في عام 2012، قرر باسم عيد (43 عاماً)، من ريف دمشق، وهو يعمل في النجارة، أن يترك موطنه بعد أن رأى أفراد عائلته يتساقطون الواحد تلو الآخر، بالمدفعية والبراميل المتفجرة التي كانت تطال حتى المنازل المحيطة بمنزله.
قبل هذا القرار، كان باسم، المتوقف عن العمل بفعل الحرب الدائرة، يبيع ما يملك من أرض وممتلكات لكي يأكل هو وأفراد أسرته، إلى أن استسلم، وباع منزله ومصوغات زوجته وفرّ معها ومع أطفاله الثلاثة إلى مدينة دمياط الجديدة، شمال مصر، باحثاً عن حياة جديدة، أو بالحد الأدنى عن فرصة للحياة.
في دمياط الجديدة، استأجر باسم شقةً تأويه وعائلته، ثم بدأ رحلة البحث عن عمل، فعمل نجاراً في عدد من مصانع الأثاث المصرية في المدينة، وتعرف على السوق الدمياطي من قرب، ثم عمل بعد ذلك سائق سيارة نقل، قبل أن يقوم بافتتاح ورشته في قرية السنانية الواقعة على حدود مدينة دمياط الجديدة، كون الإيجار هناك أقل منه داخل المدينة، وتخصص في نجارة الأثاث "المودرن" منذ 2014.
يقول باسم الذي يمتلك خبرةً مهنيةً تمتد تتجاوز الـ25 سنةً في مجال نجارة الأثاث التي تعلّمها على يد والده، لرصيف22: "الفروق بسيطة للغاية بين تكنيك صناعة الأثاث في سوريا ومصر، ولا تتخطى الـ10%".
نجح في عمله، إذ نقل ما يُتقنه من صناعة الأثاث المودرن التي يتقنها السوريون كما يقول، وأضاف إليها الصناعة الكلاسيكية و"الإستيل" التي تعلّم فنونها من زملائه المصريين.
ويضيف: "التوسع في استخدام الماكينة في مصر أضاف إليّ وساعدني في إنجاز عملي بشكل أفضل وأسرع، فالطقم الذي كان يُنجَز خلال 3 أيام في سوريا، أُنجزه خلال يوم واحد في مصر من خلال استخدام ماكينات الحفر على الخشب CNC، مستعيناً بعمّال مصريين وسوريين في الورشة".
يُتقن السوريون صناعة الأثاث المودرن، فيما يتخصص المصريون أكثر في الصناعة الكلاسيكية و"الإستيل"
يرى باسم أن الإنتاج في مصر أكبر بكثير من سوريا وأكثر تنوعاً، وهو لا ينسى ما تعلمه من زملائه المصريين كطريقة لفّ الخشب في التصنيع والأساليب الجديدة في الطلاء، بينما تعلم منه زملاؤه المصريون طريقة التنجيد السورية.
ماذا عن التنافس؟ يقول: "التنافس بين العمالة المصرية والسورية موجود طبعاً، إلا أن كلاً منهما تخصص في تصنيع شيء مختلف، فالصنّاع السوريون تميزوا بالموبيليا المودرن وأدخلوها إلى السوق الدمياطي برغم عدم انتشارها في مصر من قبل، إذ كان السوق المصري يشتهر بالأثاث الكلاسيك والإستيل، ومع دخول السوريين صناعة الموبيليا في مصر، تعلم بعضهم الموديلات المصرية، سواء في النجارة والتنجيد أو الدهانات، ليواكبوا طلبات زبائنهم المصريين".
وتُعدّ دمياط أكبر مدينة مصرية في تصنيع الأثاث، وبحسب دراسة أعدّها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2020، حول صناعة الأثاث في مصر خلال الفترة ما بين عامي 2008 و2019، تبيّن أن سوق الأثاث في دمياط، يوفر أكثر من 40 ألف فرصة عمل مباشرة لأبناء المحافظة والتي يمثل إنتاجها نحو 70% من حجم صادرات الأثاث على مستوى مصر، إلى جانب توفير نحو 200 ألف فرصة عمل مؤقتة خلال مرحلة الإنشاء.
