يعتبر المصريون شهر رمضان شهراً للرزق والخير الوفير، ولا سيما منهم أصحاب الحرف التقليدية التي ارتبطت في الأذهان بكونها حرفاً "ذات طابع إسلامي" لوجود مقار صنّاعها في محيط مشاهد آل البيت وتميّز مصنوعاتهم بالنقوش والموتيفات التي تتصل بفنون النحت والزخرفة الإسلامية. هذا الشهر هو فرصة سنوية لترويج بضائعهم الراكدة طوال العام، علماً أن هذه الفرصة تتضاءل مع انصراف زبائنهم التقليديين عنهم في السنوات الماضية، ما يهدد حِرفهم ومهنهم بالانقراض.
في هذا التقرير، نستعرض بعض الحرف والمنتجات التي طالما ارتبطت لدى المصريين بالشهر الفضيل، وما آل إليه مصيرها.
أكواب ومكاييل
حي الجمالية بات في المخيلة الشعبية هو أصل القاهرة وقلب مصر، رغم أنه بني بعد 600 عام تقريباً من الفتح العربي.
في هذا الحي تمتد حارات ومرابع يحمل كل منها اسم طائفة من الحرفيين أو اسم حرفتهم، من النحاسين والصاغة وحرفيي الخيام وغيرها، وتتصاعد روائح البخور والعطور في الأجواء الروحانية التي يكوّنها المشهد الحسيني، إذ يعتقد المصريون أن رأس الإمام الحسين قابع في الضريح الذي بُني عليه المسجد الكبير الذي يحمل اسم حفيد النبي. وتشهد المنطقة في رمضان أجواء من البهجة، تخف حدتها في تلك الورشة الصغيرة الواقعة في ركن من شارع المعز.
الحرف التقليدية المصرية ارتبطت في الأذهان بكونها حرفاً "ذات طابع إسلامي" لوجود مقار صنّاعها في محيط مشاهد آل البيت، وتميّز مصنوعاتهم بالنقوش والموتيفات التي تتصل بفنون النحت والزخرفة الإسلامية
برغم امتلائها بالبضائع، لا يقترب الزبائن من الورشة التي لا تحمل لافتتها اسماً. يفترش حرفيو الورشة من الشباب الأرض أمامها، ومن خلفهم تتراكم البضائع من زيوت وصفائح ألبان وأكواب، فيما يتناقشون حول المقاسات التي سيقطعونها من لوح الصاج لصنع "المكايل" التي تستخدم في عمل الكنافة الرمضانية.
منهم طه، الشاب الثلاثيني الذي بدأ العمل في الورشة وهو في الثانية عشرة من العمر، ووصل الآن إلى الثلاثين من دون أن يعرف مهنة سواها. يقول لرصيف22: "أخذت الصنعة وراثة من أبويا، هو كان شغال صنايعي في الورشة هنا وجابني اتعلمت معاه، ولما مات أصبحت هذه هي المهنة الأساسية لي، وحاليا لا أستطيع أن أوفر احتياجات أسرتي".
منذ الصغر وهو يعلم أن رمضان يعتبر الموسم الذي يستدعي العديد من التجهيزات والتحضير، لذا كان يستقبله بصدر رحب وحب شديد: "شغلي الأساسي هو صناعة المكايل والزيوت والوقود والألبان ومكايل الكنافة والأكواب التي تستخدم في موائد الرحمن. وكان هناك إقبال شديد على هذه الأشياء قبل سنوات، ولكن مع التطورات بدأ الجميع يتخلون عن مكايل الزيوت والوقود إذ انتشرت ماكينات في محطات البنزين، وأيضاً مكايل الكنافة لم تعد تستخدم حالياً بعد ظهور الماكينات الآلية".
ويضيف طه أن صنعته هذه لم تعد قادرة على أن توفر متطلبات أسرته، فزيادة الأسعار التي طرأت على الخامات جعلته يعاني الأمرين: "نحن نجلب خام الصاج بسعر الجملة، ونقطعه حسب المقاسات التي نحتاجها، لكن زيادة أسعار الخام جعلتنا نقلل الكمية في المنتج الذي نخرجه، وبالتالي نجد صعوبة في ترويج البضاعة والكسب منها".
