في الليلة الفاصلة بين السادس والسابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، كان رئيس الوزراء التونسي زين العابدين بن علي أكثر تماسكاً ورصانة. جمع قادة الدولة في صالة فسيحة داخل وزارة الداخلية استعداداً لحدث جللّ.
على الجانب الآخر، كان الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة جالساً في إحدى صالات قصر قرطاج، صافي الذهن على غير عادته، يحدّث بنت أخته، سعيدة ساسي، وطبيب الخاص ومدير الديوان الرئاسي، عمر الشاذلي عن وقائع الحروب الصليبية التي كان يحب الحديث عنها واسترجاع أحداثها.
في الوقت نفسه، كانت عناصر الوحدة المختصة للحرس الوطني تغادر القاعدة الجوية في العوينة متوجهةً نحو القصر لتنهي ثلاثة عقود من حكم "المجاهد الأكبر"، كما كان يحلو لبورقيبة أن يصف نفسه.
بين عاميْ 1987 و2011، جرت مياه غزيرة تحت الجسور وتدفقت على مهل. أعاد بن علي إنتاج نظام بورقيبة بشكل آخر، لكنه لم ينسَ تكرار الخطأ الذي ارتكبه سلفه وهو تفويت المغادرة في الوقت المناسب.
مشيداً به، كتب الجنرال شارل ديغول في مذكراته: "بورقيبة يعرف كيف يكون دائماً على موعد مع التاريخ"، لكن هذه المعرفة خانته عندما احتاج إليها لحسم قرار الرحيل عن كرسي الحكم، كما خانت الجنرال بن علي تماماً.
مساء الرابع عشر من كانون الثاني/ يناير 2011، سار موكب الرئيس زين العابدين بن علي إلى مطار القاعدة العسكرية في العوينة وامتطى طائرته نحو المجهول بعيداً عن السلطة. وبينما كان يضرب كفاً بكف، ألقى نظرة أخيرة على البلاد من القاعدة العسكرية نفسها التي وصل من خلالها إلى الحُكم قبل 23 عاماً. مرّ شريط ذكرياته سريعاً أمامه في صمت، لم يشقّه سوى صوت أزيز محرك الرحلة الأخيرة. الرجل الذي لم يكلّفه الوصول إلى السلطة رصاصة واحدة، كلّفه الخروج منها كثيراً من الذخيرة والدماء.
رحيل بن علي المفاجئ فتح الباب واسعاً أمام تساؤلات حول أسبابه وتفاصيل حدوثه، ما زالت حتى اليوم لا تجد جواباً قاطعاً، حيث ما زالت وقائع يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011 غائمة يكللها الكثير من الضباب. بيد أن الوثائق القضائية التي تضم عدداً من إفادات رموز النظام أمام قاضي التحقيق بعد الثورة، تلقي بعض الضوء على ما حدث في ذلك اليوم.
صباح يوم الهروب
مساء الـ13 من كانون الثاني/ يناير، ظهر الرئيس التونسي على شاشة التلفزيون في محاولة أخيرة لإنقاذ الموقف. التظاهرات لا تتوقف والقتلى بالعشرات. تحدّث لأول مرة باللهجة العامية. بدا مرتبكاً وخائفاً. قدّم وعوداً بالحريات والمحاسبة والرفاه. وقال كلمته الشهيرة "فهمتكم". إعلان تأخر سنوات عديدة ولم يعد يجدي نفعاً. وما إنْ أنهى الرئيس خطابه حتى خرجت جموع من أنصار الحزب الحاكم تجوب الشوارع لتشكر "السيد الرئيس" على هذا "الإعلان التاريخي". وبموازاة ذلك زادت تظاهرات الاحتجاج والغضب حدة وتمرداً.
صباح اليوم التالي، خرجت الجماهير بشعار واحد "خبز وماء وبن علي لا". وفي العاصمة بدأ المتظاهرون يتجمعون في ساحة محمد علي، معقل الاتحاد العام التونسي للشغل، ثم كسرت الجموع الطوق المفروض على شارع الحبيب بورقيبة ودخلته من محاور مختلفة لتتجمع أمام البناية الرمادية لوزارة الداخلية، الرمز التاريخي للدولة البوليسية التي أسسها الحبيب بورقيبة ووطّد دعائمها بن علي. بدا أن الأمور خرجت عن سيطرة النظام.
