شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
سيرة

سيرة "الملك الخفي"... الحياة السرية لرجل الأعمال التونسي كمال لطيّف

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 13 فبراير 202306:26 م

لا يتوقف جهاز اللاسلكي المثبت داخل سيارة وزير الداخلية التونسية زين العابدين بن علي عن إرسال أصوات متداخلة. في ذلك الخريف الصاخب من عام 1987 كانت البلاد تقف على حافة الهاوية. أنصار الحركة الإسلامية في الشوارع ليلاً نهاراً، وأسراب قوات حفظ النظام تمشّط البلاد دون هوادة. كان الوزير يهم بالعودة إلى مقره في شارع الحبيب بورقيبة، وسط تونس، حين توقفت سيارة سعيدة ساسي، ابنة أخت الرئيس الحبيب بورقيبة أمام رصيف منزله. انحنى بن علي قليلاً إلى نافذة سيارتها، فيما اقتربت سعيدة إلى حافة النافذة هامسةً في أذنه، ثم أمرت سائقها بالانطلاق نحو قرطاج.

قاد بن علي سيارته بنفسه من شارع يوغرطة غرباً نحو ضاحية سكرة شرقاً. وفي فيلا منعزلة وسط كومة من الأشجار التقى رفاقه الأربعة: الضابط في المخابرات محمد شكري، والوزير السابق ومدير الحزب الحاكم هادي البكوش، وقائد جهاز الحرس الوطني الحبيب عمار، ورجل الأعمال كمال لطيّف. دخل بن علي يضرب كفاً بكف بعد أن أسرّت إليه سعيدة ساسي بأن بورقيبة قرر إقالته صباح 26 تشرين الأول/ أكتوبر، لأنه لم يستطع القضاء على الحركة الإسلامية.

خيّم الصمت على الجلسة. في الصالة، كان هادي البكوش واقفاً إلى جانب بن علي، فيما جلس زميله محمد شكري إلى جانب صديقه كمال لطيف على أريكة يهدّئان من روعه ويطلبان منه التروي. قال بن علي لأصحابه إنه "سيقدّم استقالته للرئيس قبل أن يقيله"، لكن لطيف وعمار رفضا ذلك. في تلك اللحظة، بدأت خطة انقلاب السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر تتوضح، وفي تلك اللحظة بدأت أسطورة كمال لطيّف، بوصفه أحد أباء هذا الانقلاب، تتشكلّ حتى وصلت من الضخامة قدراً غير مسبوق في تاريخ تونس المعاصر.

أُطلقت على الرجل ألقاب كثيرة: الملك الخفي، صانع الرؤساء، ورجل الظل. ألقاب ساهمت في توصيف الظاهرة، وساهمت في تضخيمها أيضاً. تحول لطيّف إلى بُعبع أو غول استعملته جميع الأنظمة السياسية كما استعملها تماماً. فقد اعتُقل في عهود مختلفة، بالتهمة نفسها: التآمر والانقلاب، ولكنه خرج من جميع التهم سالماً. آخر جولة في هذا السياق جرت وقائعها في 11 شباط/ فبراير 2023، عندما داهمت فرقة أمنية منزل كمال لطيّف واعتقلته بالتهم نفسها.

العلاقة الجدلية والغامضة بين الرجل والسلطة خلّفت دائماً أسئلة دون إجابات: ما مدى قوة لطيّف؟ هل لديه نفوذ بالحجم الذي تتحدث عنه الأنظمة السياسية التي ناصبته وناصبها العداء؟ أم أنه مجرد فقاعة فارغة تستعملها السلطة للتخويف وإضافة الطابع التآمري على أي نشاط معادٍ لها؟ والأهم، كيف وُلدت هذه الظاهرة وضمن أي مناخ؟

النظام ومحاسيبه

تفترض محاولة الإجابة على هذه الأسئلة، في ظل غياب رواية كمال لطيّف نفسه لأنه ممتنع عن الكلام طوعاً، العودة إلى جذور العلاقة بين النظام السياسي ومحاسيبه من رجال الأعمال والطبقة الغنية التي تشكلت مطلع سبعينيات القرن الماضي، في ما عُرف بـ"مرحلة الانفتاح".

في تلك المرحلة التاريخية الفاصلة، قرر نظام الرئيس بورقيبة التخلي عن نمط "رأسمالية الدولة"، والتوجه نحو فتح البلاد أمام الاستثمار الخارجي والمبادرة الخاصة، ولكنه كان انفتاحاً رأسمالياً تحت سيطرة نظام الحزب الواحد، وهو توجّه أفرز طبقة جديدة من البرجوازية المرتبطة بالدولة، تشكّلت من رجال أعمال ذوي علاقات بالدولة ومن موظفين سابقين في الدولة. كان والد كمال لطيف متعهد أعمال بناء وتشيد، وسرعان ما تحوّل إلى مقاول، وانتعشت أعماله خلال هذا العقد عبر علاقات محاسيبية مع مسؤولين في الدولة.

