قرون بعيدة، على الرغم من التحولات الكثيرة التي مرت بها البلاد خلال مئات الأعوام، وعلى الرغم كذبك من موجات التحديث التي توالت عليها منذ نهايات القرن الثامن عشر.

ويمكن رصد ذلك بسهولة من خلال العودة إلى كتابات المؤرخين خلال أكثر الحقب التاريخية المصرية حظوة بالتوثيق، وهي نهايات العصر الفاطمي وبدايات حكم المماليك بدولتيهم، البحرية والبرجية.

على الرغم من تقدم العلوم، وازدياد عدد المتعلمين بعد ما يزيد على ثمانية قرون من بداية تسجيل تلك المعتقدات، لاتزال تلك الحالة الذهنية التي تربط كل أزمة بيئية واقتصادية بلعنة إلهية ما، مكوناً أصيلاً من مكونات وعينا الجمعي

البلاء والغلاء

بالعودة إلى كتاب حامد زيان غانم، "الأزمات الاقتصادية والأوبئة في مصر في عصر المماليك الجراكسة"، نجد أن مصر عانت على مدى عدة قرون من تأثير موجات متتالية من الأوبئة والكوارث الطبيعية، وتغييرات مناخية حادة أدت إلى تضارب في مستويات النيل بين الجفاف المدقع إلى الفيضان المهلك للمحاصيل والناس ما تسبب في نقص الغذاء، إلى جانب ما يتركه الفيضان من فرص لانتشار أوبئة كثيرة.

ونعرف كذلك من تاريخ تقي الدين المقريزي، كيف أدى التضارب الشديد الذي سجله مقياس النيل خلال السنوات الممتدة من 1429 إلى 1439 إلى انتشار الفزع بين المصريين من أهوال المجاعات، ما دفعهم نحو تخزين السلع الغذائية، وهو ما أدى بالتبعية إلى نفاذها من الأسواق وارتفاع أثمانها، "وكلما أبطأ عليهم النيل في الوفاء أخذوا في شراء الغلال فيرتفع سعرها".

إضافة إلى ذلك، يسجل التاريخ كوارث بيولوجية تفاقمت في مصر في الفترة التاريخية ذاتها، من تفشي آفات المحاصيل من الفئران والجراد، وانتشار الأوبئة الحيوانية، وفقا لما يورده عثمان على عطا في كتابه "الأزمات الاقتصادية في مصر في العصر المملوكي وأثرها السياسي"، إلى جانب سلسلة من الزلازل العنيفة التي تسببت في هدم البيوت وتقطع السبل، كما نعرف من العيني صاحب "عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان".

عجزت النخب الدينية عن تفسير التعقيدات الاقتصادية والبيئية، إلا أن أغلب تصانيفهم وتفاسيرهم لهذه الظواهر لم تخرج عن النظر إليها باعتبارها أمراً إلهياً وعاقبة أخلاقية لانتشار المعاصي وكثرة خروج النساء من منازلهن

ويخبرنا ابن إياس صاحب "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، عن نقص المواد الغذائية من الأسواق وارتفاع أسعار أنواع مختلفة من الفاكهة والخضروات والزهور والحبوب، وكيف تغير نمط العرض والطلب على بعض السلع الزراعية بسبب عدم كفاية فيضان النيل، حتى اعتمدت مصر بشكل أساسي على القمح والخضروات المجلوبين من بلاد الشام، بعد أن كانت قادرة على تصدير القمح إلى الشام، بل ومنحه في هبات إلى أهالي الحجاز.

وحجاب النساء

عجزت النخبة المصرية السياسية والعسكرية عن مواجهة هذا الكم من الأزمات البيئية والاقتصادية نتيجة هشاشة النظم المالي وفساد الإدارة السياسية، كذلك عجزت النخب الدينية الممثلة في المنظومة الفقهية والقضائية عن تفسير هذا الكم من التعقيدات الاقتصادية والبيئية، رغم ما خصصوه من تصنيفات وفصول داخل كتبهم الفقهية عن "وقوع الطاعون"، أو ما وضعوه من مؤلفات خاصة بكشف الوباء، على غرار كتاب "بذل الماعون في فضل الطاعون" لابن حجر العسقلاني، و"الطب المسنون في دفع الطاعون" لشهاب الدين التلمساني؛ إلا أن أغلب تصانيفهم وتفاسيرهم لهذه الظواهر البيئية والأزمات الاقتصادية، لم تخرج عن النظر إليها باعتبارها أمراً إلهياً وعاقبة أخلاقية لانتشار المعاصي وكثرة خروج النساء من منازلهن.