في إفادته أمام القضاء، يقول مدير المخابرات العسكرية الجنرال أحمد شابير: "كنت منذ الصباح في مكتبي أتابع الأحداث، سيما التجمع المنعقد في ساحة محمد علي في تونس العاصمة أمام مقر الاتحاد العام التونسي للشغل. لقد لاحظت أن العديد من العناصر الأمنية كانت تقوم بتسليم أسلحتها الفردية للثكنات العسكرية وقد استغربتُ تلك التصرفات التي لم يكن لها مبرر في الواقع كما لاحظت تعمّد العديد من الأعوان التغيّب عم مراكز عملهم والتخلف عن الحضور. وقد تمت مهاجة 13 مقراً أمنياً وسُجّلت كذلك حالة تململ داخل السجون وفراغ أمني حيث تمت مهاجمة بعض الأحياء السكنية والمحلات التجارية وتم استهداف منازل أفراد من عائلة الطرابلسي، أصهار الرئيس بن علي".
بعد فشل خطاب ليلة الثالث عشر، استشعر بن علي أن الأمور بدأت تخرج عن السيطرة، فيما كان أركان النظام الأمنيون يتلقّون سيلاً من المعلومات من مصادر مختلفة، زادت من منسوب الرعب في صفوفهم.
وبعد محاصرة المتظاهرين للداخلية، يقول رئيس أركان الجيش الجنرال رشيد عمار في إفادته القضائية أنه تلقى صباح 14 كانون الثاني/ يناير اتصالا من الجنرال علي السرياطي، مدير الأمن الرئاسي، طلب منه فيه تعزيز الوحدات الأمنية المتمركزة على مفترقي شارع الحبيب بورقيبة، وقد لاحظ أنه كان مرتبكاً ومتخوّفاً من توجه الجماهير باتجاه القصر الرئاسي.
بداية الذُعر
بعد ساعات، زادت حدة التظاهرات في عموم البلاد وامتلأ شارع الحبيب بورقيبة من أقصاه إلى أقصاه، وبدأ الرئيس بالتفكير في فرض حالة الطوارئ وحل الحكومة وإبعاد العائلة من البلاد لأيام حتى تهدأ الأمور، فقد كان غضب الناس تجاه زوجة الرئيس وأصهاره يفوق غضبهم عليه.
كان محسن رحيم، مدير التشريفات الرئاسية، يجلس في مكتبه في قصر قرطاج، عندما استدعاه الرئيس على عجل. كانت الساعة تشير إلى الـ12 ظهراً. وطلب منه أن يجهّ الطائرة الرئاسية التي ستتولى نقل زوجته ونجله محمد وابنته حليمة إلى السعودية لأداء مناسك العمرة. وقال له حرفياً: "الجو ليس جيداً والوضع غير مستقر، سيسافرون لتغيير الجو ويؤدون العمرة. جهز الطائرة وسأعلمك لاحقا بالتوقيت". ويتابع رحيم: "كان الرئيس لا ينوي السفر مع عائلته. فقمت بالتواصل مع مدير الخطوط التونسية ونسقت معه كما يجري دائماً في مثل هذه الحالات".
في هذه الأثناء، كان الرئيس يتابع الوضع الأمني بقلق شديد، والمعلومات تتدفق على الأجهزة الأمنية والرئاسة بشكل غير منقطع. يقول الجنرال عمار، رئيس الأركان: "عاد الجنرال السرياطي واتصل بي مرة أخرى في الساعة الثانية و14 دقيقة ظهراً، وأعلمني بأن الرئيس بن علي وردت إليه معلومة مفادها أن زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي سيدخل البلاد قادماً من الخارج وأن مطار تونس قرطاج غير مدرج ضمن النقاط المحروسة، وقد كان علي السرياطي متخوفاً من تلك المعلومة التي وردت من الأجهزة الأمنية في الخارج كما طلب منّي تعزيز الحماية حول منازل بعض أفراد عائلة الطرابلسي ولكنني رفضت وقلت له إن الجيش لا يحمي إلا مؤسسات الدولة".
