بكعوب مدببة وعالية هذه المرة، يثير المسلسل المستورد إعجاباً لدى فريق من المشاهدين، وامتعاضاً لدى فريق آخر، ولكل أسبابه ومرجعياته، والاختلاف يصبح مقبولاً أكثر إذا ارتبط بالبعد الثقافي أو الأخلاقي، الذي يتحكم بالسلوك العاطفي أو الاجتماعي تجاه الأشياء.
هذه المقدمة وإن بدت بعيدة عن الموضوع، إلا أنها في الحقيقة جوهر مسلسل "ستيلتو" الذي يعرض حالياً علىMBC والمنصات التابعة لها، وهو مسلسل مأخوذ عن المسلسل التركي "ufaktefekcinayetler" أي "جرائم صغيرة"، المقتبس أصلاً عن المسلسل الأميركي "Big Little Lies" أي "أكاذيب كبيرة صغيرة"، والمأخوذ بدوره عن رواية بالعنوان نفسه للكاتبة الأسترالية ليان موريارتي.
في كل نسخة تَسَمَّى المسلسلُ بِسِماتٍ جديدة، قربته من واقع اللغة التي ينطق بها أبطاله، وتغيرت بعض التفاصيل في مسار أحداثه خدمة لمسائل إنتاجية. لم ينتهِ المسلسل حتى لحظة كتابة هذا المقال، فلا يمكن الحكم عليه بشكل قاطع، لكن يمكن تسجيل ملاحظات إيجاباً أو سلباً من خلال نظرة من الأعلى على "الكومباوند" الذي تجري الأحداث داخله.
بساطة الحبكة
يتعرض المسلسل لمسألة النفاق الاجتماعي الذي يغطي حقداً يتطور في منعطفات عدة ليصبح جريمة، وهذا هو السبب وراء عنوان موريارتي "أكاذيب كبيرة صغيرة" فكأنها توطّئ للعمل بخلاصة: الأشياء الصغيرة قد تتسب في مسائل كبيرة.
بعدها وضّحت السيناريست التركية ميرتش أجيمي الأمر أكثر، فمنحت مسلسلها عنوانا أكثر شدة في الحكم، فقالت إن هذه الأشياء الصغيرة جرائم، أما لبنى مشلح ومي حايك في النسخة العربية فاختارتا كلمة إسبانية تعني الخنجر، وتستخدم أحياناً في وصف الكعب العالي المدبب، في إشارة إلى جرائم النساء الصغيرة، ولعل هذا العنوان الأخير، على غرابته، هو الأكثر توصيفاً وتكثيفاً، إذ استطاع أن يختزل الحبكة في كلمة واحدة.
المسلسل مأخوذ عن المسلسل التركي "جرائم صغيرة"، المقتبس أصلاً عن المسلسل الأميركي "أكاذيب كبيرة صغيرة"، والمأخوذ بدوره عن رواية بالعنوان نفسه للكاتبة الأسترالية ليان موريارتي
باختصار القصة بسيطة جدا، أربع صديقات بشخصيات متفاوتة في الميل إلى الشر، يدرسن في مدرسة واحدة، ثم تقع واقعة ما تفرقهن، قبل أن يلتقين مجدداً ويسكنّ في مجمع سكني واحد "دريم هيلز كومباوند"، ويبدأن انتقامات تنسل من الواقعة زمنَ المدرسة. فما الذي يمكن أن يكون ملفتاً في قصة بهذه البساطة تم تمديدها على 45 حلقة مدة الحلقة أكثر من ساعتين في النسخة التركية، ما يعني أن النسخة العربية قد تقترب من 100 حلقة؟
صنعة الإمتاع
هذا السؤال على بساطته، يقودنا إلى سؤال أكبر، وهو لماذا تنجح المسلسلات التركية بينما يبنى معظمها على قصص بهذه البساطة؟ الحقيقة الواضحة حتى الآن أن لدى الأتراك اقتراحاً جديداً في الدراما، يقوم على اهتمام عميق بالتفاصيل على نحو غير ممل، فثمة إمتاع في كل شيء، إمتاع في النص من خلال التشويق المدروس، والتأطير الخيالي الذي يمنح مبرراً لرواية القصص، لنقل إنها فانتازيا قريبة جداً من الواقعي لكنها لا تتحول إلى واقع، أو لم تتحول من قبل على الأقل، هذه الخلطة السحرية، أوصلت المشاهد إلى منطقة التبرير، فأصبح يبرر مبالغات السيناريو ليدافع عن مساحته في المتعة، من خلال سرد القصة على نحو متفوق وجذاب.