لكن التغير الأبرز الذي حصل في السبعينيات هو طبيعة العلاقة بين أصحاب المال وأصحاب السلطة. كانت الدولة هي المصدر الأول للمشاريع والنشاطات التي يعمل فيها ومن خلالها الأغنياء الجدد، وكانت العطاءات والصفقات والدعم تُمنح لهؤلاء وفقاً لاعتبارات قرابية وجهوية وسياسية، وبالتالي كان "صاحب المال" تابعاً لصاحب السلطة السياسية ويمكن أن يخسر نفوذه المالي وثروته بمجرد أي تغيرات تطال السلطة أو جزءاً منها. ومع نهاية السبعينيات، بدأ يتشكل حزام من "أصحاب الأعمال" حول السلطة، وفي تحالف مصلحي وثيق معها، دون أن يتدخل مباشرة في الشأن السياسي الذي كانت تهيمن عليه الدولة، في ظل وجود استعصاءات بسيطة وجيوب مقاومة إصلاحية وثورية معارضة حزبياً ونقابياً وإعلامياً.

خلال تلك الفترة، بدأ موظفو القطاع العام يشعرون بتدني مستواهم المادي قياساً بنظرائهم في القطاع الخاص في البنوك وفي وكالات الشركات الأجنبية. وهنا ظهرت الفوارق وظهرت الحاجة إلى ردمها من خلال لعبة المصالح بين "البرجوازية البيروقراطية"المتكوّنة من موظفي الدولة السامين، وبين "الأغنياء الجدد"، عبر العمولات، ضمن علاقة ريعية أفرزت نمط "رأسمالية المحاسيب"، وهي تحالف وثيق قائم على مصالح متبادلة بين نخب المال والأعمال والبيروقراطية الإدارية والنخب الحاكمة.

لاحقاً، تواصل سير البلاد نحو التوسع في تطبيق نموذج الاقتصاد المفتوح. ومع رحيل بورقيبة عن السلطة وقدوم بن علي لم تتغير طبيعة العلاقة بين "صاحب المال" و"صاحب السلطة" كثيراً، على الرغم من الأزمة الاقتصادية التي عاشتها البلاد بداية من العام 1980، وأزمة النظام السياسي العميقة. فقد ضاعفت الدولة من مَنح مزيد من الامتيازات للقطاع الخاص وخاصة الأراضي، في محاولة للخروج من الأزمة. وازداد نفوذ أصحاب المال، لكن علاقتهم بأصحاب القرار السياسي ما زالت دون تأثير. لكن ما حدث في كواليس الإعداد لانقلاب السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، والدور الذي لعبه كمال لطيف في إيصال بن علي إلى قصر قرطاج، كان نذيراً بأن أصحاب المال يزحفون إلى السلطة ولو من وراء ستار. تحوّلت العلاقة من تبعية إلى "ندية".

قبل ذلك، وفي كانون الثاني/ يناير 1984، ارتعدت فرائص البرجوازية الجديدة الصاعدة في تونس. خرجت جموع الفقراء وصغار الكسبة ومحدودي الدخل، وفي طليعتهم التلاميذ والطلبة، إلى الشوارع. كان قرار الحكومة برفع أسعار الخبز، المادة الغذائية الأكثر استهلاكاً على موائد الشعب، شعلة لهب في موقد جاهز للاشتعال. الانتفاضة التي بدأت من مدن الجنوب وقراه أواخر العام 1983 سرعان ما أغرقت البلاد في مستنقع من الفوضى لم يجد النظام غير الرصاص الحيّ ليواجهها، مخلّفاً كومة جديدة من القتلى، كما فعل في كانون الثاني/ يناير 1978، عندما حصدت بنادق الجيش الحركة النقابية حصداً مُريعاً.

في الثمانينيات، ظهرت النتائج الكارثية للتغيرات الاقتصادية الجذرية التي شهدتها البلاد، لجهة التحوّل من رأسمالية الدولة إلى اقتصاد السوق، بين الستينيات والسبعينيات، لتدفع بأزمة النظام السياسي إلى مزيد من التأزيم وتسرّع من نسق الانحدار، وترسم بطريقة غير مباشرة ملامح النظام الذي سيرثه. كانت جميع القوى، دولياً ومحلياً، تبحث عن صيغة لضمان استمرار النظام السياسي في تونس، وكان بورقيبة قد صار عاجزاً، ويبدو أن بن علي كان خيار الضرورة.

تحول رجل الأعمال التونسي كمال لطيّف إلى بُعبع أو غول استعملته جميع الأنظمة السياسية كما استعملها تماماً. فقد اعتُقل في عهود مختلفة، بالتهمة نفسها: التآمر والانقلاب، ولكنه خرج من جميع التهم سالماً

يؤكد كمال لطيف ذلك في مقابلة مع جريدة الحياة في السادس من أيار/ مايو 2011. يقول: "بعد أحداث انتفاضة الخبز الدامية أقنعتُ رئيس الوزراء آنذاك محمد مزالي باستدعاء بن علي الذي كان تولى منصب مدير عام الأمن الوطني في أعقاب الإضراب العام الذي شنّه الاتحاد العام التونسي للشغل، اتحاد العمال، في 1978. وافق مزالي فعدتُ إلى مكتبي وهاتفتُ بن علي الذي كان سفيراً في وارسو لأزفّ له القرار. كان الهاجس الأمني هو الذي يُؤرق التونسيين وبخاصة أوساط رجال الأعمال بعد أعمال النهب والحرق التي رافقت ثورة الخبز. وبدا أن بن علي العارف بالملف الأمني، باعتباره شغل منصب مدير المخابرات العسكرية بين 1958 و1974، هو الرجل المناسب لتولي تلك المسؤولية الدقيقة. ومنذ تلك اللحظة تسلّق الرجل سريعاً درجات السلّم من وزير مكلف بالأمن لدى وزير الداخلية إلى وزير داخلية، فرئيس وزراء في الثاني من تشرين الأول (أكتوبر) 1987 حتى تربّع على سدة الرئاسة بعد 35 يوماً فقط من تسلّمه رئاسة الوزراء".