ويتابع: "في الأثناء، اتصل بي وزير الدفاع، رضا قريرة، وأعلمني أن الرئيس بن علي اتصل به وقال له إن طائرة مروحية تحلق فوق القصر الرئاسي وتعتزم القيام بإنزال داخله وعلى متنها عناصر من فوج مقاومة الإرهاب وأن الرئيس أسدى تعليمات لعلي السرياطي بضرورة إسقاط تلك المروحية بمَن فيها باستعمال سلاح 12.7 ملم وقد قام وزير الدفاع بالتثبت من المعلومة وأعلم الرئيس بوجود مروحيات عسكرية قادمة من قاعدة بنزرت في مهمة لتعزيز التواجد العسكري في العاصمة فقال له الرئيس: يبدو أن السرياطي مذعور".
لم يكن السرياطي وحده مذعوراً، فالذعر كان يسري في جميع جسد النظام.
النظام يتخبط
نجحت قوات النظام في تبديد التظاهرة الكبيرة أمام وزارة الداخلية، إلا أن ذلك لم يكفِ لتبديد الفوضى التي اجتاحت البلاد. كانت منازل أصهار الرئيس وعائلته هدفاً للمحتجين والمحلات نهباً للعصابات.
ومع الساعة الثالثة ظهراً، قرر الرئيس وضع رئيس أركان الجيش منسقاً للعمليات في غرفة وزارة الداخلية للإشراف على ضبط الوضع. يقول الجنرال أحمد شابير: "حوالي الساعة الثالثة، تمت دعوتي إلى مكتب وزير الدفاع رضا قريرة وقال: الجنرال عمار سيذهب للتنسيق في وزارة الداخلية بأوامر من الرئيس وأنت ستذهب إلى قاعة عمليات الجيش لتنوب محله في تنسيق العمليات. وقد لاحظت تخوفاً بادياً على وزير الدفاع من علي السرياطي وقد قال بالحرف الواحد: أنا بدأت أشك في السرياطي، وقد استغربت ذلك القول الذي لم يكن مبرَّراً منه.
رحيل زين العابدين بن علي المفاجئ فتح الباب واسعاً أمام تساؤلات حول أسبابه وتفاصيل حدوثه، ما زالت حتى اليوم لا تجد جواباً قاطعاً، حيث ما زالت وقائع يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011 غائمة يكللها الكثير من الضباب
وفي قصر قرطاج، كان الرئيس قد حزم أمره وقرر أن يكون موعد إقلاع طائرة العائلة في السادسة مساءً. لكن محسن رحيم يورد حديثاً دار بينه وبين الجنرال السرياطي بعد أن أعلمه الرئيس بموعد الرحلة قائلاً: "قال لي الجنرال السرياطي حتى وإنْ كانت الطائرة الرئاسية غير جاهزة فلنذهب إلى المطار العسكري وننتظر هناك، فالجيش أولادنا، وقد فهمت من كلامه أن سيشعر بالأمان في المطار العسكري وأن وجوده في القصر الرئاسي أصبح يشكل خطراً عليه وعلى حياة الرئيس، خاصة بعد الاتصال بمحافظ بمطار تونس قرطاج، لكن شخصاً آخر أجابه وقدم نفسه بسمير الطرهوني، فقال لي السرياطي توجد مؤامرة بين كومندوس الحرس وكوماندوس الشرطة".
قبل ذلك، وفي الساعة الثانية وأربعين دقيقة، تلقى سمير الطرهوني، قائد الفوج الوطني لمجابهة الإرهاب، اتصالاً من الوكيل حافظ العوني، الضابط في فرقة حماية الطائرات، مفاده أن عدداً كبيراً من أفراد عائلتي بن علي وزوجته ليلى يتجمعون في إحدى صالات المطار استعداداً للهروب. قرر الطرهوني من تلقاء نفسه وبدون أية تعليمات، حسبما جاء في إفادته أمام القضاء، أن يتوجه إلى المطار مع فرقة أمنية ويلقي القبض على أقرباء الرئيس.
