شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
ذاكرة بلون البنفسج... قصة التوظيف السياسي للألوان في تونس المعاصرة

ذاكرة بلون البنفسج... قصة التوظيف السياسي للألوان في تونس المعاصرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

في فيلمه "ذاكرة باللون الخاكي"، يستند المخرج السوري الفوز طنجور إلى اللون الخاكي لوصف سنوات حكم الأسد، الأب ثم الابن. اختلطت قصة المخرج الشخصية بقصة شخصيات سورية أخرى أجبرت، بسبب آرائها السياسية، على مغادرة البلاد قبل الثورة أو بعدها.

يستخدم المخرج اللون الخاكي الذي يرمز إلى لون الغبار في أصله الأردي، كصلة وصل بين ذكريات متعددة لأجيال مختلفة من السوريين، لكأنه يريد القول إن هذا الخاكي الذي كان لسنوات يكلل ملابس طلبة المدارس والعسكر وأعوان أجهزة النظام العقابية والرقابية هو ذاته لون الشتات السوري العظيم بوصفه لوناً للغبار.

لكن القصة لا تقف عند سوريا. لكل منّا، في أغلب الدول العربية التي عاشت أو ما زالت تعيش تحت نظام سلطوي، قصة مع ذاكرة مكللة بلون مميز يتخذه النظام ضمن حزمة واسعة من رموزٍ تميّزه ويحتكرها ضمن ترسانة أدواته الإيديولوجية، لفرض حالة من التجانس القهري في المجتمع، تشكّل جزءاً من حالة الشمولية الأوسع التي تريد فرض لون واحد ورأي واحد ونظام واحد ضد كل تعدد ممكن، تحت شعارات "الوحدة الوطنية".

في تونس، كانت لدينا قصة مع الألوان الموظفة سياسياً من أحمر الحزب البورقيبي الواحد إلى بنفسج حقبة زين العابدين بن علي الأمنية وصولاً إلى اتساع أفق الألوان بعد الثورة.

وإذا ألقينا نظرة عامة على الاستخدام السياسي للألوان، يمكننا أن نرى بوضوح اليوم أن أي مجتمع بشري يريد أن يميز نفسه في أعين العالم - سواء كان بلداً أو حزباً أو حتى شركة أو فريق كرة قدم - سيفعل ذلك بالضرورة من خلال اللون.

وعليه، يمكن القول إن اللون هو أفضل دلالة للإشارة إلى انتماء المرء إلى مجموعة، من حيث قوته البصرية التي تفوق أي شعار أو خطاب. وفي هذا السياق يشير المؤرخ الفرنسي المتخصص في الرمزية والتاريخ الثقافي للألوان والشعارات ميشيل باستوريو، في مؤلفه "أوروبا: الذاكرة والشعارات"، إلى أن "العالم اليوم أصبح كله يوظف الألوان كرموز، بيد أن هذا التوظيف كان في منابعه خصوصية أوروبية، أو غربية على الأقل، تم فرضها على بقية العالم".

يشرح باستوريو أنه "خارج العالم الغربي، كانت هناك ممارسات أخرى، وأنظمة أخرى للشعارات مبنية على رموز لا تتعلق بالألوان ولكن بالإشارات الجسدية أو الإيماءات الخاصة. فقد شكلت القرون الوسطى الأوروبية نقطة البداية، ومختبراً أولياً لرمزية الألوان، على خلاف العصور القديمة حيث كانت مصطلحات الألوان، لدى الإغريق والرومان وبقية الشعوب القديمة، دائماً صفات وليست جوهرية. كأن يقول الفرد الروماني ‘أحب الزهور الحمراء، أو أكره الملابس الزرقاء’، لكنه لن يكون قادراً على قول ‘أحب الأحمر، أو أكره اللون الأزرق’: فهذا لم يكن ممكناً من الناحية المفاهيمية بالنسبة إليه".

ويذهب المؤرخ الفرنسي إلى أن الإنسان منذ اللحظة التي يوجد فيها داخل المجتمع، ينقسم إلى مجموعات. تختار هذه المجموعات علامات للتمييز والتعرف على بعضها البعض. يمكن أن تكون هذه العلامات متنوعة تماماً ولكن اللون يلعب دوره. في أوروبا، في وقت مبكر جداً، كان اللون أسهل ما يمكن ترميزه. لكن هناك أجزاء من العالم تعمل فيها آليات الترميز بشكل مختلف تماماً، إذ تلعب الرموز الكتابية أو الرسم دوراً أكثر أهمية في ذلك التمييز.

