"عيادتي النفسية امتلأت خلال اليومين المنصرمين. بين الموجودين أكثر من عشرين طفلاً مرعوبين، ليس من الزلزال الذي شعروا به فحسب، بل من المشاهد التي شاهدوها على وسائل الإعلام. نحن نُحدث زلزالاً نفسيّاً لدى الناس عامّةً والأطفال خاصةً"؛ بهذه العبارات يحدّثنا المختص بالعلاج النفسي إيلي أبو شقرا.
بحسب منظّمة الصحّة العالمية، في حالات الطوارئ، سيصاب معظم الأشخاص المتضررين بضائقة كمشاعر الحزن واليأس والقلق والغضب والأوجاع، وهذا سيتحسّن مع مرور الوقت لدى معظم الناس، إلا أنه يُتوقّع ازدياد معدّل الاضطرابات النفسية الشائعة كالاكتئاب والقلق بأكثر من الضعف في الأزمات الإنسانية.
هذا الرأي وغيره من آراء المختصين بالصحة النفسية، يؤكّد أن الأضرار النفسية خلال حالات الطوارئ ستكون أمراً شائعاً، ليس فقط على المتضرر نفسه فقط وإنما على المجتمعات المحيطة به. فمن الناحية النفسية بحسب أبو شقرا، "نشر المشاهد القاسية في أي وقت كان من دون تحذير المشاهدين من وجودها، خصوصاً في الأوقات التي يحضر فيها الأطفال، يؤدّي في معظم الأحيان إلى إنتاج ضحايا نفسيين، فلا يقتصر الأمر على الجرحى والقتلى، وإنما نضيف إليهم أشخاصاً لديهم صعوبات نفسية".
لنقل هذه المشاهد آثار نفسية كبيرة ليس فقط على المشاهدين، وإنما على الجرحى أيضاً، يقول أبو شقرا، ويضيف: "هناك أشخاص، بعد الحادث، بمجرّد أن يعاودوا مشاهدة وضعهم وقت الحادث، يعودون إلى تلك المرحلة وكأنهم لا زالوا في قلب الحدث، وهذا أمر سيئ للغاية على صحّتهم النفسية، فالإنسان يتجاوز الصدمات عبر مرور الزمن، وعندما نستمر في تذكير الدماغ بهذه المشاهد، فمن المؤكّد أن الشخص سيبقى في حالة نفسية سيّئة ولن ينسى مشكلته".
بحسب منظّمة الصحّة العالمية، في حالات الطوارئ، سيصاب معظم الأشخاص المتضررين بضائقة كمشاعر الحزن واليأس والقلق
أما المشكلة النفسيّة الأكبر، بحسب الأخصائي النفسي، فتكون على أهل الضحايا لأنهم ربما يكونون في مناطق بعيدة عن الكارثة، وعندما يشاهدون هذه الصور الصعبة يتأثرون كثيراً، خصوصاً أنهم يترّقبون أي خبر عن ذويهم، وليس بالضرورة أن يكون الشخص لديه مشكلة نفسية كي يتأثر بهذه المشاهد، الشخص الطبيعي سيتأثر بشكل كبير، خاصةً إذا كان هناك ارتباط قويّ مع الأشخاص الذين جُرحوا أو توفوا جرّاء الكارثة.
محاذير النشر
عند كل كارثة أو حرب، يهرع الصحافيون إلى نقل المشاهد كما هي، ويتسابق كثير من الصحافيين للحصول على المشاهد الأكثر قساوةً تحت مسمّى السبق الصحافي، إلا أن لهذا السبق محاذير، ففي معظم الأحيان تُكسر حرمة الضحايا وذويهم، وتنقل الصورة القاسية إلى الجمهور، من دون مراعاة مشاعر الأهل أو المشاهدين، وهو ما جرى مؤخراً بعد الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في 6 شباط/ فبراير الجاري، والفيديوهات التي تعرض الضحايا وهم يستغيثون لإنقاذهم، والجثث المشوّهة والمنتشرة في كُل مكان، ومشاهد كثيرة غيرها.
تقول الأستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية مهى زراقط، لرصيف22، إنه "دائماً ما نقول إن كسر حرمة الميت أو الضحايا أمر غير مباح، والصحافيون لا يغيّرون سلوكهم، ففي الصحافة لا يوجد قانون بل يوجد شرعة أخلاقية، والشرعة غير ملزمة، في كل دول العالم، إذ لا يوجد قانون يلزم الصحافي بشيء معيّن ليحاسب عليه في حال خرق أي بند فيه، بعكس باقي المهن التي توجد فيها قوانين ملزمة".