بدأ جو من عدم الثقة يتشكل بين أركان النظام. كان بن علي نهباً لمئات المعلومات المتدفقة من مصادر مختلفة ومتضاربة أحياناً. لكن الجنرال عمار يشكك في نوايا الطرهوني ومَن كان يقف خلفه. يقول في شهادته أمام القضاء: "في الساعة الرابعة والربع تلقيت اتصالاً من وزير الدفاع قال لي فيه ‘هل أعطيت تعليمات بمنع إقلاع الطائرات؟’، حيث هناك مَن أبلغ الرئيس أنني منعت إقلاع أي طائرة من مطار تونس قرطاج، وفي اتصال آخر أعلمني وزير الدفاع أن الرئيس أخبره بوجود مندسين من الإخوانجية يعملون في فرقة مقاومة الإرهاب احتجزوا أفراداً من عائلته في المطار والرئيس يطلب القضاء عليهم وضربهم بالرصاص. وأعتقد أن الطرهوني ومساعده كانا يأتمران بأوامر من شخص أجهله."
وعن هذه الأجواء الغامضة والمريبة، يتحدث سامي سيك سالم، العقيد في جهاز الأمن الرئاسي، والذي كان مناوباً في قصر قرطاج في ذلك اليوم: "في الساعة الرابعة بعد الظهر كنت في عملية تفقد للوحدات وفي طريق عودتي اعترضني مدير الأمن الرئاسي الجنرال علي السرياطي وهو يقود سيارة بسرعة جنونية ويرافقه مدير التشريفات الرئاسية محسن رحيم، وبعدها مباشرة سمعت على جهاز اللاسلكي أن موكب الرئيس بن علي غادر نحو قصر سيدي الظريف في سيدي بوسعيد، إلا أنه سرعان ما سمعت مكالمة ثانية تفيد بأن الموكب لم ينعطف نحو سيدي بوسعيد، فتوجهت مباشرة نحو غرفة العمليات فتم إعلامي بأن موكب الرئيس توجه إلى المطار الرئاسي حيث يتم تجهيز الطائرة الرئاسية."
ويضيف العقيد سالم في شهادته أمام القضاء: "داخل الغرفة استمعت للعديد من المكالمات التي تفيد بوجود آلاف من متساكني المرسى والكرم يريدون مهاجمة القصر الرئاسي وبوجود بارجة حربية قبالة القصر الرئاسي ومروحية عسكرية تحلق فوق القصر. فاتصلت بالمقدم الياس الزلاق مدير إدارة المرافقات في الأمن الرئاسي واستفسرت عن الأحداث فأخبرني بأنه لا يعلم شئياً، فاتصلت بالجنرال السرياطي لكنه لم يجبني فازدادت مخاوفي فقمت بالاتصال برئيسي المباشر العقيد عدنان الحطاب فأعلمني بأنه ليس موجوداً في مقر العمل وقال لي ‘شوف تركينة وخبي راسك’ (أوجد مكاناً واختبئ فيه) ولاحظت مغادرة بعض العناصر العاملين في القصر الرئاسي".
الموكب الرئاسي يتحرّك
كان الطيار في الخطوط التونسية محمود شيخ روحو بعد ظهر ذلك اليوم يتابع الأخبار في بيته، عندما تلقى اتصالاً في الساعة الرابعة من مديره نبيل الشتاوي. قال له: "يجب أن نجهز الطائرة الرئاسية في أقرب وقت لنقل عائلة الرئيس نحو جدة بدون التزود بالطعام وبطاقم محدود جداً. فتواصلت مع المطار لإصدار مخطط الطيران ورخص المرور فوق المجالات الجوية من تونس نحو السعودية".
في هذه الأثناء، كان موكب الرئيس وعائلته قد وصل إلى منطقة العوينة شمال العاصمة حيث يوجد المطار العسكري. وبدأ موت النظام ينسج أكفانه شيئاً فشيئاً. يقول مدير التشريفات محسن رحيم: "وصلنا إلى القاعدة الجوية العسكرية ودخلنا مباشرة إلى القاعة الشرفية، إلا أن الرئيس بن علي رفض النزول وأمر بالتوجه مباشرة إلى مستودع الطائرات، حيث ترجل مع زوجته ليلى ونجله وابنته حليمة وخطيبها مهدي بن قايد ونادله الخاص كمال البديري ومعينتين منزليتين من الفلبين تكنّيان بإيمان وحنينة".