لذلك، فإن مسألة التوظيف السياسي للألوان هي بضاعة غربية مستوردة، أو هي على نحو أدق من آثار الحداثة السياسية التي جاءت بلادنا العربية من طرق مختلفة، كان الاستعمار أبرزها. وجاء هذا التوظيف مع دخول آليات التنظيم المجتمعي الحديثة كالحزب والمجتمع المدني والدولة الحديثة عموماً، دون التبخيس من الاستعمال الشائع للألوان في زمن الحروب في المجال العربي والإسلامي لجهة تمييز رايات الجيوش، والتي أخذت مساراً أكثر تميزاً مع الدولة العباسية برايتها السوداء، وصولاً إلى الراية العثمانية، التي بقيت آثارها في بعض أعلام الدول العربية والإسلامية المعاصرة.

اللون الواحد وأطيافه

لم يكن هاجس الحركة الوطنية التونسية (الحزب الحر الدستوري) زمن تشكلها في عشرينيات القرن الماضي البحث عن لون يميزها، بوصفها مميزة وحدها دون لون، لأنها الحركة الوحيدة السياسية التي تعبّر عن تطلعات عموم السكان الأصليين للبلاد في مواجهة عملية سلب السيادة المديدة التي سلكتها الإدارة الاستعمارية الفرنسية، من مجرد فرض حماية (انتداب) في 1882 إلى احتلال استيطاني.

لكن الحركة الوطنية، ودون وعي ربما، اتخذت منذ البداية اللون الأحمر رمزاً لها، باعتباره اللون الغالب في الراية الوطنية، البقية الباقية من رموز الوطنية التونسية. لكن هذا الترميز اللوني تعمق أكثر مع بروز الجيل الثاني من الحركة الوطنية بعد تأسيس الحزب الحر الدستوري الجديد على يد الحبيب بورقيبة ورفاقه من خريجي الجامعات الفرنسية، وهو جيل شديد الوعي بالحداثة السياسية وأدوات عملها الحزبية ووسائلها في الدعاية. لذلك ومنذ منتصف الثلاثينيات، أصبح اللون الأحمر هو اللون الرمز لحركة التحرر الوطني في مواجهة الاستعمار، وصار يكلل جميع منشورات الحزب وبطاقات العضوية ويُرفع في التظاهرات. ثم أصبح جزءاً أساسياً من شعار الاتحاد العام التونسي للشغل، الرديف العمالي للحركة الوطنية، وكذلك جزءاً من شعار جناحه الطلابي، الاتحاد العام لطلبة تونس.

لكل منّا، في أغلب الدول العربية التي عاشت أو ما زالت تعيش تحت نظام سلطوي، قصة مع ذاكرة مكللة بلون مميز يتخذه النظام ضمن حزمة واسعة من رموزٍ تميّزه ويحتكرها ضمن ترسانة أدواته الإيديولوجية، لفرض حالة من التجانس القهري في المجتمع

شأنه شأن تاريخ الحركة الوطنية ومصفوفة الشرعية التحريرية التي استند إليها النظام الجديد الذي حكم بعد الاستقلال (1956)، شكل اللون الأحمر جزءاً أساسياً من الشرعية في بُعده الرمزي الذي يشير إلى "دماء شهداء حركة التحرر"، كما شكل رأسمالاً رمزياً ثميناً للنظام، وظفه على نحو واسع في صبغ البلاد بلون واحد هو لون الحزب الواحد الحاكم.

لكن خلال حكم الحبيب بورقيبة (1956 – 1987) لم تكن رمزية اللون الأحمر طاغية بشكل كبير، أو بالأحرى، لم يكن النظام السياسي يعيرها أهمية كبرى، إذ طغت صورة الرئيس نفسه وأقواله وخطبه وتاريخه على كل بقية الرموز، فقد كان الثقل التاريخي لشخصية بورقيبة والطبيعة الأبوية للنظام أقوى من أي رمز آخر يمكن أن يميز النظام.