إلا أن نقل الصورة كما هي أمرٌ نسبي، وتضيف: "لطالما قلنا إن هناك صوراً غير لائقة وغير مناسبة، ولكن في مرّات كثيرة تكون هي السبب في تحريك عجلة المساعدات تجاه الدول. فعندما ضرب الزلزال تركيا كلّنا ظننا أن الأضرار مقتصرة على تركيا، حتى الوقت الذي بدأت تصل الصور تباعاً من سوريا، لتُظهر حجم الدمار والكارثة، وبمساعدة مواقع التواصل الاجتماعي وحسابات الأشخاص والناشطين والمواقع الإخبارية الذين نشروا صوراً ومقاطع مصوّرةً، عرفنا حقيقة الذي يحصل في سوريا، وهذا يفسّر ما حصل في البداية من أن كل المساعدات توجهّت إلى تركيا، وبعد أن سلّط الإعلام الضوء على سوريا بدأت تصل المساعدات وفرق الإنقاذ إليها".
وتُشير إلى أنه "في الحروب الإسرائيلية على لبنان، برز النقاش حول جواز عرض صور المجازر الإسرائيلية كما هي أم لا؟ وهنا لا يمكنك إلا أن تنشر الصورة كما هي لأن الإسرائيلي كان يكذب وينكر أنه ارتكب المجازر، فهنا تأتي الصورة لتدحض المقولة الإسرائيلية، فالصورة أقوى من أي خبر".
في المقابل، يشير المدير التنفيذي لمؤسسة سمير قصير للحريات الإعلامية، أيمن مهنا، في حديثه إلى رصيف22، إلى أنه "لا يجوز نشر مشاهد قاسية عن القتلى، فهناك حرمة للميت، بغض النظر عن الطريقة التي قضوا فيها، فهذا له علاقة بالحالة النفسية التي تتركها عند الناس، فبعض الوسائل الإعلامية تسعى إلى نشر الخبر من دون الوقوف على مشاعر الناس وكرامة الموتى، فلسنا بحاجة إلى أن نرى مشاهد مهولةً للضحايا لندرك حجم الكارثة، يجب أن نذهب بالصحافة إلى القضايا الإنسانية حتى لو كانت كارثيةً بطريقة نحافظ فيها على كرامة الضحايا".
أولوية لفت النظر
برغم كل الجدل الذي أُثير حول صحّة نشر مشاهد قاسية، دافع عدد من السوريين عن هذه الفكرة كونها السبيل الوحيد للفت النظر إلى بلدهم، وفي هذا السياق يقول أستاذ علم الاجتماع طلال عتريسي، لرصيف22: "تصوير المأساة على أنها فقط في تركيا كون حجم الدمار وعدد الضحايا أكبر من سوريا، وتالياً هي التي تحتاج إلى المساعدة أكثر من سوريا، ولذا تم توظيف الإعلام لخدمة قضية معيّنة، أبرز أهمية نشر الأخبار والصور عن سوريا للفت النظر إليها".
بعض الوسائل الإعلامية تسعى إلى نشر الخبر من دون الوقوف على مشاعر الناس، فلسنا بحاجة إلى أن نرى مشاهد مهولةً للضحايا لندرك حجم الكارثة، يجب أن نذهب بالصحافة إلى القضايا الإنسانية
وتختلف الآراء كثيراً في موضوع نشر الصور والفيديوهات من أماكن الكوارث، والتي تُظهر الأطفال أو الضحايا وغيرهم، وأيضاً في ما يخص مشاهد العنف، فبحسب عتريسي، "هناك رأي يقول إنه لا يجوز للأطفال أن يشاهدوا مشاهد العنف، لأن ذلك يؤثّر على سلوكهم وتالياً يصبحون عنيفين، والرأي الآخر كان يقول إن هذا جزء من الحياة ويجب أن يتعرّفوا عليه ويروه، وفي الكوارث ينطبق المبدأ نفسه، فهناك أطفال تحت الأنقاض ويجب على الناس أن ترى الذي يجري لتعرف ماذا يحصل، كما أن البعض رأى بعداً إيجابياً لما يحصل، كمشهد الطفلة التي تحتضن أخاها، أي البعد الإنساني للمشهد".
برأيه، فإن "موضوع نشر الصور خلال الأزمات والكوراث يعتمد على الحالة ويعتمد على طبيعة الصورة، إذ يجب أن تنتشر صور من سوريا لكي يعلم العالم حجم المأساة والكارثة، لكن عندما نصل إلى مشاهد الأشلاء والصور المؤذية هنا يجب أن نحترم مشاعر الناس ونحافظ على كرامة الضحايا، ولا نعرضها أمام الناس بشكل علني".
أبعد من صورة
لاحظ المتابعون كثرة الأخبار المغلوطة والمعلومات غير الدقيقة بعد حدوث الزلزال، فعبر العديد من الوسائل الإعلامية العربية والتركية، انتشرت نبوءات حول إمكانية حدوث زلازل جديدة في المنطقة، في تركيا وقبرص وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين، كذلك تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي أخباراً مزيّفةً نُسبَت إلى منظمات دوليّة كالصليب الأحمر ومراكز رسميّة كهيئة إدارة الكوارث الطبيعية في لبنان، تدعو المواطنين إلى الخروج من المنازل لاحتمال حدوث زلزال مدمّر.