يقول الطيار محمود شيخ: "وصلت الساعة الخامس إلى المطار فوجدت الطائرة في المستودع وشاحنة الوقود تقوم بتزويد الطائرة وسط المستودع في عملية شديدة الخطورة، وسط وجود عناصر من الأمن الرئاسي يحملون بنادق. طلب منّي مدير الأمن الرئاسي أن أضع مخطط الطيران نحو مطار جزيرة جربة التونسية ثم نسافر إلى جدة دون أن نُعلم أحداً، إلا أنني رفضت ذلك بسبب خطورة العملية، فلا يمكن أن ندخل مجالات جوية دولية دون رخصة. فقالوا نسافر إلى جربة ثم نقرر".
ويتابع محسن رحيم في شهادته على تلك اللحظات: "في انتظار استكمال عملية التزود بالوقود تم شحن الحقائب، والتي لم تكن كثيرة ولا ثقيلة، قام أحد العناصر الأمنية بإنزال حقيبة ومعطف الجنرال السرياطي من الطائرة بعد أن قال له الرئيس ‘لا توجد ضرورة للصعود، سأقوم بإيصالهم وأعود’، فأجابه السرياطي ‘لا تعد حتى أتصل بك سيدي الرئيس’. ثم غادر الرئيس وعائلته دون حتى أن يقوم بالإجراءات الروتينية لختم الجوازات".
البيان التاريخي
في غرفة عمليات وزارة الداخلية، كان رئيس الأركان رشيد عمار يواصل مهمات التنسيق بين القوات، حتى تلقى في الساعة الخامسة و55 دقيقية، أي خمس دقائق قبل أن تطير طائرة الرئيس، من العقيد سامي سيك سالم، العقيد في الأمن الرئاسي. "كان يتحدث بلغة مضطربة جداً وقال لي سيدي الجنرال يجب أن تأتي إلى القصر الآن، فقلت له لا آتي إلا بتعليمات من وزارة الدفاع، وقد اتصلت بوزير الدفاع الذي وجدته على علم بعملية هروب الرئيس، وقد استغربت لعدم إعلامي من طرف وزارتيْ الداخلية والدفاع بعملية خروج الرئيس من البلاد، وقد أعلمني الوزير أيضاً بعملية إيقاف علي السرياطي في القاعدة الجوية في العوينة".
يقول السفير الليبي في الرياض محمد سعيد القشاط في مذكراته: "قال لي الأخ العقيد (معمر القذافي) تواصل معه (زين العابدين بن علي) وقل له إنك قادم إليه في جدة وشجعه بأننا لن نتخلى عنه... وأننا يجب أن نتواصل مع الجيش لتنفيذ انقلاب وإعادته إلى الحكم"
ويضيف العقيد سالم في شهادته عن هذه الوقائع: "اتصلت بالجنرال رشيد عمار وبالوزير الأول محمد الغنوشي الذي أوصلني به النقيب بشير شهيدة رئيس فرقة تأمين الوزارة الأولى فقلت له ‘إن الرئيس قد حمل نفسه وعائلته وهرب من البلاد وتونس أمانة في رقبتك فلا تدعنا للضياع’. فأعلمني أنه ليس المعني المباشر بالأمر وأن الوضع يتطلب حضور كل من رئيس مجلس النواب ورئيس المجلس الدستوري ورئيس مجلس المستشارين، عندها أعلمته أنني سأرسل له سيارة مصفّحة ورجوته بأن يلتحق بالقصر الرئاسي في قرطاج واعداً إياه بجلب رؤساء المجالس المذكورين، ثم اتصلت بهم ووفّرت لهم سيارات لجلبهم إلى القصر. لكن رئيس المجلس الدستوري فتحي عبد الناظر أغلق هاتفه عندما وصلت السيارة الرئاسية أمام منزله".