"أخوة مش بيزنس"
لم تختلف ظروف باسم عن منجّد الموبيليا إبراهيم العريني (38 عاماً)، ففي 2012 أيضاً، خرج العريني وأسرته من الغوطة الشرقية في سوريا، بعد إصابته هو زوجته جرّاء قذيفة سقطت بالقرب من منزلهم، فقرر أن يصطحب زوجته إلى مصر لتلقّي العلاج، لكن سرعان ما تحولت رحلة العلاج إلى إقامة دائمة، فبحث عن مدينة تتشابه مع قريته التي وُلد فيها واستقر به الحال في دمياط الجديدة، وسرعان ما استأجر شقةً وورشةً ومعرضاً، بعد أن باع أرضه في سوريا بنصف ثمنها في محاولة منه للوقوف على قدميه مجدداً.
تعلّم إبراهيم تنجيد الأثاث، منذ أن كان عمره 7 سنوات، على يد والده، ويقول لرصيف22: "بعد دخولي السوق الدمياطي، علّمت أشقائي المصريين التنجيد بالإسفنج والإستيل، بينما تعلمت منهم الطلاء، ومع مرور الوقت، ذاع صيتي وبات يقصدني زبائن من مصر واليمن وسوريا والسودان والسعودية والكويت لكي أقوم بتنجيد أثاثهم".
يروي قصير أنه حرص على أن يتخصص في الأثاث المودرن، أما غير ذلك من الموديلات التي يجيدها المصريون، فيرسل من يأتيه باحثاً عنها من زبائن إلى زملائه المصريين: "أنا شاطر في تخصصي"
شهرة العريني في مصر لم تأتِ من فراغ، فهو يتعامل مع زبائنه وزملائه المصريين كالأخوة، كما يروي، يرتشفون الشاي ويتناولون الفطور معاً صباح كل يوم، وفي أوقات المساء بعد يوم عمل شاق، يتسامرون في أحد مقاهي المدينة ويلعبون الدومينو. يقول إبراهيم: "لما بنجّد طقم بتعامل معاه على أنه رايح بيتي، وببذل أقصى ما عندي عشان الزبون يكون مبسوط ويفرح بفرش بيته".
من المحاسبة إلى النجارة
أيضاً، في أواخر عام 2012، هاجر محمود القصير (38 عاماً)، الذي يعمل محاسباً، مع زوجته، من ريف دمشق إلى مصر، برغم أنه لم تكن قد مرّت على زواجه سوى أشهر معدودة. ترك والديه وباقي أفراد عائلته في محاولة منه لبدء حياة جديدة بعيداً عن الدمار والحرب.
استقر هو الآخر في مدينة دمياط الجديدة، ليعمل في واحدة من أكبر الشركات، محاسباً، وظل على هذا الوضع لسنوات، فأتى بوالديه من سوريا عام 2017، وبعدها بعام، انقلب الوضع في شركته بعد اندماجها مع إحدى الشركات العالمية وتم الاستغناء عنه مع عدد كبير من الموظفين.
لم يكن أمام محمود خيار آخر سوى العمل في مهنة نجارة الموبيليا التي كان تعلّمها على يد عمه في سوريا منذ أن كان طالباً، فقام باستثمار ما لديه من مال الذي بلغ وقتها 5 آلاف دولار فقط، من خلال استئجار ورشة في المنطقة الصناعية، واستعان بالماكينات الجديدة لتساعده على تطوير مهنته، كما وطد علاقته بزملائه المصريين ليندمج أكثر في سوق صناعة الأثاث في مصر.
يقول الثلاثيني لرصيف22: "تُعدّ دمياط أكبر سوق عالمي في تصنيع وتصدير الموبيليا إلى مختلف دول العالم، لذا إقامتي فيها ساعدتني كثيراً في الوقوف على قدميّ من جديد، فالخامات متوفرة، أما العمالة، فلا أمهر من صناع دمياط، كذلك استعنت بعمالة سورية، وأستخدم في الإنتاج ماكينات الحفر على الخشب التي ساعدتني كثيراً في توفير وقتي وجهدي والتكاليف".
يروي قصير أنه حرص على أن يتخصص في الأثاث المودرن، أما غير ذلك من الموديلات التي يجيدها المصريون، فيرسل من يأتيه باحثاً عنها من زبائن إلى زملائه المصريين: "أنا شاطر في تخصصي"، يقول.
يوفر سوق الأثاث في دمياط، أكثر من 40 ألف فرصة عمل مباشرة لأبناء المحافظة التي يمثل إنتاجها نحو 70% من حجم الإنتاج المصري
اليوم، صار لديه زبائنه من مختلف البلدان العربية كسوريا ومصر والسودان والسعودية والكويت واليمن، ويشير إلى أنه "لو واحد من زبائني المصريين تعامل معي وأُعجب بعملي، يتحوّل كي يكون مسوّقي الأول بين الناس، فهكذا استطعت أن أكتسب اسمي في السوق المصري، متمنياً تسهيل الإجراءات الحكومية في مصر والمتمثلة في الحصول على الترخيص، ليتمكن من امتلاك مصنع والتصدير إلى الخارج يوماً ما".