ومن ثم اقتصرت الحلول عندهم على الدعاء والبكاء والدعوة إلى حجب النساء. وكلما ارتفعت الأسعار أو حلت كارثة بيئية، "يأمروا الناس بالتوبة والإقلاع عن المعاصي والإكثار من الطاعات، ونودي بمنع النساء من الخروج"، وفقاً للعسقلاني في كتاب "إنباء الغمر بأنباء العمر".

وعلى الرغم من تقدم العلوم، وازدياد عدد المتعلمين بعد ما يزيد على ثمانية قرون من ميلاد تلك المعتقدات، لاتزال تلك الحالة الذهنية التي تربط كل أزمة بيئية واقتصادية بلعنة إلهية ما، مكوناً أصيلاً من مكونات وعينا الجمعي، ولا تزال تشكل رؤيتنا للتاريخ وتصورنا عن العالم. تلك الحالة الذهنية التي لا تكاد تَخمل حتى يوقظها وعاظ السلاطين ودعاة الإسلام السياسي، وهي الجزء الهش من تاريخنا، والجانب المظلم من ماضينا الذي يلقي بظلاله على حاضرنا، فيَمنعنا من البحث عن أسباب واقعية لما نواجه من تحديات اقتصادية وبيئية، ويحجب عنا مناهج جديدة للتفكير في حلول منطقية لمشكلاتنا المعاصرة، بعيداً عن شعارات لن تحل الازمة، بل تخلق في مقابلها أزمات مثل: "لن يزول الغلاء إلا أن تتحجب النساء" التي امتلأت بها جدران شوارعنا ومواصلاتنا العامة في مصر.

هنا نبدأ

نعرف من ابن إياس عن خروج قاضي القضاة إلى الصحراء بعد أن ساد الغلاء وعز وجود القمح في الأسواق عام 1416م، فاجتمع حوله خلائق لا حصر لها من الناس، ورفع يده بالدعاء طلباً لرفع البلاء، فلما كان عام 1427م، نقص ماء النيل وقلت الغلال من الأسواق مجدداً، "فأمر السلطان القضاة الأربعة أن يتوجهوا إلى المقياس، ويقرأون سورة الأنعام أربعين مرة، ويدعون إلى الله بالزيادة، فلما فعلوا ذلك نقص النيل ثلاثة أصابع، ثم هبط بسرعة، فشرقت البلاد ووقع الغلاء".
ويضيف العسقلاني أنه لما اضطرب ماء النيل اضطراباً شديداً في عام 1429م، اجتمع السلطان مع القضاة والقراء عند مقياس النيل، وقرأوا القرآن وابتهلوا بالدعاء، ثم نزل السلطان من القلعة إلى الصحراء، فدعا برفع الغمة وتصدق على الفقراء، إلا أن ذلك لم يوقف ارتفاع أسعار سائر السلع الغذائية، "وحل بالناس الغلاء، وما لا خير فيه" وفقاً لابن شاهين، في كتاب "نيل الأمل في ذيل الدول".

في العام 1430م، كان عدد من يموتون في القاهرة يقارب 100 شخص يومياً، فنودي في الناس بصيام ثلاثة أيام والتوبة. وخرج كاتب السر والقاضي الشافعي وجمع كثير من بياض الناس وعوامهم، فدعوا وبكوا وانصرفوا قبل الظهر، فكثر فيهم الموت أضعاف ما كان

لكل نازلة أسباب من فساد

ولم تتنبه النخب المصرية على تنوعاتها العسكرية (أمراء مماليك) والدينية (فقهاء وقضاة)، إلى هشاشة نظام الري والصرف الزراعي في ظل تردٍ شديد أصاب مجمل النظام الزراعي المصري، كما نعرف من سعيد عاشور في كتابه "العصر المماليكي في مصر والشام"، خاصة بعد التراخي الذي أصاب مفاصل الدولة، وتقلص الموارد المالية المخصصة لأعمال الصيانة وإصلاح السدود والجسور، وفساد الكشافة القائمين عليها، كما يذكر المقريزي في كتاب "السلوك لمعرفة دول الملوك"، بأن "نقص النيل لتقطع الجسور من فساد عمالها".