وتحت حجة "الآثار السلبية لهذه الأخبار على المواطنين"، قامت تركيا بتعطيل منصّة تويتر قبل الاتفاق مع إدراتها على محاربة الأخبار الكاذبة. كذلك نشرت بعض المنصات فيديوهات قديمةً زعمت بأنها من سوريا وتركيا، كفيديو الطفل العالق تحت الركام والمنقذون يسعون إلى سحبه، وكأن ما حصل في هذين البلدين خلال الزلزال غير كافٍ لاستجرار المشاهدات، ليتبين لاحقاً أن تاريخ هذه المقاطع قديم، ويعود إلى بداية الحرب في سوريا.
انتشرت عبر العديد من الوسائل الإعلامية العربية والتركية، نبوءات حول إمكانية حدوث زلازل جديدة في المنطقة
تؤكّد زراقط أن هذا الأمر أخطر من نشر صور الضحايا، فنشر الأخبار المغلوطة لأسباب مختلفة، كتحريك المساعدات إلى منطقة دون أخرى، أو قيام القنوات التلفزيونية باستضافة أشخاص غير مختصين للحديث عن الزلازل والكوارث، يعد أخطر مما قد تظهره الكاميرا، فالكاميرا في النقل المباشر تنقل كل ما يظهر أمامها.
ما هو المطلوب؟
تعليقاً على مشهد الضحايا المعلّقين على حافة المنازل المهدمّة في سوريا، أو مشهد الأشلاء البشرية التي تناقلتها وسائل الإعلام، يحذّر أبو شقرا وسائل الإعلام من نشر هذه الصور، إذ تجب تغطية الأشلاء في أثناء عرضها بالموزاييك حفاظاً على مشاعر المشاهدين، كذلك تحذير الأهل من وجود مشاهد مؤذية للأطفال فلا يجب أن يشاهدوها، وربما هناك أشخاص كبار لا يستطيعون رؤية هكذا مشاهد.
وبعد انتشار المحللين الذين احتلوا الشاشات للتنبّؤ بحدوث زلازل محتملة في المنطقة، ينبّه أبو شقرا "من استضافة من يثير الهلع لدى الناس ويسمون أنفسهم خبراء، ويتنبؤون بوقوع الزلازل، والعلم حتى اليوم لم يثبت أن هذا الأمر ممكن، فلماذا إذاً هذا الكلام والتهويل والتخويف؟".
كذلك، انتشر فيديو لطفل تائه يبحث عن والديه، حاله كحال الكثيرين ممن فقدوا أو أضاعوا ذويهم خلال الكارثة، وتعليقاً على هذا الأمر، يحذّر مهنّا "من تصوير أطفال تائهين ويبحثون عن أهلهم خلال الكوارث، إذ لا يجوز تصويرهم بهذه الحالة أو أن يقدّم لهم الميكروفون للتحدث أمام الكاميرا، لأن ذلك يفتح المجال لاستغلالهم، فهناك منظّمات في الدول مهمّتها التعاطي مع الأطفال خلال الكوارث وتساعدهم على البحث عن أهلهم، إذ لا يجوز أن نفتح المجال لأشخاص يدّعون أنهم أقارب لهؤلاء الأطفال ويقومون باستغلالهم".
يمكن أن تقول إن الصبي لا يريد أن نصوّره بهذه الحالة، لكن هذه الصورة أعطت أملاً لملايين من الناس بأنه ممكن أن يخرج المزيد من الناس أحياء
وخرق خصوصيات الضحايا وأهاليهم يحضر عند كل أزمة أو كارثة أو حالة وفاة، فتهرع وسائل الإعلام إلى تصوير عائلات الضحايا، فتنقل لحظات البكاء والنحيب، ما يعدّ هتكاً لخصوصية المأتم. وترى زراقط أنه يجوز للصحافي الدخول إلى العزاء ونقل وقائعه، إلا أنه من غير الجائز كسر حرمة العزاء وتصوير دموع الأم والحالة التي يكون عليها أهل الفقيد.
وتقول: "أكثر شيء يعلق في ذهنك عندما تشاهد عمليات الإنقاذ، هي صور الناس التي تخرج حيّةً من تحت الأنقاض، أو الناس الذين يحملون طفلاً أخرجوه حيّاً وهو يضحك، يمكن أن تقول إن الصبي لا يريد أن نصوّره بهذه الحالة، لكن هذه الصورة أعطت أملاً لملايين من الناس بأنه ممكن أن يخرج المزيد من الناس أحياء من تحت الركام".
لا شك أن دور الإعلام مهم وسامٍ، خصوصاً عندما تحل الكوارث في العالم، إلا أن ذلك يعدّ سيفاً ذا حدّين، فنقل الحقيقة والصورة يستلزم مراعاة مشاعر المشاهدين وفي الوقت نفسه عدم الدوس على كرامة الضحايا تحت مسمى سكوب إعلامي وغيره، فكرامة الإنسان تبقى الأسمى، وفوق كل اعتبار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع