شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
مات أهلها

مات أهلها "لأن لا أحد أنقذهم"... "يوم القيامة" في جنديرس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والفئات المهمشة

السبت 11 فبراير 202302:20 م
Read in English:

Everyone died “because no one came to their rescue”: The apocalypse of Jindires

"حتى صوت الأنين انطفأ. ذلك الصوت الذي تحوّل من مصدر للألم والحزن، إلى سمفونية البقاء على قيد الحياة، ذهب مع تراخي الحكومات والمجتمع الدولي العاهر، الذين كانوا يقولون إنهم أصدقاء السوريين، والذين أشبعونا حديثاً ولم نجد لهم فعلاً"؛ بهذه الكلمات يبدأ خالد العفريني (44 عاماً)، حديثه إلى رصيف22، حول كارثة الزلزال التي أنهت الحياة في جندريس.

كان خالد مستيقظاً في تلك الليلة، يعمل على إنجاز بعض الورقيات حين شعر بالأرض تهتز من حوله. لم يُفكر كثيراً، أصوات بكاء أطفاله كانت كفيلةً في أن يسرع إليهم وإلى وزوجته للهرب إلى الخارج. يقول: "كُل شيءٍ انتهى، ما جنيته طوال حياتي ذهب أدراج الرياح، أنا الآن في خيمة مع بعض الرجال في بساتين الزيتون، والنساء مع أطفالهن في الخيم المجاورة".

بعد الزلزال والهرب والاطمئنان إلى عائلته، عاد خالد إلى المدينة، ليشاهد هول الدمار في ساعات الصباح الأولى. تجوّل بين الركام فلا شيء هناك إلا وتضرر. ما رآه في الصباح لا يُشبه ما عاشه في لحظات الهروب. "جندريس الآن تُشبه يوم القيامة"، والكلام له.

وينقل خالد على لسان رجل ستيني من المدينة التقى به أمس، ويدعى إبراهيم خليل، أنه "الناجي الوحيد من أسرة كانت إلى ما قبل الزلزال بثوانٍ مؤلفةً من 7 أفراد، كُلّهم رحلوا واستراحوا وأنا وحدي الذي أعيش الحزن والألم، هم الناجون وأنا العالق بقرف هذه الحياة".

وتقع جنديرس على بُعد 80 كم من مدينة حلب من الجهة الشمالية الغربية، عند النهاية الجنوبية من سلسلة جبل الأكراد في سهل خصب على الضفة الشمالية من نهر عفرين، وهي تابعة لمنطقة عفرين التي يغلب عليها المكوّن الكردي، وتعرضت المدينة لدمار هائل بفعل الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في 6 شباط/ فبراير الجاري.

قال الدفاع المدني إن عدد الوفيات تجاوز 513 شخصاً، وتعرضت المدينة للحصيلة الأكبر في عدد المباني المدمّرة

وقال الدفاع المدني السوري في مؤتمر صحافي أمس الجمعة، إن عدد الوفيات تجاوز 513 شخصاً، وتعرضت المدينة للحصيلة الأكبر في عدد المباني المدمّرة بواقع 200 مبنى مدمّر بشكل كامل و500 مبنى بشكل جزئي.

لا وصف للكارثة

لا يجد مصطفى خالد، أبو سيزر (62 عاماً)، مصطلحات تفي الكارثة حقها، في غضون ثوانٍ وجد نفسه في الشارع وأبناؤه في حضنه. يقول: "والله لا أّذكر أنني نزلت الدرج، جنديرس منكوبة عن بكرة أبيها. تجمّع الأهالي حتى الثامنة صباحاً، نساءً ورجالاً وأطفالاً، حيث البرد والخراب والأتربة التي تحولت إلى طينٍ على وجوهنا بسبب المطر، أكثر من 90% من الشقق ذات الطوابق المتعددة هُدمت، الناس بدأت حينها بالنبش والبحث عن أقاربهم حيث لا آليات ثقيلةً ولا فرق إنقاذ خارجية، وحدها فرق الدفاع المدني كانت تعمل، لكن لا يمكن أن تتحول الأيادي إلى أجهزة تفتيت الحجارة الضخمة، أهالي جندريس ماتوا لأن لا أحد أنقذهم أو منح تلك الفرق ما يتطلبه العمل".

أما نادية علي (33 عاماً)، فتروي كيف فقدت شقيقتها النطق بسبب الصدمة، وهي لا تعلم إن كانت ستقدر على أن تتكلّم مجدداً، وتقول: "من لم يُفقَد في الزلزال، نخشى أن يُفقَد من الجوع والبرد والخوف، لم نجد أي منظمة قدّمت الدعم، جميع المسنين بحاجة إلى أدوية للقلب والضغط، الأطفال من دون حفاضات، نعيش كالحيوانات في البرية، عائلة خالي بأكملها تحت الأنقاض، أما عمي فعثرنا على زوجته وحدها بين الناجين ولا معلومات عن البقية".