يبدو أن استيراد المسلسلات من تركيا، مثل "ستيلتو" و"عروس بيروت" و"على الحلوة والمرة"، أحدث ما يشبه العدوى، فأصبح السيناريست في النسخة العربية يستخدم المعايير التركية في البناء
ويبدو أن استيراد المسلسلات من تركيا، مثل "ستيلتو" و"عروس بيروت" و"على الحلوة والمرة"، أحدث ما يشبه العدوى، فأصبح السيناريست في النسخة العربية يستخدم المعايير التركية في البناء، هكذا توصل إلى نص أكثر إمتاعاً برغم كثافة التفاصيل وطول العمل بالنسبة إليه ولمشاهده العربي أيضاً.
الصورة النظيفة
يمتد الإمتاع التركي عادة إلى الصورة، جودة متقدمة، وضبط ألوان قريب من ذلك المستخدم في كليبات الأغاني، من شأنه أن يخفي عيوباً كثيرة في الحركة واللقطة، وفي زوايا التصوير أحياناً، أو في تعابير الوجوه، ما يخلّص العمل من مثالب محتملة كثيرة، فضلاً عن الاهتمام باللوكيشن وكادر التصوير، على نحو فيه إفراط في الأناقة.
وبما أن مخرج العمل تركي وهو إندير أمير، فقد أولى ذلك اهتماماً كبيراً، انعكس على ملابس الأبطال، وعلى بيوتهم وسياراتهم وأماكن عملهم وسهرهم ووجودهم، خدمه في ذلك أن القصة تدور في واحدة من أعلى طبقات المجتمع الاقتصادية، ما أتاح له أن يشطح كما يشاء، فاختار أن يصور العمل في إسطنبول، لكنه ادعى وفق الأحداث أن القصة تجري في لبنان، الفارق الكبير في المشهدية الداخلية لمؤسسات الدولتين لم تلعب دوراً إيجابياً في إقناع المشاهد بهذا الادعاء المكاني، فكلنا يعرف بؤس السجون والمراكز الأمنية العربية مثلاً، لكن المسلسل يعرضها على نحو يدعو إلى الارتياح.
أما الطبيعة فقد خدمت العمل إذ تتواطأ البيئتان اللبنانية والتركية من حيث المشهد والتضاريس في أماكن كثيرة.
شهود الغيب
يبدأ المسلسل بجريمة، وتنتقل الكاميرا إلى مكتب تحقيق يديره شاب وفتاة، الشاب برتبة أعلى، ويجلس الشهود ويبدأون سرد القصة من خلال شهاداتهم، وهذه فكرة مذهلة، تتقاطع مع قالب الأصوات في الرواية، وهو قالب لم يعد جديداً في التقنيات السردية بالنسبة إلى الرواية، لكن نقله إلى الكتابة للشاشة بهذه الطريقة يبدو جميلاً.
بيد أن هؤلاء الشهود أحدثوا خرقا للطبيعة، فإذ يلعبون دور الرواة، يجب إخضاعهم لأسلوب من الأساليب التي لا يمكن إضافة أسلوب جديد إليها: فإما أن يكون الراوي"First Person" أو راوياً عليماً بالتعبير العربي، وهو الذي يسرد القصة من الخارج كروائي لا كأحد الأبطال، ويتاح له أن يصف الحدث والمشاعر، أي ما يدور داخل البطل من نوايا وحدوس وأفكار، أو أن يكون "Second Person" وهنا يجب أن يخاطب القارئ أو المُشاهد، كما يفعل الأستاذ خالد في بعض التوطئات التي تأتي على شكل تعليق صوتي، على مشاهد أخرى فيها نصائح وعبر، في المسلسل نفسه، أو أن يكون الراوي "Third Person" وهذا يعني أن يكون الراوي أحد الأبطال كشرط، ولكن لا يسمح له أن يروي هواجس الآخرين، فهو ليس مطلعاً على الغيب بطبيعة الحال، باستثناء شهود مسلسل "ستيلتو"، إذ منحوا على نحو غريب حق الجلوس أمام المحقق وسرد نوايا الآخرين، ومشاعرهم التي لا تعلمها سوى المشيئة.