ويتابع: "وعندما شرعنا في تصوير الكلمة – التي تم بثها لاحقاً على القناة الرسمية – نهض رئيس مجلس النواب فؤاد لمبزع من كرسيه أمام الكاميرا وقال، ‘أنا مريض لا أستطيع، هذا عبد الله القلال رئيس مجلس المستشارين’. عندها عارضته قائلاً ‘عبد القلال لا’، بعد أن همس في أذني أحد الحاضرين قائلاً ‘القلال لا، البلاد ستشتعل أكثر’. عندها تدخل الوزير الأول وفي يده كتيّب الدستور التونسي قائلاً ‘يمكن الاعتماد على الفصل 56 من الدستور’".
في الأثناء، بدأ التلفزيون الرسمي يبث أغاني وطنية معلناً أن بياناً تاريخياً في طريقه للبث. وفي الطريق كان محافظ الشرطة الأول يوسف ساسي يحمل الشريط المصور إلى مقر التلفزيون شمال الهلتون.
اعتمد رئيس الوزراء في تبرير التغيير قانونياً على المادة 56 من الدستور التونسي القديم والتي تقول: "لرئيس الجمهورية إذا تعذر عليه القيام بمهامه بصفة وقتية أن يفوض بأمر سلطاته إلى الوزير الأول ما عدا حق حل مجلس النواب. وأثناء مدة هذا التعذر الوقتي الحاصل لرئيس الجمهورية تبقى الحكومة قائمة إلى أن يزول هذا التعذر ولو تعرضت الحكومة إلى لائحة لوم. ويعلم رئيس الجمهورية رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين بتفويضه المؤقت لسلطاته".
لكن في اليوم التالي، تراجعوا عن الأمر، واعتمدوا على المادة 57 التي تتيح لرئيس مجلس النواب أن يكون رئيساً "بصفة مؤقتة".
الخديعة
أقلعت طائرة الرئيس في موعدها عند السادسة مساءً. يصف قائدة الطائرة لحظات المغادرة وما حفّ بها في شهادته قائلاً: "بينما كانت الطائرة تتحرك، كنّا نشاهد عناصر الأمن الرئاسي مصطفين على جانبي المدرج يصوبون بنادقهم نحوها، ربما خوفاً من رفضنا الإقلاع بها. وعندما وصلت الطائرة فوق جربة اتصلت ببرج المراقبة في طرابلس الليبية وأعلمته بأن معي رئيس الدولة وعائلته، فجاء بن علي من الخلف في قمرة القيادة وقال لي لا تقل أن الرئيس معك، فأعدت الاتصال بهم وقلت لهم معي عائلة الرئيس فقط ثم جاءتنا رخصة الطيران الليبية والمصرية حتى وصلنا الأجواء السعودية".
في خضمّ الرحلة، اتّصل بن علي برئيس أركان الجيش وهو في الطائرة. يقول الجنرال عمار: "بعد مشاهدة الخطاب الذي ألقاه الوزير الأول محمد الغنوشي على القناة الرسمية، تلقيت اتصالاً من الرئيس بن علي أعتقد أنه في الساعة الثامنة وعشرين دقيقة قال لي فيه ‘كيف هو الوضع في البلاد الآن؟ هل أنتم مسيطرون على الوضع؟ هل أستطيع العودة إلى البلاد الليلة؟’ فقلت له ‘لا أستطيع أن أجيبك الآن سيادة الرئيس، الوضع ليس واضحاً بصفة عامة’، فقال لي ‘أتصل بك غداً جنرال’، كان صوته غير مستقر ولم يعاود الاتصال بي منذ ذلك التاريخ".
وحاول بن علي الاتصال برئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب ساخطاً مما جرى من خلفه. يقول العقيد سالم: "بعد بث البيان على التلفزيون وبينما كنّا في أحد المكاتب في الديوان الرئاسي جاء الضابط منتصر الخياري مهرولاً وكان ممسكاً بالهاتف الجوال الخاص بحاجب الرئيس حسن الورتاني وخاطب الوزير الأول محمد الغنوشي مباشرة ‘السيد الرئيس يطلبك’، لم أستمع لما دار بينهما لكنني استنتجت أنه لامه على الكلمة التي ألقاها وهدده بأنه سيعود فجراً إلى تونس".
لاحقاً، وفي شهادة له، قال فؤاد لمبزع رئيس مجلس النواب إن الرئيس تحدث معه على الهاتف خلال نفس الاتصال الذي جرى مع الوزير الأول في القصر الرئاسي بعد بث الكلمة وقال له يجب إلغاء كل هذه الإجراءات لأنني عائد إلى تونس، فأجابه بأن العودة لا سبيل إليها.
