وسط كارثة كبرى تعيشها تركيا جرّاء الزلازل المتعاقبة التي تضرب البلاد منذ السادس من شباط/ فبراير الجاري، وأدت إلى مقتل أكثر من 40 ألف شخص، تفجّر جدال بين رئاسة الشؤون الدينية التركية (جهة رسمية)، والصحافي التركي المعارض فاتح ألطايلي، وصل إلى حد تقديم الشؤون الدينية شكوى جنائيةً بحقه.
هذا الجدل الذي يبدو في ظاهره يتعلّق بتبنّي الأطفال بين القوانين المدنية التي تسمح به والتحريم الديني الإسلامي، يحمل في طيّاته مسائل أعمق تتعلق بالمجتمع التركي وتوجهاته ومعتقداته من جهة، ودور رئاسة الشؤون الدينية من جهة ثانية، وصولاً إلى الاستقطاب السياسي الحاد بين المعارضة والحكومة من جهة ثالثة، خاصةً مع التوجهات الدينية المعلنة لحزب العدالة والتنمية والحضور اللافت لرئيس الشؤون الدينية علي إرباش، في الحياة العامة التركية.
دور معلن أم واجهة؟
صعد إرباش إلى منبر "مسجد آية صوفيا"، في إسطنبول، مرتدياً جبّةً سوداء وحاملاً سيفاً أثرياً في أول صلاة فطر تُقام منذ 87 عاماً وهو المكان الذي أثير حوله الكثير من الجدل مع قرار المحكمة التركية تحويله إلى مسجد بدلاً من متحف.
جدل تبنّي الأطفال بين القوانين المدنية والتحريم الديني، يحمل في طيّاته مسائل أعمق تتعلق بالمجتمع التركي
كان هذا الأمر في عام 2020. اتّبع حينها إرباش تقليداً عثمانياً يتعلق "بالفتح" الإسلامي للمدن وفق تصريحاته، ولم يكن لهذا الأمر أن يحصل من دون دعم مباشر من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في بلد كتركيا، عُرف بعلمانية متشددة وصلت إلى حد حرمان شريحة مجتمعية واسعة من حقوقها في البلاد.
يشي هذا الأمر بأدوار أكبر من مجرد الإفتاء وإدارة الأوقاف واللقاءات العامة مع مسؤولين إسلاميين ودينيين مماثلين لإرباش، خرّيج مدرسة "سكاريا" للأئمة والخطباء الثانوية وكلية الإلهيات (كلية الشريعة) في جامعة مرمرة، في عام 1984، والذي عمل كموظف ديني في مساجد وجوامع عدة قبل أن يحصل على الدكتوراه من الجامعة نفسها في عام 1993، إلى أن تم تعيينه رئيساً للشؤون الدينية في عام 2017.
بعد ثلاث سنوات من حادثة السيف والمنبر، وفي سياق يبدو مختلفاً تماماً مع افتتاح الشؤون الدينية أقساماً خاصةً للمتضررين من الزلزال، وفيه وجدت إرشادات حول تبنّي الأطفال اليتامى وإمكانية زواج الطفل المُتبنّى بأهله الجدد لاحقاً (باعتبار تحريم التبني في الإسلام)، وكذلك عدم إمكانية توريث الطفل المتبنّى، وسرعان ما ذهب فاتح ألتايلي، إلى نشر تغريدة عبر حسابه في تويتر هاجم فيها المؤسسة بشكل حاد، ما استدعى رداً من الشؤون الدينية جاء عبر تقديم الشكوى الجنائية.
يفتح هذا الجدل بين الطرفين الباب أمام الحديث بشكل أكبر عن الدور الذي يلعبه إرباش والمؤسسة الدينية الحكومية الرسمية في البلاد، علماً أنها جاءت بقرار من مؤسس تركيا مصطفى كمال أتاتورك، خاصةً أن الخطب التي يلقيها إرباش في المناسبات الدينية، بما في ذلك خطب صلاة الجمعة الأسبوعية، كثيراً ما تتطرق إلى الأمور السياسية والاقتصادية في البلاد سواء بشكل مباشر أم غير مباشر، وهو ما يشي بأنه يتحدث بشكل غير مباشر أيضاً، بلسان العدالة والتنمية ورئيس البلاد.