بعد عام 1987، وصعود زين العابدين بن علي إلى السلطة، لم يكن الرئيس الجديد يملك مثل هذا الثقل التاريخي، ولا مثل تلك الهالة الأبوية التي حظي بها بورقيبة، لكنه حافظ خلال السنوات الأولى من حكمه على اللون الأحمر رمزاً مميزاً للحزب الحاكم الذي أعاد إنتاجه ضمن مسى جديد: التجمع الدستوري الديمقراطي.

ثم في منتصف التسعينيات، بدأ اللون البنفسجي يطفو إلى السطح جنباً إلى جنب مع اللون الأحمر، بوصفه لوناً رسمياً لرئاسة الجمهورية، في تعبير واضح على الفصل بين الرئيس والرئاسة وبين الحزب الحاكم، وتجلٍّ واضح لتراجع مكانة الحزب لصالح سلطة الفرد. ذلك أن بورقيبة في نموذجه السلطوي كان يعتمد أساساً على الحزب، أما بن علي فقد كان يعتمد أساساً على الجهاز الأمني المرتبط به مباشرة، بينما كان الحزب مجرد جهاز تعبئة ودعاية.

منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، أخذ اللون البنفسجي الذي استعاره بن علي من حركة النهضة الإسلامية بعد إبادتها سياسياً مطلع التسعينيات ينتشر في أرض البلاد وسمائها وحياطانها، وتحولت جميع صور الرئيس وعائلته ذات الخلفية الحمراء إلى اللون البنفسجي.

صار البنفسجي يحمل دلالة سياسية واضحة، أكان لدى قلة معارضة تكرهه أو بين جموع من المؤيدين الذين يحملونه كشارات على القمصان أو يستخدمونه في معلقات ويكتبون به شعارات، واكتسح الفضاء العام خلال الحملات الانتخابية.

ثم أخذ هذا اللون يتسرب إلى شعارات المؤسسات الرسمية، حتى وصل إلى شعار القناة الحكومية التي تحوّلت من "إ. ت. ت." (اختصار للإذاعة والتلفزة التونسية) إلى قناة "7" مكتوبة على سطح الشاشة باللون البنفسجي. وكان الرئيس التونسي مولعاً بأمرين في ذلك الوقت: الرقم 7 واللون البنفسجي.

ومع الوقت، أصبح اللون الذي كان مثاراً للكره وسيلة للسخرية من النظام وأنصاره، وأصبح لقب بنفسجي يطلق على كل أمر له علاقة بالنظام من أصغر الوشاة في الأحياء الشعبية إلى الرئيس وزوجته وأصهاره. حتى أن المغني اليساري الساخر "بندير مان" (بيرم كيلاني) كان يوشح مدونته الناقد قبل سقوط بن علي بالجملة الطويلة التالية: "يعيش بنديرمان لسبب واحد فقط، للإجابة على السؤال الوجودي الذي سأله جميع سكان بنديرلاند على أنفسهم مرة واحدة على الأقل في حياتهم: هل هناك لون آخر غير اللون البنفسجي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا اللون البنفسجي هو اللون الوحيد المرئي في هذا البلد؟".

الأخضر الناهض

بعد ثورة 2011، خرجت البلاد من ضيق اللون الواسع إلى متسع انفجار الألوان. أخذت كل عائلة سياسية موقعها الإيديولوجي الواضح ولونها السياسي الرمزي. اختار اليسار لونه التاريخي المفضل، الأحمر، وحاولت الأحزاب التي تستمد مرجعيتها من النظام القديم بشقيه إعادة إنتاج الماضي بالاستناد إلى الأحمر، فيما اتجهت حركة النهضة الإسلامية نحو اللون الأزرق، لون اليمين التاريخي الأوروبي.