خامس خمسة

في مكتب قائد الحرس الوطني الجنرال الحبيب عمار وُلدت فكرة انقلاب السابع من نوفمبر. بعد أن أنهى بن علي لقاءه بالرئيس بورقيبة الذي لم يطلب منه الاستقالة ولم يحدّثه عن أمر راشد الغنوشي ولا الحركة الإسلامية، عرج على قيادة الحرس في العوينة، وهناك بدأت تظهر الملامح الأولى للخطة الانقلابية. بدايةً من مساء الـ28 من تشرين الأول/ أكتوبر 1987 بدأت سلسلة من الاجتماعات تُعقد سراً في منزل في ضاحية سكرة بين الجنرال الحبيب عمار وزين العابدين بن علي، حضر بعضها الهادي البكوش ومحمد شكري وكمال لطيف.

يقول كمال لطيف في شهادته حول الحادثة: "اجتمعنا نحن الخمسة وناقشنا الوضع، فقلتُ إن المركب يترنح وعلينا إنقاذه، وأبدى عمار استعداده للمساهمة في إنجاح الحركة ميدانياً، أما البكوش فكان متردداً وحذراً. في اليوم التالي، قابل بن علي الرئيس، فكان اللقاء مُحبطاً لأنه انتقده بشدة وأهانه. هاتفني بعد اللقاء والتقينا على انفراد. شجعته على الحسم قبل فوات الأوان".

كانوا خمسةً يتربعون على قمة السلطة، يومذاك، السلطة المطلقة، مالاً ونفوذاً وسلاحاً. قمة ستضيق بالشركاء لاحقاً وينفرد بها جنرال تعلم باكراً إطلاق قذائف المدافع في مدرسة سان سير البونابرتية. مدرسة كان شعارها "يتعلمون لينتصروا".

يتحدث كمال لطيف أيضاً عن جهود بذلها مع بعض القوى الدولية والإقليمية لتثبيت صديقه بن علي في منصبه ربحاً للوقت وحتى يأتي اليوم الموعود. يقول: "كانت تربطني علاقات صداقة مع السفير الأميركي روبرت بلاترو، وصادف أن هناك وفداً زائراً من مجلس الشيوخ الأميركي كان يستعد للقاء بورقيبة الذي حزم أمره وقرر عزل بن علي، فطلبت من بلاترو إشعار بورقيبة خلال استقباله للوفد بأن الولايات المتحدة تدعم بن علي، وفعلاً أرجأ قرار العزل فكسبنا بعض الوقت للمضي في تنفيذ خطتنا. أما الطرف الثاني الذي وُضع في الصورة، فكان الرئيس الشاذلي بن جديد، إذ زار وزير الداخلية الجزائري الهادي الخضيري تونس في تلك الفترة، وكان بن علي صديقاً له منذ أن كانا يشغلان منصبي مديري الأمن الوطني. ورأى بن علي أن يُطلع نظيره على الخطة على أمل أن يكون الرئيس بن جديد في الصورة، واتفق معه على إشارة محددة خلال مكالمة هاتفية يُجريها معه بعد عودته إلى الجزائر، حتى يعرف موقف بن جديد، وكانت الإشارة إيجابية. كما التقيت الهادي مبروك، سفير تونس في باريس آنذاك، الذي كان يستعد للسفر إلى الجزائر في زيارة رسمية، وكان بورقيبة يأخذ بنصائحه. ولما عرضت عليه الأمر، طلب مقابلة الرئيس مُتعللاً بأنه يرغب في سماع توجيهاته قبل أن يزور الجزائر، وأسرّ له في ثنايا الحديث بأن البلد مُعرّض لتهديد أمني كبير وأن بن علي هو الرجل المناسب للمرحلة. بعد ذلك اللقاء تراجع بورقيبة عن مشروع إقالة بن علي".

في تمام الساعة الثانية والنصف صباحاً من يوم السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، رفع الجنرال الحبيب عمار، بعد أن فرغ من تطويق القصر الرئاسي وعزل بورقيبة في غرفته، اللاسلكي مخاطباً غرفة العمليات في وزارة الداخلية، كان زين العابدين بن علي، على الجهة الأخرى من الخط يحبس أنفاسه. قطع عمار الصمت قائلاً: "مبروك سيدي الرئيس". تنفس الرجلان الصعداء أخيراً. أما الخمسة الذين كانوا في الظلال فقد خرجوا إلى شمس السلطة أكثر قوةً ونفوذاً، وعلى رأسهم كمال لطيف.

الخدم والأسياد

ولد كمال لطيّف منتصف خمسينيات القرن الماضي. لم ينل حظاً وافراً من التعليم، لكنه يحذق اللغة الفرنسية جيداً، ويحذق أكثر صناعة العلاقات. لا يملك مالاً كثيراً. كان رجل أعمال متوسط، لكنه مغرم بالسياسة. هكذا يصفه صديق له. صنع أسطورته بنفسه من خلال إتقان لعبة "الخادم والسيد". ربطت بينه وبين بن علي صداقة بدأت في السبعينيات. جمعتهما جذور مناطقية واحدة بوصفهما ينتميان إلى مدينة حمام سوسة، رغم فارق السن الكبير بينهما.