ويتابع قائد الطائرة سرد مسار رحلة الرئيس الأخيرة قائلاً: "عندما وصلنا مطار جدة اتصل بنا برج المراقبة وأعلمني بأن المطار مغلق بسبب عاصفة وأمطار قوية ومطار المدينة المنورة لم يعد يستطيع استيعاب الطائرات المغادرة إلى جدة ويجب أن تتوجهوا نحو مطار الطائف، فطلبت من البرج أن يتركنا نقترب من المدرج ونحاول النزول، وقد نجحنا في ذلك".
دخل بن علي وعائلته من الصالة الملكية وقبل أن يغادر المطار قال لطاقم الطائرة "اذهبوا إلى الفندق للراحة، سنعود قريباً، فيما كانت أجهزة التلفزيون في القاعة مفتوحة على قناة الجزيرة وفيها يظهر خبر هروب الرئيس بالبنط الأحمر العريض. كان بن علي محبطاً مما جرى، ويعتقد أنه تعرض لخدعة من أقرب الناس إليه.
حاول بن علي مرة أخرى بعد وصوله إلى السعودية التواصل مع الوزير الأول في ساعة متأخرة من الليل. ويتحدث الجنرال رشيد عمار عن ذلك قائلاً: "جاء إلى مقر وزارة الداخلية محمد الغنوشي الوزير الأول ومعه وزير الدفاع رضا قريرة وفي تلك الأثناء تلقى الغنوشي اتصالاً من بن علي استغرب فيه الإجراءات المتخذة وقد أعلمه الغنوشي أنها إجراءات دستورية وقانونية حيث قال له حرفياً ‘يوجد فراغ...الدولة لا تتحمل الفراغ ونحن طبّقنا القانون’".
لكن الضربة القاصمة جاءت من طائرة الرحلة الأخيرة. يتحدث قائد الطائرة محمود شيخ روحو عن الساعات التي أعقبت وصوله إلى مطار جدة بعد أن تركهم الرئيس: "اتصلت بمدير الخطوط التونسية – مديري المباشر والمسؤول الأول عن الطائرة - وقلت له إننا نفضّل العودة الآن فقال لي سأعاود الاتصال بك لاحقاً. ولم يلبث إلا 15 دقيقة واتصل بي مرة قائلاً ‘ارجع بالطائرة’. عدنا إلى تونس في حدود الساعة الخامسة صباحاً وسلمنا الطائرة في محضر رسمي للقوات العسكرية".
كان بن علي عازماً على العودة إلى البلاد في اليوم التالي. في مذكراته ينقل السفير الليبي السابق في الرياض، محمد سعيد القشاط، وهو من القلائل الذين التقوا بن علي في منفاه السعودي، عن بن علي قوله: "تركت الطائرة في جدة وذهبت لأداء مناسك العمرة وعندما عدت وجدت أن الطائرة قد غادرت نحو تونس، لأنهم اتصلوا بالطيار وأخبروه أنهم على اتفاق مع الرئيس بأن يرجع ويتركه وأنا لم أتفق مع أحد".
أما رئيس الأركان الجنرال عمار فيقول أمام القاضي في شهادته: "قناعتي الشخصية هي أنه لم يكن هناك موجب لمغادرة الرئيس السابق لأرض الوطن، ولم يكن هناك موجب لتلك المغادرة المفاجئة ولا أعتقد أنه غادر بسبب ما أقدم على فعله المقدم سمير الطرهوني في مطار تونس قرطاج سيما وأنه كان يسعى إلى مغادرة عائلته للبلاد ولا أعتقد أنه كان يسعى للمغادرة بدوره، حتى أنه لم يقم بجمع ملابسه. لكنني أتساءل دائماً عن السبب الحقيقي الذي دفع بالرئيس للتحول إلى المطار العسكري في ظل وضع أمني متردٍّ للغاية وفوضى عارمة".
