بعد أكثر من 50 عاماً من عرضه للمرة الأولى، تحول الفيلم السينمائي الشهير "خللي بالك من زوزو"، إلى مادة لكتاب للأديب المصري حجاج أدول، كما كان محفزاً لـ50 تشكيلياً مصرياً لإنتاج أعمال ضمّها معرض خاص حمل اسم الفيلم أيضاً، في غاليري أوديسي شرق القاهرة.
الفيلم الذي لاقى هجوماً نقدياً وسياسياً حاداً عند عرضه في العام 1972، فيما كانت مصر تعيش أجواء الهزيمة الثقيلة في يونيو/ حزيران1967، لقي كذلك نجاحاً جماهيرياً وحصد إيرادات قياسية في ذلك الوقت. وتحول إلى أيقونة في وعي أجيال مختلفة، حتى أنه ما زال قابلاً للتفاعل معه عبر فنون مختلفة، رغم مرور عقود على عرضه.
جاء المعرض في عمومه مختلفاً ومدمجاً لأنواع فنية متعددة، تمثل خمسين رؤية لفيلم واحد، وخمسين حكاية عن سعاد
عقود من المد السلفي
نسّق لإقامة المعرض رسام الكاريكاتير المصري سمير عبد الغني، الذي تجمعه صداقة قديمة بالأديب حجاج أدول، تعود إلى أواخر ثمانينيات القرن الماضي. بدأت في مسقط رأسهما في مدينة الإسكندرية. رغم كون سمير أصغر سنا من حجاج، إذ كان آنذاك طالباً جامعياً بينما حجاج تخطى الأربعين من عمره.
لم يكن سمير يدرك هذا التناقض بين أجواء محيطه الصغير من مثقفي الإسكندرية، وأجواء المدينة التي تشهد حضوراً مركزياً للتيارات السلفية والجهادية. لكن سمير أدرك هذا الاختلاف عندما أقام معرضاً موازياً لصدور كتاب لصديقه أدول، يحكي عبد الغني لرصيف22: "رغم وجود المد السلفي والأصولي، خلقنا شرنقة حول أنفسنا، نتشاور ونحتفي بإنجازاتنا البسيطة، نحتمي باهتماماتنا المشتركة من أي سياق خارجي لا يحتفي بالفن والثقافة. كنا داخل مناخ مضاد لكل ذلك، قرأت حجاج وفق هذه الرؤية، كما قرأت نفسي حيث كنت دائماً خارج السياق. وكان وجودنا معاً كفنانين وكتاب حالة خاصة داخل مناخ مضاد".
ارتبط سمير بحجاج ذي الأصول النوبية والنشأة السكندرية، بل بدأ نشاطه الثقافي عبر جماعة أصيل النوبية مع الكاتب المسرحي أنور جعفر. ما يتذكره سمير هو أنه لم يكن هناك تمييز بين نوبي وغير نوبي في هذه الأنشطة، وأن المكان جمعه مع شباب من جيله مثل الشاعر خالد حجازي والشاعر طارق السيد والشاعر حسني منصور، والشاعر علي عبد الدايم، والمخرج المسرحي رمضان عبد الحفيظ، والقاص والمترجم إيهاب عبد الحميد. وفي مرحلة أخرى انضم إليهم الشاعر والمترجم عبد الرحيم يوسف، والقاص والشاعر أحمد عبد الجبار والقاص ماهر شريف والمسرحي أحمد صالح وأخرين من 1986 حتى 1993. كان أنور جعفر هو من فتح مكتبته لحجاج وتنبأ له أنه سوف يكون كاتباً متميزاً، وكان حجاج أدول قد بدأ مشواره مع الكتابة في عام 1984 وقد تخطى الأربعين من عمره.
"رغم وجود المد السلفي والأصولي، خلقنا شرنقة حول أنفسنا، نتشاور ونحتفي بإنجازاتنا البسيطة، نحتمي باهتماماتنا المشتركة من أي سياق خارجي لا يحتفي بالفن والثقافة. كنا داخل مناخ مضاد لكل ذلك"
تفرقت السبل بالصحبة بين البلاد، فانتقل سمير إلى العاصمة وبدأ مشواره الفني كرسام كاريكاتور وصار له حضوره في مجال الفن والصحافة في القاهرة، بينما ظل حجاج في الإسكندرية لينتج ما يزيد عن العشرين كتاباً في فنون السرد بين الرواية والمسرح والتأملات، وأصبح واحداً من أهم كتاب ما أصطلح على تسميته "الأدب النوبي"، وكانت له معاركه الخاصة بالقضية النوبية والتي خلقت جدلاً واسعاً. إلا أنه أيضاً قدم كتابات في مجالات عديدة ومنها الكتابة عما عايشه في الإسكندرية، وكمجند في حرب الاستنزاف، وانطباعاته عما تعلق به من أعمال سينمائية، وإلى اللون الأخير ينتمي كتابه الأحدث "رائعة خللي بالك من زوزو" الذي ألهم هذا المعرض.
