إذا ما شاهدت المقطع الدعائي لفيلم "قائمة الطعام The Menu"، ستظنه مجرد فيلم رعب أمريكي آخر، عن شيف مجنون يحتجز زبائنه في جزيرة، ويحول ليلة كان من المفترض أن تكون مبهجة إلى حفلة موت، لكن يكشف الفيلم بعد مشاهدته عن مستويات عدة من القراءة، عن الرأسمالية في مواجهة الطبقة العاملة وهوس المطاعم الفاخرة، السخرية من الثراء المفرط المقترن بالغباء والادعاء.
ولعل روح الدعابة القاتمة التي لا تعرف الرحمة في انتقامها العنيف من الطبقة الراقية، تذكرنا فوراً بالفيلم القادم من كوريا الجنوبية، The Parasite، الحائز على جائزتي السعفة الذهبية بمهرجان كان وجائزة أفضل فيلم بالأوسكار، فيلم يؤسس لانتقام نهائي يناسب بلوغ تلك الرأسمالية وحشية لم يعد من الممكن ردعها في الواقع، وأوضاعاً تزداد تدهوراً وتردياً بما لا يقاس.
رغم كل ما سبق، ورغم اشتباك الفيلم مع كل تلك الأفكار، يظل سؤال الفيلم الأساسي عن الفن، لذا كان حضور تلك الأفكار مهماً لتعميق السؤال حول دور الرأسمالية والادعاءات الطبقية في تفريغ الفن من معناه، وتحويله إلى مجموعة من التقاليع والسلوكيات التي لم تعد تدور حول الفن نفسه.
هذا فيلم عن الفنان الذي أضله عن معنى فنه النقاد والأثرياء والأشخاص اللذين لا يسعه إرضاؤهم
الطعام المقدم في القائمة، يُصنع بكل حرفية، وبأعلى درجة من الإتقان والزخرفة، لكن ما تكتشفه أنه لم يعد طعاماً، وفقد وظيفته الأساسية في الإشباع. يقدم الشيف الشهير/ الفنان للزبائن أطباق خبز خالية من الخبز، أطباق من السوائل تشبه الألوان الأساسية في باليتة ألوان رسام، فن خال من الفن، بل مجرد غباء مبهرج، قد يستقبله النقاد والمعجبون المهووسون بالتقدير، في سخرية لاذعة من بعض تيارات الفن المعاصر التي تدعي أنها تعتمد على "التلقي" في صنع المعنى والقيمة، فتأتي محاولات النقاد – المدعين في هذا الإطار- للتفسير ولي عنق الحقيقة الماثلة أمام أعينهم في طبق خبز خال من الخبز، لمجرد أن يشعروا بالذكاء والتفوق.
يلعب المعجبون إلى درجة الهوس كذلك، دوراً في إفساد الفن والفنان. وهي النقطة التي تبدو لي بالغة الجدة في الفيلم، فإذا كان من المعتاد الهجوم على الناقد الفني المدعي، ورأس المال المتحكم في العملية الفنية، فكان من المبتكر في رأيي أن يكون المعجب المهووس بالشيف، هو الشخصية التي تبدأ منها الحكاية، هو شرير الفيلم.
هذا فيلم عن الفنان الذي أضله عن معنى فنه النقاد والأثرياء والمعجبين المهووسين والأشخاص اللذين لا يسعه إرضاؤهم، وأيضاً ينتقد الفنان نفسه، لأنه استبدل الحب بالهوس المرضي بالكمال، ونسي أن فنه بالأساس، كشأن الطعام، يُطبخ من أجل إسعاد شخص آخر.
لكن هل هذا هو الحال في أمريكا فقط؟
في العالم العربي، نجد أمثال هذا المعجب المهووس إلى درجة المرض بكاتب ما، لدرجة أنه يتتبع أدق تفاصيله، ويبرر كل ما لا يبرر، ويحوله عبر هذا الهوس إلى موضة مفروضة
ينسحب السؤال على الفنون كلها في العالم، وواقعنا العربي ليس منه براء، بل هو في القلب، إذ يستنسخ الصدى والتقليعة، إذ يختلط عليه مفهوم التجريب بالموضة، والكلاسيكي بالمضمون فاقد حس المغامرة، في الحالتين تُنسى أهمية الأصالة الفنية، والأصالة هنا بمعنى الفن النابع شكلاً ومضموناً من روح الفنان نفسه، لا بمعنى الجدة والابتكار في كل مرة، ولكن بمعنى السعى لتقديم الفن متحرراً من ضغوط كل ما لا يمت للفن بصلة.