اختار المخرج أن يصور العمل في إسطنبول، لكنه ادعى وفق الأحداث أن القصة تجري في لبنان، الفارق الكبير في المشهدية الداخلية لمؤسسات الدولتين لم تلعب دوراً إيجابياً في إقناع المشاهد بهذا الادعاء المكاني، فكلنا يعرف بؤس السجون والمراكز الأمنية العربية
وكمكافئ سردي بدا المحققان ليّنَينِ إلى حد تتخيل معه بسهولة كمشاهد أنك إزاء جلسة أصدقاء في مقهى أو حانة، يأخذهم الملل إلى سرد قصص الآخرين بأدق التفاصيل، التي لا يهم معظمُها المحققين، ولا يخدم مسار التحقيق بأية أنملة. لكن الأمر مع ذلك –وللحق- حافظ على شرط الإمتاع.
الفريق المتضافر
بطولة العمل أوكلت إلى كل من قيس الشيخ نجيب وكاريس بشار وديمة قندلفت وسامر المصري، وبديع أبو شقرا وندى أبو فرحات وريتا حرب وكارلوس عازار، وأمل طالب، ومن ترف القول التحدث عن أداء الممثلين في عمل كهذا كل على حدة، فالانسجام البيّن في الأداء، والسوية الواحدة التي يعمل الجميع عليها، تستحق التصفيق.
أفلح قائد العمل في اختيار فريقه، فمن سوريا مثلا تم انتقاء نجوم المشهد الدرامي ذوي القدرات المتعددة الذين أمتعوا المُشاهد على مر سنوات، حتى بنى معهم علاقات شخصية دقيقة من وراء الشاشة، بالإضافة إلى نجوم الجيل الجديد مثل نور علي، ومن لبنان تم انتخاب مجموعة متفاوتة في الرصيد، لكنها تشترك في الطاقة الإبداعية العالية.
يدرب الأتراك عادة ممثليهم قبل العمل على أداء الشخصية التي في رأس السيناريست أو المخرج، لتبدو بعيدة تماماً عن مجمل أدوار الممثل، ويبدو أن إندير عمد إلى ذلك في ستيلتو، فثلة من نجومنا الذين نعرفهم جيداً، تم تنكيرهم علينا حتى لم نعرفهم للوهلة الأولى، ولا أقصد هنا التنكير شكلاً إنما أداءً وحسًّا. ويجب الالتفات أيضاً إلى أداء الشخصيات الثانوية، فلم نلحظ مثلا أي مؤدٍ -وإن كان مجرد كومبارس- يشد الأداء إلى الأسفل، حتى الأطفال تم الاجتهاد على أدائهم حتى بدا طبيعياً ومنسجماً كل الانسجام مع عمل الكبار.
حقن المَشاهد بالفيلر
مع كل ذلك، تبقى الزاوية التي يتلقى منها المشاهدُ العملَ جدليةً، فإن كنا اعتدنا مثلا على الواقعية في المسلسل السوري، أو حتى اللبناني، تلك الواقعية التي تظهر المؤسسات والشوارع والناس على شاكلتها الحقيقية، حتى بلغنا الملل من الواقع والدراما، فيمكن القول إن "ستيلتو" يأخذنا إلى مستوى آخر بعيداً عن رتابة الأعمال الواقعية، أما إن كنا نتلقى العمل من أجل إذكاء المشاعر، فقد لا يبدو العمل لامساً للوجدان مع كل هذا "الفيلر" الإبداعي، الذي ضخّم المَشاهد عبر حشوها بتفاصيل وامتيازات تنحصر في طبقة محددة قد لا تجدها أصلاً في بعض الدول العربية.
بعد أن كان يمكن أن يلتقي "كريم" بـ"ألما" في مقهى ما في دمشق، ويستسلما لصوت فيروز أو صباح فخري، أصبحا في المسلسل يلتقيان في مسبح الكومباوند
فمثلا بعد أن كان يمكن أن يلتقي "كريم" بـ"ألما" في مقهى ما في دمشق، ويستسلما لصوت فيروز أو صباح فخري، أصبحا في المسلسل يلتقيان في مسبح الكومباوند، ويعبران عن مشاعرهما أمام بحيرة يضمها الكومباوند أيضاً، ويجلسان إلى مقعد في حديقة أشبه بغابة، ويجولان شوارع أكثر أناقة من شوارعنا ويسمعان أغنيات أوروبية كلاسيكية، هذا التضخيم الجميل على مستوى الصورة، وعلى مستوى الأداء أيضاً، قد يلوي ذراع الإحساس بالمشهد، ويجعله ضرباً من ضروب الاستيراد، ولكنه حقٌّ إبداعي مشروع، فحتى أن ينام البطل ويستيقظ ليجد نفسه على كوكب المريخ، حقٌّ إبداعي في أفلام الخيال العلمي، فلماذا نلوم فريق ستيلتو على هذه الشطحات التي جاءت ممتعة في آخر الأمر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...