هذا الأمر يشير إليه الكاتب الصحافي المعارض مصطفى كمال أرديمول، في حديثه إلى رصيف22، بقوله: "في أثناء افتتاح آية صوفيا، حمل إرباش السيف وصعد إلى المنبر ليتحدث عن السلام في وقت يدرك هو نفسه فيه أن الأمر ليس كذلك".
وفي حين تتهم صحف المعارضة وأحزابها إرباش، بلعب أدوار أكبر من المطلوب منه كرئيس للشؤون الدينية، لا يرى الباحث الاجتماعي التركي ناصر الدين حمزة، الأمر من الزاوية نفسها طالما أنها تتعلق بشخص إرباش نفسه، مُرجعاً الأمر إلى أن المؤسسة ككل هي من تلعب هذا الدور.
ويقول لرصيف22: "رئاسة الشؤون الدينية تلعب دوراً أكبر من المفترض في المجتمع التركي اليوم، وأعتقد أن هذا الأمر يأتي للحفاظ على ضوابط أخلاقية في المجتمع التركي برغم أهمية فصل الدين عن الدولة"، موضحاً أن "التوجه الديني للعدالة والتنمية يلعب دوراً مباشراً أو غير مباشر في دعم رئاسة الشؤون الدينية، كذلك فإن علي إرباش يلعب دوراً في حياة المجتمع التركي لكنه ليس بالضخامة التي تصوّرها وسائل الإعلام".
"التبنّي" كقضية سياسية
يبدو أن الحديث عن التبنّي في تركيا أمر اجتماعي بحت، والصراع يرتبط بشكل الحكم وهوية الدولة اللذين حاول العدالة والتنمية تغييرهما عبر عقدين من الحكم، إلا أن الأمر يتجاوز المجتمع ليتحول إلى قضية سياسية بحتة في ظل استقطاب سياسي حاد بين الحكومة والمعارضة قبل ثلاثة أشهر من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة.
خلال افتتاح "مسجد آية صوفيا"، اتّبع إرباش تقليداً عثمانياً يتعلق "بالفتح" الإسلامي للمدن، ولم يكن لهذا الأمر أن يحصل من دون دعم مباشر من الرئيس التركي، في بلد كتركيا، عُرف بعلمانية متشددة
يجيز القانون التركي التبنّي ضمن شروط واضحة ومحددة حتى لو لم يكن الطفل تركياً، أهمها على الإطلاق أن يتجاوز فارق العمر بين المتبنّي والطفل 18 عاماً وأن يكون مقدّم الطلب سليماً ومعروفاً بسلوكيات جيدة غير مخلّة بالآداب العامة، وألا يكون مدمناً على الكحول والمخدرات، بالإضافة إلى أوراق ثبوتية أخرى، وأن تتجاوز سنّه الـ30 عاماً وموافقة أهل الطفل في حال وجودهما على قيد الحياة، والعناية بالطفل قبل عام كامل على إجراءات المعاملة، وموافقة الطفل إن كان قادراً على التمييز وجملة من الطلبات الأخرى.
كما يمكن للطفل الأجنبي في حال تبنّيه من قبل عائلة تركية الحصول على الجنسية، وسبق أن تبنّى العديد من العائلات التركية أطفالاً سوريين فقدوا أهلهم.
وبينما تسمح القوانين التركية بالتبنّي، يحرّم الدين الإسلامي هذا الأمر بشكل قاطع، وسبق للرئيس الأسبق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الراحل يوسف القرضاوي، أن أوضح في فتوى نُشرت عبر موقعه الرسمي، بحرمانية الأمر.