ويذكر الصيرفي في كتاب "نزهة النفوس والأبدان في تواريخ الزمان"، أن السلطان أمر صاحب منصب المحتسب أن ينادي في الناس بصوم ثلاثة أيام، نتيجة تفشي الطاعون عام 1420م، فصاموا وخرجوا إلى الصحراء، وخرج أمامهم الفقهاء والقضاة ومعهم الوزير، فنصبت المطابخ وهيئت الأطعمة، ثم نزل السلطان إليهم صباح اليوم التالي من القلعة، فاجتمع حوله القضاة والمشايخ وعامة الناس، فبسط السلطان يده بالدعاء، وبكى طالبا رفع الوباء، "واستمر الناس في الخشوع والدعاء إلى أن اشتد الحر فانصرفوا، وهكذا زعموا أنه لانكشاف البلاء".

في العام 1430م، كان عدد من يموتون في القاهرة يقارب 100 شخص يومياً، وفقاً للعسقلاني، فنودي في الناس بصيام ثلاثة أيام والتوبة، و"خرج كاتب السر والقاضي الشافعي وجمع كثير من بياض الناس وعوامهم، فدعوا وبكوا وانصرفوا قبل الظهر، فكثر فيهم الموت أضعاف ما كان"، حتى بلغ 500 شخص في اليوم الواحد، كما يذكر أبو المحاسن صاحب "النجوم الزاهرة". إذن،كان حل الفقهاء في وقت الوباء، هو جمع الناس للدعاء، لتكثر فيهم الإصابات والعدوى.

فلما تزايد أمر الطاعون، نادى السلطان في الناس "أن يتقوا الله ويصوموا ثلاثة أيام متوالية"، وفقا لابن إياس، بينما يشير المقريزي إلى أوامر السلطان إلى كاتب السر بجمع 40 رجلاً من الأشراف (الذين يمتد نسبهم إلى النبي محمد)، اسم كل منهم "محمد"، فجلسوا بالجامع الأزهر يقرأون القرآن بعد صلاة الجمعة، ثم قاموا ودعوا بكشف البلاء، فلما جاء موعد صلاة العصر، صعد الأربعون إلى سطح الجامع ورفعوا الأذان جميعاً "وكان هذا مما أشار به بعض العجم".

انتقلت النخبة الفقهية إلى مطالبة السلاطين بحجب النساء، واكتفت برفع الدعاء والدعوة إلى التوبة "بكسر جرار الخمر، وحجر الحشيش، ومنع النسوة الخواطي من فعل الفواحش"، من دون النظر إلى مفاسد الحكام وعدم أهليتهم لمناصبهم

ويضيف العسقلاني "لما اشتد أمر الوباء، طلب السلطان استفتاء الفقهاء عن نازلة الطاعون، فتشعبت آراؤهم، ومنها التوبة والخروج من المظالم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، فإذا بالسلطان يتساءل عن مرادهم بالمظالم، فذكروا له من جملة ما تجدد بمنع التجار عن بيع البهار والفلفل إلا حصرياً للسلطان ورجاله، ثم التشديد على الباعة في طرح النطرون للأسواق، إضافة إلى احتكار إنتاج السكر فلا يزرع القصب إلا في أراضي السلطان، إلا أن السلطان لم يستجب لهذا، بل توسع في سياسة الاحتكار، حتى أصبح أغلب أنواع البهار والغلال حكراً له، لا تباع إلا تحت إشراف رجاله، وفقاً لطلعت عكاشة، في كتابه "المراسيم وأثرها الاقتصادي في مصر والشام عصر سلاطين المماليك".

النساء ضحايا اجتماع الفقهاء والسلطان

هكذا، وكالمعتاد؛ التزمت النخب الفقهية مهارة غض النظر عن السياسات الاقتصادية الاحتكارية التي تبنَّاها الحكام، وكذلك التغافل عما أنتجته تلك السياسات من تردي اقتصادي وعنف اجتماعي، بعد أن أصبحت ظواهر مثل الفقر والمجاعات والمناسر (قطع الطرق) أمراضاً عضالاً يصعب التخلص منها، بل إن الأمر قد تفاقم بعد أن ضرب الفساد مفاصل الدولة، وأصبحت "ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة، القضاء، وولاية الحسبة، وسائر الأعمال، بحيث لا يمكن التوصُل إلى شئ منها إلا بالمال الجزيل، فتخطى كل جاهل ومفسد وظالم إلى ما لم يكن يؤمله من الأعمال الجليلة"، كما نعرف من المقريزي في "إغاثة الأمة بكشف الغمة".

ومن ثم انتقلت النخبة الفقهية إلى مطالبة السلاطين بحجب النساء، واكتفت برفع الدعاء والدعوة إلى التوبة "بكسر جرار الخمر، وحجر الحشيش، ومنع النسوة الخواطي من فعل الفواحش" وفقا لابن إياس، من دون النظر إلى مفاسد الحكام وعدم أهليتهم لمناصبهم، وهو ما يشير إليه المقريزي بوضوح في "إغاثة الأمة"، مسجلاً أن أمد البلاء قد طال في مصر، وحلّت بالناس أنواع من العذاب، حتى ظن الكثيرون أن المحنة غير مسبوقة، ولن تزول؛ "وذلك لأنهم قوم لا يفقهون، وبأسباب الحوادث جاهلون، فمن تدبر الكارثة، علم أن ما بالناس سوى سوء تدبير الزعماء والحكام".

ويخبرنا المقريزي في كتاب "السلوك لمعرفة دول الملوك"، أن السلطان لما كثر الوباء سأل من حضره من القضاة والفقهاء، عن الذنوب التي إذا ارتكبها الناس عاقبهم الله بالطاعون، فأشار عليه بعضاً منهم أن النساء يتزين ويمشين في الأسواق ليلاً ونهاراً، وهو باب لكثرة الفواحش، وأن المصلحة تحتم حجب النساء عن الأسواق، واختلفوا حول منع المتبرجات منهن فقط، دون منع العجائز ومن ليس لها منهن من يقوم على خدمتها، "وجروا على عادتهم في معارضة بعضهم بعضاً"، فما كان من السلطان إلا أن سلك طريق المبالغة بأن منع النساء من الخروج نهائياً من منازلهن، ونودي بالقاهرة ومصر (الفسطاط) ومحيطهما العمراني، بمنع النساء من الخروج إلى الطرقات، وأخذ والي القاهرة وبعضاً من الحُجَّاب (جمع حاجب) في مراقبة الطرقات، وتهديد من تخرج من بيتها بالقتل، "فنزل بالأرامل وربات الصنائع ضيق وضرر شديد، وتعطل بيع كثير من البضائع، وازداد الناس وقوف حال، وكساد معايش، تعطلت الأسواق".

ونعرف من ابن إياس أنه لما كان عام 1471م منع السلطان نساء القاهرة من لبس السراقوش (قُبعة مخروطية بحافة مقلوبة لأعلى)، والعُصابات المُقنزعة (المائلة على الجبين)، وأمرهن بلبس عُصابات يكون طول العُصابة منها ثلث ذراع، ومختومة من الجانبين بختم السلطان، وكتب بذلك إلى بائعي العُصابات، وعُهد إلى المحتسب بمراقبة تنفيذه؛ فأرسل أعوانه يطوفون في الأسواق، فإن وجدوا من تخالف ذلك "يضربونها ويجرسونها والعُصابة معلقة في رقبتها، فقلقن النساء من ذلك، وصارت المرأة إذا خرجت تكشف رأسها وتمشي بلا عُصابة"، فلما اشتد عليهم أعوان المحتسب لبسن العَصايب الطوال التي فرضها السلطان، "إذا خرجن إلى الأسواق فقط على كره منهن".

وإن كان ذلك لا يتجاوز كونه حالة خاصة بنساء القاهرة مقر الحكم ومستقر الفقهاء، فإن ابن أياس يؤكد على أن النساء لم يلتزمن بذلك، "فاستمروا على ذلك مدة يسيرة، ثم رجعن على ما كن عليه من لبس العَصايب المقنزعة والسراقوش"، إلا أنها هذه الحادثة تجسد لنا أولا، الذهنية السائدة للنخب المصرية (العسكرية - الفقهية)، وتعكس إلينا ثانيا، عجز تلك النخب عن مجابهة المشكلات السياسية والاقتصادية، وكيف انحصرت الحلول قصرا على تحجيب النساء وحجبهن، ولم يكن من الغريب أن يخصص الفقهاء فصولا من مصنفاتهم لمطالبة السلاطين وحث الولاة والأخذ على يد المحتسبين، بضرورة منع النساء من الخروج إلى الأسواق والاحتفالات وزيارة المقابر، على غرار "ابن الحاج" وهو الفقيه المالكي الذي يستنكر في مواضع عدة في كتابه "المدخل"، خروج النساء وانخراطهن في الحياة اليومية والممارسات الاجتماعية.