بعناية شديدة، صنع لطيف أسطورته، من خلال إتقان فن الغياب ليزيد من وقاره ومكانته، وهو غموض صنع جواً من الترقب يتعلق به دائماً، فهو لا يجري مقابلات صحافية إلا نادراً. لا يرد على خصومه أبداً. لا يظهر في وسائل الإعلام. بارع في المحافظة على الصمت، وواعٍ بأن الفراغ الذي يخلّفه صمته يملأه الناس بالكلام عنه، وهنا تولد علاقة السحر بين الغائب والحاضرين. فهو شديد الوعي بأن كل دعاية هي دعاية جيدة وحتى وإنْ كانت ذات مضمون سلبي، فالشهرة من أي نوع تجلب السلطة. ولكنه في الوقت نفسه لا يعيش عزلةً. تربطه صداقات تترواح بين السطحية والعمق بأغلب السياسيين في البلاد، ومن جميع الأطياف. يحرص على بناء علاقات واسعة مع الصحافيين وضباط الأمن. يلعب دوره جيداً كخادم ويلعبه أكثر جودةٍ كسيد. يعتمد على احتياجات الآخرين لبناء طائفة من الأتباع. ويقدم خدمات لأتباعه دون أن ينفق شيئاً معتمداً على أحلام الآخرين لتحقيق أهدافه الخاصة.

كان موقف رجل الأعمال التونسي كمال لطيّف من زواج الرئيس زين العابدين بن علي بليلى الطرابلسي عنصراً محدداً في مستقبل علاقة الرجلين. لكن الصراع الذي اندلع بينه وبين وزير الداخلية عبد الله القلال كان أحد أهم الأسباب في فتور العلاقة بين الرئيس ورفيقه التاريخي

كان مدركاً منذ البداية أن الصحافة والأمن هما ما يدور حولهما النظام السياسي في البلاد. لذلك، كان حريصاً على ربط علاقات عميقة وتبادلية مع الضباط والصحافيين. يخدم هذا من خلال ذلك، دون أن يقدّم شيئاً من عنده أو يجهد نفسه. كان مكتبه في شارع بيروت، وسط تونس، محجاً للساسة وأهل الصحافة وضباط الأمن. وكان مدركاً بعمق أكبر مركزية وزارة الداخلية في قلب الدولة الأمنية التي أسسها بورقيبة ووطّد بن علي دعائمها. كان دائماً مهتماً بإيجاد موطئ قدم له داخل الوزارة. كان يدرك جيداً أن مَن يدخل من البناية الرمادية سيمسك جزءاً من سلطة البلد، حتى وإنْ كان خارج المناصب الرسمية. بدأت علاقته بالرئيس السابق زين العابدين بن علي، عندما كان الأخير، مديراً للأمن الوطني، ثم كان وسيطاً في وصوله إلى وزارة الداخلية في أعقاب ثورة الخبز في العام 1984، ليكون كاتب دولة للأمن ثم وزيراً للداخلية بداية من العام 1986. وفي الوقت نفسه، كان مدركاً لقوة العامل الخارجي، فربطته علاقات متينة بالسفارة الأمريكية، ساهمت بشكل كبير في تضخيم أسطورته.

لم يمضِ وقت طويل حتى بدأت علاقة بن علي بلطيف تتدهور. كان موقف لطيف من زواج بن علي بليلى الطرابلسي عنصراً محدداً في مستقبل علاقة الرجلين. لكن الصراع الذي اندلع بين وزير الداخلية عبد الله القلال وكمال لطيف كان أحد أهم الأسباب في فتور العلاقة بين الرئيس ورفيقه التاريخي. كان القلال وزيراً قوياً، ونجح في الحرب التي أعلنها النظام ضد الحركة الإسلامية، لكنه كان يتوجس خيفة من العناصر الموالية لكمال لطيف داخل وزارة الداخلية، فقد نجح الرجل خلال ثلاث سنوات من نفوذه الواسع (1987-1992)، من تثبيت العديد من الرجال الأقوياء والأوفياء داخل الوزارة، وفي قلب الأجهزة الأمنية التي تملك العديد من المعلومات والملفات الثرية للوزراء والمسؤولين في السلطة والمعارضة. لكن عبد الله القلال كان أكثر براعة من كمال لطيف في لعب دور الخادم، وكان الأخير قد تضخمت أسطورته حتى أصبح صديقه يخشاه.

تؤكد ذلك شهادة الوزير الأول السابق الهادي البكوش، خامس الخمسة، أمام القضاء عام 2013. يقول فيها: "اكتسب كمال لطيف نفوذاً كبيراً لدى الرئيس السابق، وأصبح مكتبه في شارع بيروت في العاصمة قبلة لعدد كبير من السياسيين الذين يرغبون في تقلد المناصب السياسية، وكذلك الشأن بالنسبة للإعلاميين. تمكن تبعاً لذلك من إنشاء شبكة علاقات قوية لدى أجهزة الدولة المختلفة لا سيما منها الأمنية، حيث أصبح له نفوذ على العديد من الإطارات السياسية الذين أصبحوا يدينون له بالولاء ويعملون على ترضيته بتحقيق مطالبه خوفاً على مناصبهم لاعتقادهم الراسخ بأنه مثلما كان قادراً على تسميتهم بتلك المناصب، فإنه يمكنه تنحيتهم عنها بمختلف الوسائل حيث كان بارعاً في تلفيق الأكاذيب والإشاعات والكيد لخصومه، مستغلاً تأثيره القوي على الرئيس. إلا أن هذا الأخير بدأ يشعر بتنامي نفوذ كمال لطيف، إلى درجة أنه أصبح يخشاه، فقرر تحجيم دوره ثم القطيعة معه، ولم يكن لمسألة زواجه بليلى الطرابلسي، الدور الرئيسي في قطع تلك العلاقة، وإنْ كان من بعض الأسباب الثانوية".