خِيَم رمضان والفن المظلوم
مساكن قديمة مرت على بنائها مئات السنين. شوارع ضيقة بداخلها زينة ترسم البهجة والسرور، وسائحون يلتقطون صوراً لهذا الطراز المعماري القديم. هذه المنطقة شاهدة على تاريخ طويل من الفن والإبداع. فأمامك شارع الخيامية وخلفك باب زويلة الشهير بمنطقة تحت الربع في القاهرة الفاطمية.
فور دخولك الشارع تجد على جنباته مجموعة من الورش التي تخصصت في صناعة الخيام، وهي من الأقمشة الملونة الزاهية التي تستخدم في السرادق والخيم الرمضانية والمفارش، وغيرها من المنسوجات المتعلقة بالشهر الكريم. هنا في المربع الصغير، ظلت كسوة الكعبة تنسج وتطرز خيوطها المذهبة من خزانة الحكومات المصرية منذ الفتح العربي حتى ستينيات القرن الماضي، وتخرج في موكب المحمل المهيب إلى أن توضع على الكعبة قبل بدء موسم الحج.
المنطقة لم تتغير عبر القرون. ورشها تكاد تكون ثابتة، حتى الوجوه التي تتعاقب عليها متشابهة إذ يتوارث الصنعة أبناء نفس العائلات، إلا أن البهجة وسعة الرزق غادرتا المكان
المنطقة لم تتغير عبر القرون. ورشها تكاد تكون ثابتة، حتى الوجوه التي تتعاقب عليها متشابهة إذ يتوارث الصنعة أبناء نفس العائلات، إلا أن البهجة وسعة الرزق غادرتا المكان.
تراجعت الصنعة لصالح بيع أي شيء يمكنه أن يأتى بقروش قليلة توفر قوت اليوم. اختفى القماش الزاهية ألوانه وحلت محله أشرطة الزينة البلاستيكية والفوانيس الصينية. وبعدما كان رمضان موسم حصاد لما يزرعون طوال العام، أصبح موسماً يتخلون فيه عن مهنتهم من أجل لقمة العيش.
"في النهاية كل واحد بياخد رزقه"
في أحد أركان مربع الخيامية، يجلس أحمد عبد العظيم الشهير بـ"كُتكت". تمكن الشيب من رأسه ولحيته. تجاعيد وجهه جميلة، ونظارته المعلقة بشريط على رقبته لا تفارقه، وفي يده إبرة يغزل بها غرزة تلو الأخرى حتى يصنع خيمة متكاملة برسوماتها الرائعة، وبجواره راديو يعتبره رفيق دربه ويحافظ عليه منذ عشرين عاماً.
يقول الرجل الستيني لرصيف22: "لما بدأت في المهنة وأنا صغير، مكنش لسه في مكن بيطبع رسوم الخيامية، كنا نعمل الترك (قماش خيمة العزاء أو الأفراح) يدوياً. ولكن مع ظهور الماكينات لم يعد هناك زبائن للعمل اليدوي، وطورنا نفسنا وبقينا نشتغل مفارش السفرة ونعمل عليها رسوم وموتيفات جديدة، وكله شغل يدوي. لكن حتى الشغل الجديد مع مرور الوقت لم يعد له زبائن".
حاول كُتكُت تقديم منتجات جديدة في رمضان مثل مفارش عليها رسوم مرتبطة بالشهر الكريم كالأهلة والفوانيس وغيرها، ونجحت الفكرة لبعض الوقت لكنها تراجعت لاحقاً. يقول شارحاً السبب: "بعدما كان رمضان موسماً لنا، أصبحنا نريده أن يمر سريعاً من أجل أن نعمل، لأن السياح هم أكثر من يشتري هذه المنتجات اليدوية حالياً".