ويقول أسامة حفيلة، رئيس جمعية المستثمرين في مدينة دمياط الجديدة، لرصيف22، إن "نحو 60% من السوريين المقيمين في دمياط الجديدة يعملون في مجال تصنيع الأثاث"، ويشير إلى "نجاح السوريين في إدخال بعض الطفرات التي لم تكن في الصناعة الدمياطية، كبعض طرق التنجيد وفرش المقاهي، إلى جانب موديلات جديدة لم تكن موجودةً في السوق المصري".
ويؤكد عدم وجود إحصائيات رسمية لديهم توضح حجم استثمارات السوريين في مجال صناعة الأثاث، لأن غالبيتهم مستأجرون أو مشاركون لمصريين حيث يوجد نحو 50 مصنع أثاث سورياً في دمياط الجديدة.
تحديات
لكن هذا الواقع الوردي لتجارب السوريين، لا يخلو من تحديات كثيرة، خاصةً في ما يتعلّق بالأوراق الرسمية ومكاتب التوثيق وغيرها من أمور تساعدهم على الاستقرار والشعور بالأمان.
ويطالب أبناء الجالية السورية في دمياط، بافتتاح مكتب توثيق خارجي في المدينة، ليسهل الأمر عليهم خاصةً أن رحلة السفر إلى مكتب توثيق العباسية في العاصمة القاهرة، يستغرق وقتاً ومجهوداً كبيرين، كما أن تجديد الإقامة سنوياً يكلفهم مبالغ باهظةً.
وفي هذا السياق، يقول باسم: "تجديد الإقامة أكبر عبء يواجهني، أنا وأبناء جاليتي، فمنذ قرابة الثلاث سنوات لم أستطع تجديد الإقامة لي ولأفراد أسرتي، مما تسبب في فرض غرامات عليّ وبت مطالباً بنحو 2،500 دولار، أي ما يعادل 75 ألف جنيه، وبسببها توقّف خط هاتفي وبت لا أستطيع التواصل مع زبائني".
ما الحل؟ يطالب باسم وكُثر مثله، بتسهيل إجراءات التجديد لهم، خاصةً أن أعمالهم مرتبطة بها إلى حد كبير، ويوضح: "لا يستطيع أحدنا شراء ورشة أو وحدة سكنية من دون تجديد إقامته".
لو واحد من زبائني المصريين تعامل معي وأُعجب بعملي، يتحوّل كي يكون مسوّقي الأول بين الناس، فهكذا استطعت أن أكتسب اسمي في السوق المصري
من جهته، يرى القصير أن ربط فتح السجل التجاري أو البطاقة الضريبية بالإقامة، أمر في غاية التعقيد لهم كسوريين، خاصةً أنه أحد حاملي البطاقة الصفراء من الأمم المتحدة، وهي بطاقة تسجيل طلب لجوء مؤقتة تصلح لمدة 18 شهراً، لكن لا تعترف بها السلطات المختصة في مصر بالمعاملات التجارية الخاصة بالنشاط التجاري، كما لا يستطيع أحدهم فتح حساب بنكي بموجب بطاقة الأمم المتحدة.
وحاول رصيف22، التواصل مع مسؤولي الجالية السورية ومنظمة كاريتاس في مصر، للوقوف أكثر على هذا الواقع، ولكن لم نتمكن من الحصول على جواب حتى كتابة هذه السطور.
وكانت كاريتاس مصر قد أعلنت منذ تأسيسها في 2016، عن تقديمها المشورة والتدريب والدعم النقدي للاجئين السوريين المُعَرّضين للأذَى أو الضرر، إلى جانب العمل على رفع مستوى احتياجاتهم الأساسية وتحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية للّاجئين على طول ساحل المتوسط.
ووفقاً للمنظمة، يوجد حالياً أكثر من 200 ألف لاجئ وطالب ملاذ مسجلين مع مفوضية اللاجئين في مصر، أكثر من نصفهم من سوريا، وتعمل المنظمة على مساعدتهم في 8 محافظات على طول منطقة ساحل مصر الشمالي، مع الإشارة إلى تقلّص هذه المساعدات بشكل كبير في السنتين الماضيتين، كما حصل في العديد من الدول التي تعمل فيها مفوضية اللاجئين مع السوريين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...