وكانت رئاسة الشؤون الدينية قد أجابت عن سؤال من أحد المواطنين حول إمكانية تبنّي الأطفال بعد الزلزال، بالقول إنه "برغم من أن ديننا الإسلامي يحث على رعاية الأيتام وحمايتهم، إلا أن التبنّي محرّم وله عواقب عدة"، وأضافت: "يمكن أن يُذكر أنه لا توجد عوائق زواج بين المتبنّى والمتبنّي، وبالمثل لا يجوز تسجيل الطفل المتبنّى في نسب العائلة".
وأثارت الفتوى جدلاً واسعاً من قبل ناشطين وأساتذة جامعات وكذلك نقابة المحامين الأتراك، ويأتي الاعتراض من قبل الناشطين لأن الفتوى "تمهد الطريق لتعرّض الأطفال لانتهاكات جنسية من قبل العائلات المتبنّية".
وقالت نقابة المحامين الأتراك: "نجد من المؤسف أن الإعلان جاء في ذكرى اعتماد القانون المدني التركي، ونرى أنه من واجبنا تذكير جميع المعنيين مرةً أخرى بالقوانين الحالية لجمهورية تركيا، وهي دولة ديمقراطية وعلمانية، ووفقاً للمادة 282 من القانون المدني التركي، يتم إثبات الأبوة من خلال التبنّي أي يتم تسجيل المتبنّى في عائلة المتبنّي".
وتابعت: "وفقاً للمادة 500 من القانون المدني التركي، يصبح المتبنّى وريثاً للمتبنّي، تماماً مثل أطفاله. بالإضافة إلى ذلك، يستمر ميراث الابن المتبنّى في عائلته، ولا يجوز أن يكون المتبنّي وأقاربه من ورثة المتبنّى".
وسرعان ما أصدرت رئاسة الشؤون الدينية بياناً أكدت فيه أن الفتوى أُخرجت من سياقها، موضحةً أن الإسلام لا يجد من الصواب أن يرى الطفل او اليتيم أحداً غير والديه بهذه المنزلة، الإسلام يأمر بالخير والتكافل الاجتماعي ويحتوي على أحكام مشجعة جداً لمساعدة الأيتام وهناك أيضاً آيات عديدة لحمايتهم وأذيتهم تُعدّ إثماً عظيماً".
وكانت رئاسة الشؤون الدينية قد حذفت الفتوى من موقعها الرسمي.
وبقدر ما يبدو أن الجدل الذي تفجّر هو جدل حول قضية اجتماعية، يبدو أن الأمر يتجاوزه ليذهب في اتجاه السياسة، ويرى الصحافي المختص بالشؤون التركية أويس عقاد، أن "حالة الاستقطاب الاجتماعي الحالي تدفع جميع الأطراف إلى البحث عن قضايا حساسة لمهاجمة الطرف الآخر، الفتوى الصادرة عن رئاسة الشؤون الدينية هي عبارة عن تساؤل وصل من مواطنين فأجابت عليه الوزارة عبر معرفاتها الرسمية".
عادت رئاسة الشؤون الدينية أن الفتوى لتُوضح أن الإسلام لا يجد من الصواب أن يرى الطفل أو اليتيم أحداً غير والديه بهذه المنزلة
ويضيف: "أخطأت رئاسة الشؤون الدينية عندما تجاوبت مع تساؤل أحد المواطنين في مثل هذا التوقيت، في ظل الاستقطاب الحالي الذي يتهم الجماعات الإسلامية بالتشجيع على زواج القاصرات"، في إشارة إلى قيام رئيس وقف بتزويج ابنته القاصر لأحد مريديه.
ويرى عقاد أنه وبالنظر إلى الجانب القانوني، "يؤكد تجمع نقابات المحامين الأتراك تعليقاً على الجدل الحاصل، أن زواج المتبنّى من المتبنّي أو أولاده ممنوع بحسب المادة رقم 129 من القانون المدني التركي".