أمر السلطان نساء القاهرة بلبس عُصابات يكون طول العُصابة منها ثلث ذراع، ومختومة من الجانبين بختم السلطان، وعُهد إلى المحتسب بمراقبة تنفيذ الأمر؛ فأرسل أعوانه يطوفون في الأسواق، فإن وجدوا من تخالف ذلك "يضربونها ويجرسونها والعُصابة معلقة في رقبتها"

في عصر العلم

حين استمع إلى خطيب الجمعة منادياً أن وقوع الغلاء والبلاء من أوبئة وزلازل، ما هو إلا عقاباً إلهياً نتيجة انتشار الذنوب والمعاصي، وقلة احتجاب النساء عن الرجال، ابتسم، متذكراً قول ابن الحاج "فتجدهن في الأسواق أكثر من الرجال، وقد تقدم في غير موضع ما في خروجهن واجتماعهن بالرجال من المفاسد التي لا دواء لها في الغالب"، ومتسائلاً، كيف يعكس هذا الخطاب تصورات ذهنية قروسطية، ويمثل رؤية قديمة استطاعت النفاذ إلى عالمنا الحالي كي تُهيمن على الخطاب الديني والاجتماعي وربما السياسي، وكيف يجسد لنا حال نخب؛ أولا تُصر على البحث عن مجتمعات متخيلة (تحجب فيها النساء عن الرجال) يمكن ضبطها بقوة السلطة، وثانيا تتبنى هذا (الحجب/الفصل) كحل سحري لجميع المشكلات الاقتصادية والسياسية دون بذل أي جهد في تصور أسبابا منطقية للتحديات التي تواجه مجتمعاتنا.

هكذا سُجنا في الماضي وصار التاريخ عبئاً عليناً، وصرنا نحن عبئاً عليه، نستورد منه أفكاراً ميتة ومُمِيته نفرضها على عالمنا المعاصر، بدلاً من النظر إلى المستقبل والعناية بأسبابه. تلك الأفكار الماضوية التي لم تنفصل عن عقول الفقهاء وألسنة الخطباء منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا، قد دفعت تيارات معاصرة أخرى تتبنى خطابات أكثر تقدمية إلا أنها خطابات لا تخلو من جلد الذات وشعور عميق بالتدني والنقص تجاه شعوبٍ أكثر تقدماً، سبقتنا في التنمية والتحضر.

كلا الوضعين مهلك، ويقود إلى الاغتراب في التاريخ ويخلق معارك واهية مع الماضي، سواء كان بالانسحاق إلى ذهنية ماضوية تتكئ في تفسير جميع الظواهر البيئة والمشكلات الاقتصادية على العاقبة الأخلاقية، دون النظر إلى أي اعتبارات خاصة بطبيعة النظام السياسي أو الأنماط المتبعة في إدارة الاقتصاد، أو الاغتراب في حاضر غيرنا والوقوع في عقدة النقص أمام الغالب المهيمن على مجريات الحاضر، والتدني أمام منجزاته من دون النظر إلى أي اعتبارات إلى خصوصية التجارب الاجتماعية وسياقتها التاريخية.

وعلينا في النهاية أن نفكر في مخرج آمن لنا، وطريق خاص بنا، يُخرجنا من حالة التردي تلك ويبعدنا عن الاستهلاك الداخلي، حتى نفيق من تلك الغيبوبة التاريخية، وأن نصوغ نموذجاً تنموياً أصيلاً، ونسعى إلى نهضة تشبهنا، تأخذ العبرة من تاريخنا من خلال قراءته قراءة جديدة تستهدف تجاوز الماضي، وتستفيد من الخبرات البشرية الحاضرة بكل انفتاح ومن دون عقدة نقص.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image