وإذا كان يمكن أن ينسحب الفيلم على الفنون كلها، بحيث بإمكان صانع السينما أن يرى فيه نفسه ومشاكل صناعة السينما، وكذلك الفنان التشكيلي أو النحات، فلأتحدث عما أعرفه: الأدب.
وفي العالم العربي، نجد أمثال هذا المعجب المهووس إلى درجة المرض بكاتب ما، لدرجة أنه يتتبع أدق تفاصيله، ويبرر كل ما لا يبرر، ويحوله عبر هذا الهوس إلى موضة مفروضة، ولعل جروبات القراءة المنتشرة تلك الأيام، إلا ما رحم ربي، تبرز تلك الظاهرة، التي تقع بين فرضتين يفسدان الأدب، متصلتين على تناقضهما ببعضهما البعض:
أن تكون سلطة المنجز الأدبي كلها تحت رحمة القارئ العادي، أو أن يتخير ذلك القارئ العادي كاتباً لا يهم إن كان جيداً أو لا، ثم يرفعه دون سواه إلى مرتبة لا تقبل النقد، بل وتعميم ما يقدمه من أدب بغض النظر عن قيمته، ليكون هو المثال الوحيد للأدب كما من المفترض أن يقدم.
هناك أيضاً خلطٌ مؤسف يربط بين التسلية والفن السيء، البعض يتشكك فيما هو مسلي بوصفه سمة للفن السيء، وهو ربط مؤسف، نقع فيه أحياناً ككتاب وقراء ونقاد، كأننا نشعر بالذنب عندما يبذل الكاتب كل جهده لتقديم فنه في إطار جذاب ومشوق. كذلك هناك خلط مؤسف بين التعقيد والجودة، من ناحيتين: الأولى يرفض بعض القراء أن يشكل الكتاب لهم أي تحدي فكري، كاللغة أو عمق الأفكار ليصفوه سريعا بالممل، وكذلك ينسحق البعض الآخر أمام التعقيد بوصفه ضمانة للعمق والشعور بالتفوق والذكاء، دون تمييز التعقيد الأصيل كشكل يتفق ويأتي من المضمون، أو مجرد ألعاب نارية في الهواء لا يحتاجها النص.
كل فن بالضرورة عليه أن يسلي ويمتع، لكن ربما يختلف مفهوم المتعة من شخص لآخر، ربما ليس المسلي فقط هو أن نفر أكبر عدد من صفحات الكتاب بسرعة، ربما تختلف أشكال المتعة والتسلية، ربما أحياناً التحديات أيضاً تكون مصدراً للمتعة، لكن في الأحوال كلها لا يمكن ربط التسلية والترفيه بالفن السيء، وإن كان المقال لا يتسع لطرح تلك الفكرة التي أثارها الفيلم لنهايتها، سأستدعي.
استدعي ما توصل إليه إيتالو كالفينو، في كتابه، العالم المكتوب والعالم غير المكتوب The written world and the unwritten world، الصادر مؤخراً وفيه مجموعة مقالات كتبها الراحل في حياته.
في مقاله عن مصير الرواية، يعود كالفينو إلى نظريات بريخت عن المسرح، تحديداً إلى ما يسميه "بديهية بريخت الرائعة، أن الغرض من المسرح هو أن يمتع، الذي لا ينفي أن يوجد في تاريخ المسرح كل الدوافع الدينية والجمالية والأخلاقية والاجتماعية، ولكن بشرط إمتاع الناس. إنه الشيء نفسه بالنسبة للتخييل الأدبي Fiction. وهذا غالباً ما يتم نسيانه."
ثمة إجابة يملكها الفيلم، لكن في ظني إجابة هدفها أن تطرح أسئلة وأفكار، كشأن الفن الجيد كما أفهمه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع