شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
يوم

يوم "انضبَّت" سوريا في البيت... كأيّ ولدٍ شاطر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن وحرية التعبير

الاثنين 13 فبراير 202302:21 م

زلزال فجر السادس من شباط/ فبراير الجاري في سوريا وتركيا، أعاد إلى ذهني حدثين مرّا على السوريين قبل أكثر من عقدين، انطوى كلٌ منهما على دلالته الخاصة والعامة، بما فيها -وربما أهمها- طبيعة العلاقة بين السوريين وحكومتهم. حدثان بفارق أيام، مختلفان شكلاً، متفقان في الجوهر.

يومها كان إنترنت "ديال أب"، متوفراً لدى قلة نادرة من السوريين، وسرعته كافية لتنقر الرابط ثم تذهب إلى السوق للتبضع ريثما يتم تحميل الصفحة، ولم تكن هناك اتصالات خلوية وأجهزة ذكية، حتى صحون الاستقبال الفضائي لم تتوفر في كل البيوت، وكذلك الهاتف الأرضي، أي أن التلفزيون الرسمي بقناتيه الأولى والثانية مع الإذاعة، كانوا المصدر شبه الوحيد للمعلومات المتعلقة بالبلد وأحواله وأخباره العاجلة، مع صحيفة ورقية واحدة بائسة تصدر بثلاثة أسماء، لثلاث مؤسسات إعلامية كما يُفترض.

العتمة أنسب

الحدث الأول كان الكسوف الشمسي الكامل الذي شهدته بعض المناطق السورية، نهار يوم 11 آب/ أغسطس 1999، وقد كان لافتاً أن يتم الإعلان عن وصول وفدٍ علمي أمريكي إلى منطقة "عين ديوار" في أقصى الشمال الشرقي من سوريا، بصحبة معداتهم لرصد الشمس في حالة الكسوف الكلي، فذاك المكان كان الأنسب لهم لأسبابٍ علمية، ومن بين أعضاء الوفد عالمةٌ من أصولٍ سورية. الفخرُ فخران إذاً... فخر بأرضنا الأنسب للوفد العلمي، وفخر بدور السوريين في النهضة العلمية حتى في الولايات المتحدة!

في 23 آب/ أغسطس 1999، طرق أحدهم أبواب بيوت حارتنا بعد منتصف الليل، ليوقظنا ويخبرنا بأن هناك زلزالاً على وشك الحدوث، وعلى الجميع مغادرة البيوت، طيب ومن أخبرك بذلك؟ اتصلوا بنا من اللاذقية

خبر الكسوف وموعده الدقيق كان معروفاً بطبيعة الحال للجميع، والمنابر الرسمية بدأت بالحديث عن الأمر قبل أسبوع على الأقل، وبشكل خاص التلفزيون. مذيعون وتقارير وإرشادات، مقالات صحافية وندوات ولقاءات مع مختصين كان بعضهم في الجمعية الفلكية السورية؛ كل هذا يبدو طبيعياً ومتوقعاً من إعلام أي دولة أو حتى شبه دولة، لكن ما لم يكن طبيعياً كمية التحذيرات التي تحملها هذه الحملة الإعلامية؛ التحذير من النظر إلى الشمس في حالة الكسوف وحتمية الإصابة بالعمى لمن يفعل ذلك، والتحذير من التعرض المباشر للشمس وخطر الأشعة فوق البنفسجية وتحت الحمراء وجوار البنفسجية التي ستبخّر دماغَ من يتهور، والتحذير من دخول الشمس إلى البيوت لأنها قد تؤذي صحة الأطفال. كما أعلنت عطلةً رسميةً!

وحين كان سائر البشر على سطح المعمورة يستعدون للحدث الفلكي الجميل بشرائح الزجاج والبلاستيك المعتمة، للنظر إلى قرص الشمس، وبما يلزم للتخييم في الهواء الطلق، صدّق أغلبنا نصائحَ الإعلام الرسمي والحكومة، والرعب دفع الخائفين لاتخاذ ما يمكن من احتياطات، فعمدت ربّات البيوت إلى إغلاق النوافذ وإسدال الستائر السميكة إن وُجدت أو تثبيت البطانيات عليها لكيلا يتسرب ولو مقدار ضئيل من أشعة الشمس، ومن يجرؤ على الاقتراب من النافذة يصرخ به أهلُه محذرين، ولم يكن ينقص إلا أن يقفلوا الأبواب من الداخل ويسندوها بخزانة أو طاولة، فما الذي يمنع الشمس المكسوفة المتهورة من أن تقتحم البيوت بلا استئذان، لتؤذي صحة المواطن السوري لصالح المشاريع الإمبريالية في المنطقة؟

يومها كان ممتعاً أن أجلس تحت شجرة اللوز أمام بيتي، وأشاهد ما حولي بالضوء الشاحب الغريب.

في انتظار زلزال لم يأتِ

بعد ذلك باثني عشر يوماً فقط، أي في 23 آب/ أغسطس 1999، طرق أحدهم أبواب بيوت حارتنا بعد منتصف الليل، ليوقظنا ويخبرنا بأن هناك زلزالاً على وشك الحدوث، وعلى الجميع مغادرة البيوت، طيب ومن أخبرك بذلك؟

اتصلوا بنا من اللاذقية! أجاب.

من يملك حينها وسيلةً للتحقق من الأمر؟ لا أحد. من يقنع الناس المتجمعين في الساحات بأن الخبر غير منطقي؟ لا أحد. طيب، من سيخطر بباله أن يفتح الراديو أو التلفزيون الرسمي ليتأكد؟ أيضاً لا أحد، فهم غير معتادين على رعاية الحكومة لهم ليلاً ونهاراً! ولم يثقوا بأنها ستتدخل بأي وسيلة لتأكيد الخبر أو نفيه، ودعوة الناس إلى العودة إلى بيوتهم وإكمال نومهم وأحلامهم. من حسن حظهم أن الجو صيفي، فقد أكملوا ليلتهم في العراء تحوطاً من الزلزال، حتى لو كان الأمر كاذباً، فلا بأس.

المؤكد الوحيد هو أن السوريين ولعقود طويلة يعيشون علاقةً شوهاء مع حكومتهم، فيها تركيبة فريدة من الخوف والطاعة، ونظامُنا... المغرم بـ"النظام المنضم"، يطيب له بين الحين والآخر أن يقول للسوريين: "انتبييييه.... استااااعد...... استااااارح"

لم أقتنع بسبب يباسة رأسي، وبقيت في البيت في حين خرجت زوجتي مع طفلينا لتقضي ما تبقى من الليل تحت شجرة اللوز نفسها التي جلستُ تحتها نهار الكسوف.

بديهي أنه لم يصدر أي تعليق على الموضوع من أي جهة رسمية في الأيام التالية، واكتشفنا أن العديد من المناطق السورية عاشت قصة انتظار الزلزال الذي لم يأتِ.

بفارق أيام فقط، عشنا موقفين مختلفين. في الأول قالت الحكومة لنا: "انضبّوا في بيوتكم"... فأطَعْنا، إذ لا يُعقل أن نفهم في العلوم الشمسية والفلكية أكثر من الحكومة، وهي أدرى بمصلحتنا، وهي المصدر الوحيد لمعرفتنا وعلومنا وثقافتنا. وفي الموقف الثاني غابت الحكومة كلياً ليفعل منطق الشائعات فعله في الجموع التي وصلتها الشائعة، ونمنا في الشوارع والساحات.

استعادة الحدثين الآن، بسبب الأخبار المتواترة عن الفشل والتخبط في مؤسسات الدولة في التعامل مع كارثة زلزال 6 شباط/ فبراير الأخيرة، والعجز عن تلبية الاحتياجات، والتأخر في اكتشاف حجم الكارثة وأضرارها والإعلان عنها، وبدء استثمار الحدث سياسياً، والحديث عن حالات سرقة مواد الإغاثة وتأخير وصولها بإجراءاتٍ روتينية قاتلة، فكل شيءٍ هنا يجب أن يمر من فلتر الجهات الأمنية.

هل استغلوا يوم الكسوف لاختبار مقدار انصياعنا؟ وإلى أي حدٍ نسمع الكلمة كتلاميذ المدارس؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه حماقةً إعلاميةً تضخمت فأخافتنا؟ هل صدرت شائعة الزلزال من "شلّة سكرجية"، بقصد المزاح، فسرت كالنار في الهشيم؟ أم كان خلفها شخصٌ ما أو جهة ما لتمرير أمرٍ ما؟

لا أجوبة مؤكدةً على هذه الأسئلة، والمؤكد الوحيد هو أن السوريين ولعقود طويلة يعيشون علاقةً شوهاء مع حكومتهم، فيها تركيبة فريدة من فقدان الثقة والخوف والطاعة، وانتظار الأوامر والتعليمات أو عدم انتظارها، ومن ترجّي المكرمات منها، ونظامُنا... المغرم بـ"النظام المنضم"، يطيب له بين الحين والآخر أن يقول للسوريين: "انتبييييه.... استااااعد...... استااااارح".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

معيارنا الوحيد: الحقيقة

الاحتكام إلى المنطق الرجعيّ أو "الآمن"، هو جلّ ما تُريده وسائل الإعلام التقليدية. فمصلحتها تكمن في "لململة الفضيحة"، لتحصين قوى الأمر الواقع. هذا يُنافي الهدف الجوهريّ للصحافة والإعلام في تزويد الناس بالحقائق لاتخاذ القرارات والمواقف الصحيحة.

وهنا يأتي دورنا في أن نولّد أفكاراً خلّاقةً ونقديّةً ووجهات نظرٍ متباينةً، تُمهّد لبناء مجتمعٍ تكون فيه الحقيقة المعيار الوحيد.

Website by WhiteBeard
Popup Image