من أجل زوزو
خلال العام 2022، اقترح سمير إقامة معرض مواز لصدور كتاب ادول في القاهرة، وتواصل مع مصممة الحلى نجوى مهدي مديرة قاعة غاليري أوديسي كي يبدأ الإعداد للمعرض، ثم انهالت أعمال الفنانين التشكيليين من أجيال مختلفة على المشاركة في المعرض، منهم محمد عبلة وسمير فؤاد ووجيه يس، ومصطفى رحمة، وطاهر عبد العظيم، وأحمد عبد الكريم، ود. رضا عبد السلام، ود.سمير عبد الفضيل ود.محمد أبو النجا وزوجته كاترين، وجلال جمعه، وسمر صلاح الدين، وغيرهم. وتنوعت الأعمال المشاركة بين التصوير والكاريكاتور والغرافيك والتجهيز الحر وغيرها من الفنون البصرية. يعقب سمير: "الجمهور أتى للفرجة على سعاد كأنه داخل سينما، طاقتها الإيجابية ملأت المكان كأنها ما زالت على قيد الحياة بيننا، وكأننا نرغب في أن نعتذر منها عما حدث لها".
وما حدث وأنهى حياتها في بلد بعيدة، أياً كان سببه انتحاراً كان أم اغتيال، "ما حدث هو انشطار داخلي تسببت فيه سلطة متعددة المصادر"، وهو ما يشير حجاج إليه في كتابه: "خلال فترتها الأخيرة في لندن، رفضت سعاد أن تستسلم للضغوط المستمرة عليها، مثلما فعلت بعض الممثلات اللائي انحسرت عنهن الأدوار الأولى، وهبط دخلهن من التمثيل، فارتدين الحجاب، وهاجمن الفن عموماً والسينما خصوصاً، مقابل أموال طائلة، رفضت سعاد رغم احتياجها للمال، فهي لا تعمل وتحتاج لمصاريف علاجها الجسدي، وعلاجها النفسي من مرض الاكتئاب".
بدا الكتاب، أيضاً، كأنه رسالة اعتذار إلى سعاد حسني، فلم يهتم الكاتب بتقديم دراسة نقدية بالمعنى المعروف، بل قدم انطباعه المتحيز للفيلم، وأفكاره حول الظروف المحيطة بإنتاجه وعرضه، لكن العنصر الأساسي الذي كان يدور حوله هو حالة معشوقته "السندريلا" ذاتها، التي مثلتها في الفيلم "زوزو" ابنة "نعيمة ألماظية".
من شارع محمد علي إلى شارع الهرم
بين صور المعرض، يتصدر وجه سعاد حسني في مواقف درامية من الفيلم، جسدتها ببدلات الرقص الشهيرة، ملابس السندريلا في مشاهد الجامعة. لفتت نظري لوحة زيتية كبيرة تتمثل فيها فرقة نعيمة ألماظية، تتصدر فيها الأسطى نعيمة "تحية كاريوكا" التي تزوجت موظفاً من طبقة اجتماعية متوسطة ليهجرها بسبب رفض عائلته، فتربي وحدها ابنتها زوزو التي عملت مع والدتها في الفرقة كراقصة وألتحقت بالجامعة وأحبت شاباً غنياً، لتتكرر اللعبة الطبقية بصورة أخرى، لكن اللوحة تحيلنا أيضاً إلى فرق شارع محمد علي وقد أشار إليه حجاج في كتابه باعتباره "من قوى مصر الناعمة"، ويضيف: "لأنه شارع فنون وشارع صار له صيت، أي شهرة قديمة كانت مستمرة حتى سنوات الضياع سنوات السبعينيات الساداتية بعد حرب أكتوبر".