إذا ألقينا نظرة عامة على الاستخدام السياسي للألوان، يمكننا أن نرى بوضوح اليوم أن أي مجتمع بشري يريد أن يميز نفسه في أعين العالم، سواء كان بلداً أو حزباً أو حتى شركة أو فريق كرة قدم، سيفعل ذلك بالضرورة من خلال اللون

ولأنها مارست الحكم منفردة أو بالشراكة على مدى عشر سنوات، وأعادت إنتاج العديد من ممارسات النظام السابق، كان التونسيون خلال العشرية الماضية دائماً ما يشبّهون نهج حركة النهضة في الحكم بالنهج الذي اتخذه بن علي، ويطابقون هيمنة البنفسجي سابقاً بهيمنة الأزرق ويصفون شبكات النهضة على وسائل التواصل الاجتماعي وأنصارها الذين يهاجمون معارضيها بـ"الذباب الأزرق".

ومع انغلاق أفق الأمل في التغيير وفي تحسن الأوضاع، أصبح قطاع واسع من التونسيين يصفون عشرية حكم النهضة بـ"العشرية السوداء"، في تطور لدرجات اللون الأزرق نحو السواد.

وهذا اليأس المديد جعل فرصة قيس سعيد في القفز إلى السلطة منفرداً مواتيةً ولها ما يبررها في الواقع الموضوعي، وجعل قطاعاً كبيراً من الشعب يرى فيه بارقة أمل من سنوات الجدب الطويلة، لتبرز إلى الساحة رمزية اللون الأخضر، وبشكل أكثر وضوحاً خلال حملة الاستفتاء على الدستور الجديد، فقد اكتسح أنصار الرئيس والمؤيدون للدستور الجديد شبكات التواصل الاجتماعي بوضع علامات خضراء كتب في وسطها "نعم"، في إشارة إلى سؤال الاستفتاء. واللافت أن الرئيس كتب بنفسه توطئة الدستور مشدداً على أنه "تزيد تونس الخضراء اخضراراً". وأصبح الأخضر خلال أيام قليلة رمزاً لتيار الرئيس وأنصاره.

ومع أن الأمر يمكن أن يكون مصادفةً، أو مجرد تزامن في الإشارة إلى الاستفتاء باللون الأخضر الذي يعني في قواعد السير "المرور"، إلا أن الوجه الشعبوي الواضح للنظام السياسي الجديد ليس بعيداً عن أجواء اللون الأخضر المرتبطة تاريخياً بطيف واسع من الحركات السياسية، من بينها الحركات الشعبوية.

يشير ميشيل باستوريو إلى أن اللون الأخضر كان لوناً متحفظاً إلى حد ما في العالم السياسي والإيديولوجي، إلى أن طرحته الحركة الرومانسية الأولى كلون يرمز للحريات. ثم سرعان ما أصبح، على مقياس أوروبا في نهاية القرن الثامن عشر، لون الحرية، وجرى تبنّيه في عدد من البلدان التي نالت استقلالها في نهاية الخمسينيات، ثم اتخذته بعض الكانتونات السويسرية التي تريد تحرير نفسها من وصاية السلطة الفيدرالية رمزاً لها، ثم أصبح لاحقاً اللون الرمزي للحركات البيئية السياسية.

لكن الأخضر أيضاً كان اللون الرمزي لحزب الشعب الأمريكي (1891 – 1904)، والذي يُعرف بالحزب الشعبوي. وكان إلى وقت قريب اللون التاريخي للجماهيرية التي شيدها العقيد القذافي في ليبيا منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي حتى 2011. هذا طبعاً إلى جانب ما يملكه من رمزية دينية من خلال ذكر واسع له في آيات قرأنية وأحاديث نبوية وما يرمز إليه من تمثيل المزارعين والريفيين وجميع الفئات والطبقات المهمشة والمعادية للنخب.

لكن هذا الاهتمام السياسي بتوظيف الألوان في تونس وفي العالم لا يوازيه في الوقت نفسه اهتمام علمي. وهنا، يعتقد ميشيل باستوريو أن العلوم الإنسانية لا تزال تواجه صعوبة كبيرة في العثور على مكانها في عالم الألوان. فبالنسبة إلى الفيزيائي، فإن الأبيض والأسود على وجه الخصوص ليسا لونين، على عكس العلوم الإنسانية التي تعتبرهما لونين. لكن اليوم، يجد عامة الناس صعوبة أكبر بكثير في تبني وجهة نظر المؤرخ أو عالم الاجتماع في مواجهة وجهة نظر العالم الفيزيائي في هذا الموضوع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image