كان الصراع على أشده بين أجنحة السلطة في ذلك الوقت ولم يكن في جوهره بعيداً عن "الجهوية والمناطقية" التي طبعت الحياة السياسية في تونس المعاصرة. قد نجحت ليلى الطرابلسي بالتحالف مع عدد الوزراء من بينهم عبد الله القلال والشاذلي النفاتي وعبد الرحيم الزواري في إضعاف نفوذ كمال لطيف وتأثيره على الرئيس، ثم القضاء على هذا التأثير نهائياً. كان الصراع على النفوذ قاسياً وقذراً. تشوّق زوجة الرئيس وأخيها الأكبر لمزيد من النفوذ أدى إلى تحجيم لطيف، وتالياً إلى تجفيف منابع تأثيره في وزارة الداخلية، حتى وصل الأمر إلى إحراق مكاتبه في العام 1996 ثم قُبض عليه واستُجوب لمدة 24 ساعة في العام 1999، بعد استضافته عشاءً مع السفير الأمريكي، ثم وصلت الأمور إلى الاعتقال والمحاكمة في بداية العام 2002، بعد نشر مقابلة له مع صحيفة "لوموند" الفرنسية في تشرين الأول/ أكتوبر 2001، انتقد فيها السلطة. وخلال هذه الفترة الطويلة من العزلة، نسج لطيف علاقات جيدة مع كل وزراء بن علي وبورقيبة، الذين تخلى عنهم النظام، ومن بينهم الباجي قائد السبسي.

عرف رجل الأعمال التونسي كمال لطيّف كيف يلعب دوره جيداً كخادم وكيف يلعبه أكثر جودةٍ كسيد: يعتمد على احتياجات الآخرين لبناء طائفة من الأتباع، ويقدّم خدمات لأتباعه دون أن ينفق شيئاً، معتمداً على أحلام الآخرين لتحقيق أهدافه الخاصة

خلال عقد ونصف من غياب كمال لطيف عن ساحة التأثير، نشأت قوى جديدة داخل وزارة الداخلية، وقوى جديدة في مجال النفوذ السياسي والاقتصادي: عائلات قريبة من الرئيس وزوجته وعائلات اقتصادية قريبة من أوساط أصهار الرئيس. ونشأت طبقة جديدة من رجال الأعمال في الأطراف، راكمت ثروتها من التبادل النظامي وغير النظامي على الحدود، خاصة خلال فترة الحصار الذي كان مفروضاً على ليبيا وخلال الحرب الأهلية الجزائرية. وهذه الطبقة نمت وترعرعت في كنف "نظام القرابة" الذي كان قائماً على تحقيق المصالح الربحية بعيداً عن السياسة. فلم يكن أصهار الرئيس وإخوته أو رجال الأعمال القريبون منهم يسعون للتأثير أو ربط علاقات مع قيادات أمنية إلا بما يخدم مصالحهم الاقتصادية، أو لمعاقبة منافسيهم الذين يرفضون الانضواء تحت نظام الإتَاوَةَ. ومع مرور الوقت، بدأ يتشكل ما يُسمّى بـ"احتكار القلّة" الذي لعبت بموجبه عائلة الرئيس وعائلة زوجته دوراً في توجيه النشاط الاقتصادي الصناعي والخدمي وأصبحت العائلتان باباً يجب أن يجتازه كل مَن يريد دخول عالم الأعمال.

بعد العام 1987 وتحسن العلاقات مع الجارتين ليبيا والجزائر، ولاحقاً توقيع اتفاق اتحاد المغرب العربي في العام 1989، شهد النشاط التبادلي على طرفي الحدود التونسية توسعاً كبيراً وأصبحت الدولة تغضّ الطرف عن النشاط التجاري غير الرسمي، ونشأت طبقة جديدة من البرجوازية الطفيلية التي راكمت ثروة طائلة من التهريب والتجارة غير الرسمية، لكنها كانت تركز على التبادل السلعي والنشاطات الطفيلية. ومع بداية القرن، أصبحت هذه الطبقة تحاول البحث عن نفوذ في السلطة أو علاقة قرب مع أطراف فاعلة داخلها، ووجدت ضالتها في تحالفها مع "دائرة القرابة".

برحيل بن علي، سقط نظام "احتكار القلّة" سياسياً، لكن على العكس فإن حلفاءه في برجوازية الأطراف ازدادوا نفوذاً، لأن نشاط هذه الطبقة يتعارض طرداً مع قوة الدولة، فكلما ضعفت الدولة زادت قوتها، بل أصبحت هذه الطبقة أمام سوق تهريب ونشاط غير رسمي أكثر اتساعاً، خاصة بعد سقوط الدولة في ليبيا.