وتضيف: "من لم يمت بالزلزال سيموت من نقص الأدوية، بعض الأطفال أصيبوا بالتبول اللا إرادي نتيجة الخوف، عدا عن الأمراض النفسية والكوابيس التي تلاحق غالبية الناجين، أو من أُخرجوا من تحت الأنقاض، ومن قام بعمليات الإنقاذ".

أنا الناجي الوحيد من أسرة كانت إلى ما قبل الزلزال بثوانٍ مؤلفةً من 7 أفراد، كُلّهم رحلوا واستراحوا وأنا وحدي الذي أعيش الحزن والألم، هم الناجون وأنا العالق بقرف هذه الحياة

تروي الثلاثينية أن الأطفال يسألون أسئلةً من قبيل: "لماذا لم ينقذنا الله؟" و"أين أبي الذي قال إنه سيكون معي في كل المصائب؟"، أمّا "أكثر تلك الأسئلة وجعاً حين سأل أحد الأطفال والده، هل ستتزوج لأن أمي ماتت؟ أرغب في أن أعيش إلى جانب أمي في قبرها".

جنديرس عبر التاريخ

ويروي الكاتب والباحث الكردي مروان بركات، النازح من جنديرس، أن "المدينة تقع بين أهم موقعين أثريين في المنطقة، وهما أنطاكية من الجهة الجنوبية الغربية، ومدينة سيروس (نبي هوري حالياً)، من الجهة الشمالية الشرقية. أما في الجهة الجنوبية الشرقية والشرقية لحدود جنديرس فتوجد العشرات من المواقع الأثرية المهمة مثل قلعة سمعان وموقع تل عين دارا، ومن الجهة الجنوبية الشرقية تشمخ قمة جبل شيخ بركات، فيما يقع كهف دودرية إلى الجنوب الشرقي من المدينة ولعلّه من أهم الأماكن التي استوطن فيها الإنسان النياندرتالي في سوريا، قبل أكثر من مئة ألف عام".

ويذكر الباحث أن "تقارير بعثة التنقيب في موقع جنديرس، تؤكد أنها كانت في أوج ازدهارها خلال الفترة الرومانية، وما يؤكد هذه النظرية خلال العصر الروماني الأوسط، هو كنز النقود الفضية وأواني الطبخ الفاخرة التي تم العثور عليها في الموقع، كذلك، اللقى الزجاجية المتطورة الصنع والتي تعود إلى العصر الروماني".

وكانت المدينة تقوم بوظيفة زراعية كزراعة الحبوب، وذلك للمشاركة في التموين وتزويد أنطاكية بهذه المادة الأساسية، لأن أراضيها السهلية الفسيحة والخصبة كانت ملائمةً بشكل جيد لزراعة الحبوب، وإلى جانب الحبوب كانت الزراعة تشمل العنب وبعض أنواع الفواكه.

كانت جنديرس في أوج ازدهارها خلال الفترة الرومانية، وما يؤكد ذلك، كنز النقود الفضية وأواني الطبخ الفاخرة التي عثر عليها

جنديرس اليوم

تغيرت التركيبة السكانية للمنطقة كثيراً خلال سنوات الحرب، "فبعد أن كانت الغالبية العظمى من سكانها من الكرد، شهدت تغيراً ديمغرافياً كبيراً خاصةً إبان العملية العسكرية التي عُرفت بغصن الزيتون واستقرت فيها أعداد كبيرة من النازحين والفصائل العسكرية".

من يزور المدينة يكتشف أن "ملامحها تغيرت بالكامل؛ هُدمت مبانيها، قُتل سكانها، شوارعها وشواخصها وأحياؤها وأسواقها ومعالمها وطرقاتها كلها تغيرت ولم يعد لغالبيتها أثر، وقبل هذا وذلك، دُفنت ذكريات المنطقة مع مَن دفنوا فيها.

يروي محمد حجو (65 عاماً)، والذي قضى عمره كلّه في المدينة: "جنديرس أصبحت أثراً بعد عين، ليس لها وجود، الشوارع الرئيسية، المطاعم والمحال، الحدائق والمدارس، إما تهدمت بفعل الزلزال أو تغيرت ملامحها، أو بحاجة إلى طرق جديدة للوصول إليها، كل شيء متغير، البلدة مكتسية الخراب والدمار والدماء، البنايات تحولت إلى ركام لا كهرباء ولا ماء ولا إنترنت، ومن لجأ إلى الخيم، ليس أقل تعاسةً ممن لم يستطع الحصول على واحدة".

يضيف: "لم أعد أعرف أي الطرق تذهب إلى أين؟ كلها، وأنا الحافظ لطرقات وأزقة البلدة عن ظهر قلب، لا أعرف كيف أصل إلى المراكز الأثرية أو المعابد؟ أين الشقق والبيوت التي كانت موجودةً قبل الزلزال؟ أصدقاء طفولتي غالبيتهم رحلوا، ذهبت كل الذكريات، لا شريك للذاكرة ولا أماكن تعيد إليّ وإلينّا كُلنا كأهل جندريس، ماضينا وتاريخنا، المدينة أزيلت من الوجود، وتحتاج إلى إعادة إعمار، فمن سيعمّرها لنا؟".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image