حين عرض الفيلم لأول مرة عام 1972 حقق نجاحاً جماهيرياً واسعاً، كما لاقى هجوماً نقدياً. فهو فيلم غنائي استعراضي كتبه صلاح جاهين الذي ارتبط في الأذهان آنذاك بأغاني الثورة، ما دفع البعض لاعتبار الفيلم "نكوصاً عن المسار الوطني" للشاعر الراحل
يؤكد حجاج أن هذا الشارع لو كان في باريس أو لندن أو برلين لدفعت الدولة بضعة ملايين من الجنيهات وأحتفظت به كما هو شارعا للفنون مع دعم الفرق ودعم أصحاب المباني وكانت ستجني مليارات الجنيهات وأكثر منها رفعة ورقياً حضارياً على حد تعبيره، ويكمل فكرته: "نحن في مصر نهمل قوانا الناعمة بمنتهى الغباء، ولقد ضاع شارع محمد علي وشارع عماد الدين ووسط البلد، ضاعت مقاهي المثقفين والطبقة الوسطى". ويشير إلى أن التطرف ليس هو السبب الوحيد في نسف شوارع وأحياء الفن بل أن الانفتاح في السبعينيات نسف الفنون بشوارعها وأماكنها، على حساب شارع الهرم حيث طبيعة أخرى مختلفة لخدمة جمهور مختلف، فهو على حد وصفه " حيث يقال عنه إن به المال الغزير وتجارة الجسد والسياحة النفطية، وهكذا كانت سمعته، وتلك السمعة مبالغ فيها والمبالغة من بعض الألسنة كانت مقصودة لتلويث الفن عموماً، والغريب أن شارع الهرم سطع وكأنه رد فعل متطرف للتزمت الذي تغلغل في نفوس الناس"
"أنا متزمِّت"
حين عرض الفيلم لأول مرة عام 1972 حقق نجاحاً جماهيرياً واسعاً، كما لاقى هجوماً نقدياً. فهو فيلم غنائي استعراضي، أخرجه حسين الإمام الملقب بـ"مخرج الروائع"، والذي اشتهر بتركيزه على "العوالم والراقصات" في أعماله، وكتبه صلاح جاهين الذي ارتبط في الأذهان آنذاك بأغاني الثورة، ما دفع البعض لاعتبار الفيلم "نكوصاً عن المسار الوطني" للشاعر الراحل. كانت أجواء الهزيمة قد أشعلت الجامعات وحركة الطلبة تطالب بالحرب.
حجاج أدول عن "خللي بالك من زوزو": "وإذا بالفيلم يفرح الناس وهم الحزانى، يبهجهم وهم التعساء البائسون، يضحكهم وهم اليائسون"
في نفس العام عرض فيلم على النقيض هو "أغنية على الممر" من إخراج علي عبد الخالق، ورغم ارتباطه باللحظة المعاشة آنذاك، وبروح الهزيمة والحرب، لم يلق نفس النجاح. يبرر حجاج نجاح "خللي بالك من زوزو" الجماهيري رغم كل تلك الظروف، بأنه "كان نابعاً من طبيعة الجمهور المصري الذي يتغلب على المأساة بالنكتة". يكتب أدول في كتابه عن الفيلم: "وإذا بالفيلم يفرح الناس وهم الحزانى، يبهجهم وهم التعساء البائسون، يضحكهم وهم اليائسون" ويستنكر ثورة النسبة الأعلى من النقاد، ومساحة عريضة من طلاب الجامعة، واتهامهم للفيلم بأنه يلهي الشعب عن الحرب، مستدعياً عبارة رددتها شخصية المتزمت عمران الذي قام بدوره في الفيلم الفنان محيى إسماعيل:"أنا لا أؤمن بالمسرح، ولا بالترفيه، ولا بالحفلات الرياضية، أنا متزمت"، لينقد أدول "تزمُّت" النقاد في رفضهم الفيلم باعتباره "ليس فناً جاداً"، مترجماً اعتراضهم إلى : "أنا لا أؤمن بالمسرح غير الجاد، ولا بالترفيه بعيداً عن إبراز أهداف الثورة، ولا بالحفلات الرياضية التي لا تحتوي لافتات وأناشيد الثورة، أنا متزمت".
بين الترفيه والسطحية
يشير سمير عبد الغني إلى أن إقامة المعرض هذا العام ارتبط برغبته في الاحتفاء بكتاب صديقه، وأن كل فنان شارك وجد داخل قاعة العرض أنه كان في حاجة لهذه الفرحة والطاقة، في تلك الظروف الصعبة التي يمر بها الجميع، وكان طيف سعاد في اللوحات، ضحكتها، وأزياؤها الملونة، طاقة نور ومحبة. ويرى حجاج في كتابه أن الفيلم لم يكن لإلهاء الشعب لكنه كان لإسعاده. جاء المعرض في عمومه مختلفاً ومدمجاً لأنواع فنية متعددة، تمثل خمسين رؤية لفيلم واحد، وخمسين حكاية عن سعاد، بينما كان الفيلم محملاً بمشاكل فنية لم ينكرها حجاج رغم دفاعه المستميت عنه، أو بالأحرى عن السندريلا، فلم ينكر عدم منطقية بعض مشاهده وحواراته، ولعل أكثرها فجاجة هو تحول المتزمت إلى صف زوزو في النهاية، كأنه يمكن للأمور أن تسير ببساطة تاج الفتاة المثالية على رأس زوزو ألماظية، لينجح جيل جديد في تخطي عقد اجتماعية وسياسية وطبقية دون صراعات حقيقية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 21 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...