فَقَدَ النظام سلطته على الأحزاب والصحافة والإعلام والمجتمع المدني وحتى على أجزاء من أجهزة الدولة. مراكز القوى في البلاد اختلت بشكل كبير لمصلحة أصحاب المال على حساب أصحاب السلطة السياسية، وفقاً لأحكام "لعبة ديمقراطية". لم تكن طبقة أصحاب الأعمال كُلاً واحداً ذا أهداف واحدة. فريق منها كان يبحث عن حماية من حملات الثأر الثورية وفريق آخر كان يريد موطئ قدم في السلطة السياسية للحفاظ على الثروة وتنميتها. ورثت هذه الطبقة غير المتجانسة نفوذ النظام ودعمت أحزاباً وشكلت منظمات وجمعيات ووسائل إعلام وصحافة واستغلّت حاجة النشطاء في الشأن العام للمال كي تثبّت وجودها وسلطتها في الدولة والمجتمع والأخطر أنها امتلكت موطئ قدم في الدولة في الدوائر الحساسة والعادية على حد السواء.

وكان هناك أيضاً فريق آخر كان يريد أن يثأر من "القلة الاحتكارية" التي كانت بالأمس في دائرة القرابة تسيّر كل شيء، ما منعه من أن يكون له موقع تحت شمس السلطة، وكان لطيف زعيماً لهذا الفريق.

في 14 كانون الثاني/ يناير 2011 انتهى كل شيء. ما كان مجمعاً في يد بن علي أصبح مفرقاً في أيدي قوى متعددة، نخب مالية وسياسية وأمنية وعسكرية وإدارية. بدا لكمال لطيف حينذاك أن لحظة الثأر حانت. دعم الرجل بقوة وصول الباجي قائد السبسي إلى رئاسة الحكومة، وكان مرتاحاً لقرار إقالة العشرات من القيادات الأمنية داخل وزارة الداخلية في آذار/ مارس 2011 وأكثر ارتياحاً للاعتقالات التي طالت خصومه السابقين، عبد الرحيم الزواري ومحمد علي القنزوعي، وخاصة عبد الله القلال الذي فسرت ابنته سبب اعتقاله بعد الثورة بالقول: "هناك أشخاص أرادوا الانتقام منه وبالأخص، كمال اللطيف، فقد كانت لديه مشكلة مع والدي لأنه لم يرضخ له ولم يذهب في طابور الوزراء الذين وقفوا على بابه. والسبسي اعترف في أحد تصريحاته أن كمال لطيف صديقه. هناك لعبة حاكها كمال اللطيف وأدرج والدي ضمنها بغاية الانتقام ولم يكتفِ بذلك بل قام بشن حملة شرسة في وسائل الإعلام الأجنبية وكان هدفها الوحيد تشويه صورة القلال، وتأليب الرأي العام عليه ونجح في ذلك".

انبعاث الأسطورة

شكلت سنوات الثورة الأولى مناخاً مناسباً لانبعاث أسطورة كمال لطيّف من رماد النسيان. منذ الشهور الأولى، تحوّل الرجل إلى اليد الخفية التي تدير البلاد، في عيون البعض، لا سيما من الإسلاميين. في أيلول/ سبتمبر 2013، وقف وزير الداخلية التونسي، لطفي بن جدو، أمام مجلس النواب، مُقراً بوجود أمن موازٍ داخل وزارته، متهما أشخاصاً يعملون في الوزارة بأنهم يدينون بولاء لجهات حزبية، ومتهماً الأحزاب السياسية في البلاد بالسعي لإيجاد موطئ قدم لها في أجهزة وزارة الداخلية، وقال إن بعض القيادات داخل وزارته تدين بالولاء لعائلات مرتبطة بالنظام السابق: "هناك أشخاص داخل الوزارة يدينون بالولاء لهذا أو لذاك، ونحن كلما اكتشفنا وجود أحدهم أبعدناه". كان بن جدو يغمز من جهة مدير عام الأمن العمومي توفيق الديماسي الذي أقيل قبل ذلك بأيام قليلة. واستقر في يقين حركة النهضة الحاكمة حينذاك أن "الديماسي أحد الرجال الأقوياء لكمال لطيف في الوزارة".

كانت حركة النهضة التي أنشأت لها فريقاً أمنياً يدين لها بالولاء داخل الوزارة تعتقد بوجود جيوب مقاومة لها داخل الوزارة، مفرَّقة الولاء بين قوى سياسية، لكنها كانت على يقين بوجود جناح أمني قوي يدين بالولاء لكمال لطيف وحركة نداء تونس الصاعدة. وتعزز ذلك عندما نشرت صحيفة المغرب اليومية التونسية، يوم 14 أيلول/ سبتمبر 2013، نص وثيقة نسبتها إلى وزارة الداخلية، وقالت إن الأخيرة عممتها على فروعها الأمنية. وتتضمن الوثيقة تحذيراً من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بإمكانية استهداف المعارض التونسي محمد البراهمي، وهي صادرة بتاريخ 15 تموز/ يوليو، أي قبل عشرة أيام فقط من اغتيال الأخير رمياً بالرصاص أمام بيته. وقعت حكومة النهضة في حرج كبير وأضافت دليلاً آخر لخصومها الذين يتهمونها بتدبير الاغتيالات السياسية. لكن الحرج الأكبر وقع لها عندما أدركت أن جهة ما داخل الوزارة سرّبت الوثيقة الأمريكية عمداً في ذلك الوقت بالذات.

في المقابل، كانت حركة النهضة تحمل ذكرى غير حسنة عن كمال لطيف، مستقراً في يقينها أن الرجل كان مهندس الحرب التي شنها بن علي عليها بداية تسعينيات القرن الماضي، وأكدت ذلك لها مجموعة من التسجيلات الصوتية التي سربت بعد سقوط بن علي، يتحدث فيها لطيف عن دعمه غير المشروط لبن علي خلال حربه مع الحركة الإسلامية وكيف كان يجند الصحافيين والفاعلين في الشأن العام لعزل الحركة والقضاء عليها، ومواجهة الدعاية المضادة التي تروجها ضد النظام. مع أن لطيف دائماً ما كان يتهم خصمه عبد الله القلال بأنه يتحمل المسؤولية عما جرى منذ بداية التسعينيات وحتى العام 1995 في وزارة الداخلية والحملات القمعية التي جرت ضد المعارضة وضد الإسلاميين، عزز التوجس الإسلامي من لطيف ما كشفه وزير الداخلية فرحات الراجحي في التسجيل المسرب.

لم تكن النهضة وحدها تتوجس من لطيف، فرجال الأعمال الذين كانوا في تحالف مع العائلات الحاكمة قبل الثورة شعروا بالخطر. كان شفيق جراية أحد هؤلاء، وقد واجه مشاكل قضائية منذ البداية، لكنه توجه رأساً لمواجهة لطيف، لأنه يعتقد أن الرجل يقف خلف كل المتاعب التي تعاني منها هذه الطبقة من رجال الأعمال. كما سعى جراية إلى كسب ولاء عدد من الضباط داخل وزارة الداخلية وفي مختلف مؤسسات الدولة، وحاول أن يجاري براعة لطيف في توجيه الرأي العام لصالحه من خلال نسج شبكة من الصحافيين والإعلاميين والناشطين على شبكات التواصل الاجتماعي. كان سخياً ويدفع أموالاً أكثر من خصمه لطيف.

في هذا السياق، أثيرت قضية بـ"الاعتداء على أمن الدولة" ضد كمال لطيف في حزيران/ يونيو 2011، والطريف أن مَن أثارها هو محامٍ كان سابقاً موظفاً في وزارة الداخلية، لكن القضية لم تأخذ صدى كبيراً خلال حكومة الباجي قائد السبسي، ثم عادت إلى الواجهة بعد وصول حركة النهضة إلى السلطة. واللافت أن موقع "نواة" قد نشر في ذلك الوقت تحقيقاً إحصائياً لسجل مكالمات كمال لطيف خلال عام 2011 والنصف الأول من 2012، كشفت فيها عن تواصل يومي ومهم بين لطيف و14 ضابطاً من قيادات عليا في وزارة الداخلية بينهم مدير الأمن العمومي توفيق الديماسي ونبيل عبيد الذي قال إن "كمال لطيف يتصل به بصفة منتظمة دون أن تكون بينهما علاقة صداقة".

وكان يقين النهضة ثابتاً بأن كمال لطيف يقف وراء حركة نداء تونس التي نشأت في منتصف العام 2012، ومنذ تشكلها بقيادة الباجي قائد السبسي، تحولت إلى قاطرة المعارضة في البلاد، وخطراً يهدد حكومة الترويكا. والحقيقة أن لطيف لم يكن بعيداً عن نداء تونس، وإنْ لم يكن عضواً فيها. فقد كان دائماً بعيداً عن التحزب المباشر والظهور على مسرح الأحداث، لكنه كان بارعاً في التحرك خلف الستار. كان لطيف داعماً للباجي قائد السبسي، بلا شروط.، وسخّر كل علاقاته الداخلية والخارجية وشبكة مَن يدينون له بالولاء لدعم الحركة الوليدة في مواجهة حكومة الترويكا، وإحراجها في الحكم، حتى بلغ التوتر مداه.

في أعقاب الهجوم الذي نفّذته مجموعات سلفية جهادية ضد السفارة الأمريكية في أيلول/ سبتمبر 2012، اجتمع رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي برئيس الحكومة حمادي الجبالي، ووزير الداخلية علي العريض وعدد من القيادات البارزة المتخصصة في الشأن الأمني، بينهم رضا الباروني وسيّد الفرجاني، لتقييم الموقف. كان رأي الغنوشي أن خرقاً أمنياً في وزارة الداخلية يجب أن يرتق، وأن كمال لطيف ما زال يملك جناحاً قوياً في الوزارة. لم يكن رأي الغنوشي بعيداً عن الواقع. كانت للطيف عيون وآذان وأيدي طويلة في وزارة الداخلية وفي الكثير من شبكات ومصالح الدولة. استقر لدى قيادة الحركة بأن القيادات الأمنية المحسوبة على الرجل ورطت حكومة الترويكا في كارثة السفارة لإسقاطها، واستشعرت أنها لو تركت الأمر يمر دون حساب فإن "المؤامرة" القادمة ستأتي برأسها. لذلك قررت أن "تقطع الرأس كي تجف العروق".

تواصلت الاجتماعات بشكل يومي داخل حركة النهضة بشأن الملف ذاته، وكان السؤال كيف يمكن تقليم أظافر لطيف. كان الغنوشي يطالب فريقه بوقف هذا الخرق بأسرع وقت وباعتماد مسالك ذات غطاء قانوني، لا تحرج الحركة وتحقق المطلوب. اشتغل الجهاز الخاص للحركة بشكل دؤوب على الملف، وظهر مسؤول الجهاز مصطفى خضر في تسجيل صوتي ضمن ملف قضية اغتيال محمد البراهمي، لاحقاً، يتحدث مع ضابط في الأمن وأحد عناصر الجهاز الخاص، حول القضية التي أثيرت في العام 2011 واتهم فيها كمال لطيف بالتآمر على أمن الدولة.