وفيما يبقى كثير من الغبش يحيط بوقائع مغادرة بن علي للبلاد على عجل، رغم الشهادات الكثيرة التي أدلى بها رموز النظام أمام القضاء وفي وسائل الإعلام، هناك شهادة واحدة يمكن أن تكون رأس خيط لفك أحجية الهروب الغامضة أدلى بها الجنرال علي السرياطي، مدير أمن الرئيس أمام القضاء في جلسة علنية قال فيها: "عندما جد الجد قمت بواجبي وجازفت بنفسي يوم 14 ولولا ذلك لبقي بن علي إلى اليوم، ولأصبحت تونس مثل ليبيا وسوريا".
منفياً في قصر الحمراء
حلّ صباح يوم الخامس عشر من كانون الثاني/ يناير 2011 على بن علي رئيساً سابقاً. عاد إلى جدة بعد الانتهاء من مناسك العمرة واستقر في قصر الحمراء في ضيافة صديقه وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبد العزيز.
في طرابلس الغرب، كان السفير محمد سعيد القشاط يستعد للاستقرار بعد سنوات من الخدمة في الرياض. لكن هروب بن علي قلب حياة الرجل مرة أخرى وشتتها بالسفر.
يقول القشاط في مذكراته: "في أواخر شهر يناير 2011 تلقيت اتصالاً من موظفي سفارتنا في الرياض يخبرني بأن الرئيس بن علي يطلب رقم هاتفي ويريد التواصل معي. أعلمت الأخ العقيد (معمر القذافي) بالأمر فقال لي تواصل معه وقل له إنك قادم إليه في جدة وشجعه بأننا لن نتخلى عنه وأوصاني العقيد بنقاط لتبليغها لبن علي منها أننا نود أن يغادر السعودية إلى بلد يستطيع فيه مخالطة الشعب والتحدث بحرية ويستحسن أن يكون في أوروبا وأننا يجب أن نتواصل مع الجيش لتنفيذ انقلاب وإعادته إلى الحكم. وفي صباح اليوم التالي استقليت الطائرة نحو عمان ومنها إلى جدة. وفي صباح الـ27 من يناير اتصلت ببن علي وأعلمته بأني قادم إليه."
كان السفير القشاط أول ضيف يزور بن علي في منفاه الجديد والوحيد الذي نقل أحواله في ظل طوق سعودي فُرض عليه منذ اليوم الأول. يقول القشاط: "كان يقيم في قصر الحمراء ويشرف على حراسته اللواء سعود الداوود، الذي استقبلني وساقني نحو صالون جانبي عند مدخل القصر وتركني بعد أن أرسل لي نادلاً بالقهوة والتمر على عادة أهل السعودية. وبعد قليل دخل بن علي الذي كان في لياقته التي كنا نشاهدها في التلفزيون. عانقني وسأل على أحوال الأخ العقيد وهو يقول إنه الصيدق الوحيد الذي أثق فيه ثم قال ‘أبلغ الأخ القائد أنني لم أهرب ولكن عندما تطورت الأحداث رأت زوجتي أن تذهب للعمرة وأصرّت على أن أذهب معها."’
ويتابع: "وضع لي بعض الأعضاء (هكذا وردت في المذكرات) في أذني لو تتدخل بعض الدول الصديقة مع الحكومة الحالية بأن نستقبل في تونس ونبقى تحت الإقامة الجبرية، فلو تم ذلك فإنني أستطيع أن أحرك الوضع، أعطوني ثلاثة أشهر في يدي، أستطيع أن أعمل كل شيء، أحتاج لمساعدة الأخ القائد، خادم الحرمين، وملك المغرب. عدت إلى ليبيا والتقيت بالأخ العقيد وقرأت له حديث بن علي، فطلب منّي الرجوع إليه وطمأنته بأننا نعمل من أجله لرجوعه إلى وطنه وعليه تكثيف اتصالاته بالداخل، بأعوانه في الجيش والأمن. لاحقاً رجعت إلى لقاء بن علي وبلغته رسالة الأخ العقيد. وقال لي لو يتدخل الجيش ويعلن حالة الطوارئ يمكننا التدخل. يجب أن يزيد التعفن حتى يخرج الجيش لحماية الأملاك ويعلنوا حالة الطوارئ وبعد ذلك يسهل علينا التدخل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 10 ساعاتمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
Ahmed Adel -
منذ 3 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.