الحكومة و"تيكا" والشؤون الدينية
شهد عام 1992، تأسيس الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا)، التي تتبع لوزارة الثقافة والسياحة التركية، وهي المسؤولة عن تنفيذ مشاريع إغاثية وتنموية داخل تركيا وخارجها، وتعمل اليوم في أكثر من 128 دولةً.
وتمثل "تيكا" القوة الناعمة لحكومة العدالة والتنمية التركية، خاصةً أن تأسيسها جاء في مرحلة ما بعد قائد آخر الانقلابات العسكرية في تركيا، كنعان إيفرين، وهي المرحلة التي شهدت تصاعد النفس الإسلامي في المجتمع، وقبل عشرة أعوام بالضبط من وصول العدالة والتنمية إلى حكم البلاد.
ويوضح الباحث في الشؤون التركية أحمد حسن، لرصيف22، العلاقة بين أضلاع المثلث، الحكومة وتيكا والشؤون الدينية، بقوله: "تمثّل تيكا حجر الأساس للمشروع السياسي للعدالة والتنمية، بالإضافة إلى الخلفية الإسلامية المستمدة من نجم الدين أربكان".
ويضيف: "وعليه، إرباش واجهة لهذا المشروع. بمعنى آخر، عندما تُعطى صلاحيات للشؤون الدينية بالحصول على تبرعات فإن هذه الأخيرة تذهب إلى تيكا التي تعمل في 128 دولةً، والشؤون الدينية لديها القدرة على جمع تبرعات لطبيعة المجتمع التركي، إلى جانب الهيئات الأخرى بالطبع".
وسبق لـ"تيكا" أن ترأسها رئيس جهاز الاستخبارات التركي الحالي، هاكان فيدان، لذا يبدو من المنطقي الربط ما بين دورها ورئاسة الشؤون الدينية التركية والدور الذي تلعبه هذه الأخيرة، علماً أن ميزانيتها السنوية مررها البرلمان التركي الذي يشكّل فيه تحالف الأمة (حزبا العدالة والتنمية والحركة القومية)، الكتلة الأكبر فيه.
من المؤسف أن الإعلان جاء في ذكرى اعتماد القانون المدني التركي، ونرى أنه من واجبنا تذكير جميع المعنيين مرةً أخرى بالقوانين الحالية للجمهورية، وهي دولة ديمقراطية وعلمانية
ويرى عقاد أن "بعض أطراف المجتمع تنظر إلى الأمر على أنه توغّل وأسلمة للمجتمع، لكن آخرين يرون أن هذا هو الدور الطبيعي لمثل هذه المؤسسة"، لكنه يشير أيضاً إلى أن "الدستور في تركيا علماني، لكن الحكومة الحالية إسلامية محاطة بجو علماني ترتبط به حساسية كبيرة بحسب ما لاحظنا في قضايا عديدة مثل حد بيع الكحول وحظر الموسيقى بعد منتصف الليل، والتضييق على مجتمع الميم-عين، لذا نرى أن المعارضة التركية تنتقد أدوار المؤسسة الدينية بشكل كبير".
ويضيف: "مع ذلك تناور الجماعات الإسلامية بشكل كبير للتواجد في الشارع. شاهدت خلال فترة وجودي في هاتاي حضوراً واسعاً لفرق تطوعية تتبع لرئاسة الشؤون الدينية وفرق جماعات إسلامية أخرى ساهمت بقوة، مثل هيئة الإغاثة الإنسانية İHH التي كانت تساعد في عمليات الإنقاذ، وجمعية البشير التي عملت على تقديم الخدمات اللوجستية واحتفلت بتوزيع كعك بداية شهر شعبان على المتطوعين وعناصر الشرطة والجيش في إحدى ساحات أنطاكيا المدمرة".
وتعدّ رئاسة الشؤون الدينية التركية أعلى سلطة دينية في البلاد، ولها ميزانية خاصة، وقنوات تلفزيونية تابعة لها موجهة إلى مختلف الشرائح العمرية بما فيها الأطفال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...