لكن الحل جاء من وزير العدل نور الدين البحيري، على الرغم من علاقته الكبيرة بلطيف في السابق، من خلال العودة إلى قضية العام 2011، بعد أن مكثت قضية التآمر في أدراج قاضي التحقيق منذ تموز/ يوليو 2011، في عهد حكومة الباجي قائد السبسي، صديق لطيف. فجأة وبعد أيام قليلة من أحداث السفارة الأمريكية، قام قاضي التحقيق المكلف بالملف، في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2012، بإصدار قرار في اطّلاع وكيل الجمهورية على أوراق التحقيق. وبعد يومين فقط من ذلك، أقال رئيس الحكومة حمادي الجبالي مدير عام الأمن الوطني محمد نبيل عبيد، أحد المحسوبين على كمال لطيف داخل الوزارة، اعتماداً على معلومات رفعتها حركة النهضة بأن عبيد أغلق هاتفه خلال الهجوم على السفارة.

وأضيف إلى ملف التحقيق في قضية التآمر "أنّ كلّاً من نبيل عبيد المدير العامّ للأمن الوطني حينها وتوفيق الديماسي المدير العام السابق للأمن العمومي والمدير العام للمصالح المشتركة، حينها، قد أغلقا هواتفهما الجوّالة أثناء أحداث السفارة الأمريكية"، بحسب الملف القضائي. ثم تتالت الأحداث. فالقضية التي مكثت في الأرشيف أكثر من سنة ونصف أخذت منعرجاً خطيراً في ظرف أيام قليلة، بعد أن وُجّهت للطيف تهمة التآمر لارتكاب اعتداء ضد أمن الدولة الداخلي، ثم صدر قرار بمنعه من السفر.

الصفقة

صيف العام 2013، وفي أحد الأجنحة الفاخرة في فندق البريستول في الدائرة الباريسية الثامنة، اجتمع رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي مع رئيس حركة نداء تونس الباجي قائد السبسي، أي ممثل الطبقة المهيمنة الجديدة بممثل الطبقة المهيمنة التقليدية، لإيجاد تسوية تاريخية لتقاسم السلطة والنفوذ وإنقاذ النظام من السقوط نهائياً. وإذ يبدو هذا التحليل للوهلة الأولى مبالغاً فيه، إلا أن معرفة رعاة اللقاء التاريخي كفيلة بنزع أي دهشة أو شعور بالمبالغة، فقد أشرف على اللقاء، وساطةً وتنظيماً، كل من سليم الرياحي، أحد رموز البرجوازية الجديدة التي راكمت ثروتها خارج المسارات الاقتصادية الرسمية المحلية، ونبيل القروي، أحد رموز البرجوازية التي وُلدت وانتعشت في ظل نظام بن علي خلال تسعينيات القرن الماضي، مستفيدةً من فتح الاقتصاد المحلي على الرأسمال الأوروبي منذ عام 1995. خلال هذا اللقاء، وضع العجوزان الخطوط العريضة لنظام التوافقية الذي حكم البلاد بين عامي 2014 و2019، وأودى بها إلى ما تعيشه اليوم.

شكّلت صفقة البريستول لحظة وقف إطلاق النار بين كمال لطيّف وخصومه الإسلاميين. لخص ذلك رجل الأعمال، وأحد أعداء لطيف، شفيق جراية بالقول: "اتفقت مع كمال لطيف بأن يمسك عنّي كلابه، وأمسكت عنه كلابي". كانت صورة الكلاب كناية عن الخدم الذين يدورون في فلك الرجلين من ضباط أمن وصحافيين وإعلاميين ومواقع إلكترونية وصحف وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي. لكن هذه الصفقة فقدت مفعولها اليوم بموت أحد أطرافها، الباجي قائد السبسي، وخروج طرفها الثاني، راشد الغنوشي، من السلطة.

هذه الحياة الصاخبة في الظلال دائماً ما كانت لغزاً. لماذا يفعل كمال لطيّف كل هذا، مع أنه لم يرغب يوماً في الوصول إلى السلطة بشكلها الظاهر؟ سؤال معلق، لا يمكن أن يجب عنه إلا لطيف نفسه. تبدو علاقة الرجل بالسلطة كعلاقتنا باللعب. نتعلق بلعبة، ندمنها ونسرف وقتاً وجهداً في إتقانها وكسبها، ثم نقوم عنها دون أي حصيلة في اليد، باستثناء المُتعة.

هل كان المال ما يسعى إليه؟ لا يبدو ذلك، فقد كان من خلال موقعه قادراً على مراكمة ثروة طائلة أكثر من أي رجال أعمال آخر في البلاد. هو سحر السلطة قطعاً. تلك المتعة التي يجدها المرء عندما يكون ممسكاً بخيوط ما يجري دون أن يدركه أحد، وهو يدرك الجميع، كمتعة محرك الدمى. وهي في أحد وجوه تفسيرها نزوع إنساني نحو الألوهية. وحده الإله مَن يدير شؤون الخلق والكون دون أن ندركه، لذلك نردم فجوة غيابه عن إدراكنا بالتقديس.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image