أما مجدي محمد، 55 عاماً، الذي ورث المهنة عن والده، يتذكر أيام المجد التي حكى عنه والده، إذ كانت ورشته تشارك في تجهيز محمل كسوة الكعبة. لكن ارتباطه الشديد بالمهنة وحرفيته في عمل الخيم الضخمة لم يشفعا لبقائه فيها. يقول: "كنا نعمل طوال الوقت، لأن شغلنا اقتصر على الخيم للجيش والعمال في الصحراء وصولاً لخيم المصايف، وعندما يهل شهر رمضان كنا نعاني من الضغط في العمل بسبب صنع خيم لبعض الدول العربية، فضلاً عن المفارش والترك المستخدم في الأفراح. لكن في الفترة الماضية الطلب قل جداً".
الوضع اختلف تماماً في استخدام الخيام نفسها، قديماً كانت تستخدم للعيش فيها بالصحراء ولأمور آخرى. يقول: "لم يعد الناس يهتمون بشراء الخيم، لذا أركز جهدي في صناعة أشياء آخرى تواكب العصر، مثل جزَّامة بقماش الخيم، وجيوب تعلق على الحائط وتوضع بها مستحضرات تجميل وهكذا".
العرقسوس شفا وخمير
قدر "قِربَة" مصنوعة من النحاس أو الألومنيوم يحملها رجل على ظهره، وفي يده قطعتان من الصاج يدق إحداهما بالأخرى بنغمة مميزة تعلن لسكان الحي أن بائع العرق سوس والتمر الهندي يمر الآن.
تلك القربة يقف خلف صناعتها مئات قضوا سنوات في تعلُّم هذه المهنة التي كانت تزداد ازدهاراً في شهر رمضان. في السنوات الأخيرة، ظهرت "الكولديرات والتانك" جعلت المهنة تسلك طريق الانقراض.
في شارع أمير الجيوش المعروف باسم "النحاسين"، يجلس أسامة زينهم، 55 عاماً، أمام ورشته الصغيرة، لا يبالي باقتراب شهر رمضان رغم ارتباط مهنته بهذا الشهر الكريم، لأن تسارع إيقاع الحياة وتراجع العادات الرمضانية جعلا مهنته تعاني الركود التام. يقول إن مهنته لها علاقة قوية بشهر رمضان، لأن العديد من الناس يشترون هذه القِرَب التي يوضع بها العصائر والمشروبات الرمضانية والبعض يشترونها من أجل وضعها في المنزل. حالياً لا إقبال عليها. ويضيف:"إحنا أصحاب المهنة بقينا نبيع برطمانات بلاستيك لأن هذا ما يبحث عنه الزبون الآن". يسكت قليلا ثم يتابع بأسى: "المهنة بقت بتنقرض".
وهذا علي حسن الرجل الأربعيني يحمل قربته على ظهره ويتجول في الشارع طوال اليوم بحثاً عن لقمة عيش لأبنائه الستة. الابتسامة لا تفارق وجهه الداكن، فقد ترك مسقط رأسه في سوهاج بصعيد مصر، وجاء إلى العاصمة بحثاً عن الرزق بين شوارع وسط البلد. يقول لرصيف22 إنه اعتاد التجول في الشوارع، ويشعر براحة كبيرة في المشي الكثير. وهو سكن وأسرته في منطقة الموسكي القريبة من المشهد الحسيني. من هناك يشتري الخامات بأسعار مناسبة، ويخلط العصائر التي تباع في شكل "بودرة" مصنعة محلياً. وفي رمضان، يتخلى عن تلك الخلطات التي تحمل نكهات الفاكهة، ويدور ليبيع العرق سوس والتمر هندي. يضيف: "الناس لما بتشوفني بالورد والقربة على ظهري، بيحبوا الشكل يشتروا مني".
لا يفكر على، وهو أب لستة أبناء في مراحل التعليم المختلفة، في التخلي عن تلك المهنة، وإن كان يضطر إلى ذلك في الشتاء. يقول: "في الشتا محدش بيشرب العصائر، بحاول اشتغل في أي حاجة على الله كده، لكن مع حلول الصيف أرجع لها على طول". ويضيف:"العصارات (محال العصائر) بيكون عليها إقبال، لكن في ناس كتير بتحب تشتري مني لأني بفكرهم بعادات رمضان، وبعمل خامات نظيفة، وأيضاً في ناس بتتعاطف. لكن في النهاية كل واحد بياخذ رزقه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...