يعود أقدم توثيق لمعارض الكتب كما نعرفها اليوم إلى القرن الحادي عشر في مدينة فرانكفورت الألمانيّة، حيث كان الناس يجتمعون في السّوق حول بسطات تبيع وتستبدل المخطوطات المكتوبة (لم تكن الطباعة متيسّرة بعد). وقد أدّى اختراع الطباعة في أوروبا في القرن الخامس عشر إلى انتشار كبير غير مسبوق للكتب، الأمر الذي أنشأ "سوقاً" لهذا المُنتج الذي تحوّل من مُنتَج حصريّ تتناقله الأيدي القليلة إلى مُنتج جماهيريّ تحوّل مع الوقت إلى سلعة غريبة ومتميّزة عن سائر السّلع المطروحة في الأسواق الرأسماليّة.
لماذا لا نُرخي العنان لسيطرتنا على هذا المشهد ونُسلّمه للجيل الجديد، الذي يعرف القراءة والكتابة الرقميّة أكثر منّا جميعاً؟!
وهكذا ظلّت ألمانيا رائدة معارض الكتاب لعقود طويلة عبر معرضي فرانكفورت وليبزيج، وبعد تقسيم ألمانيا إثر الحرب العالميّة الثانية، أقيم معرض الكتب الدوليّ في فرانكفورت من 8 إلى 25 أيلول/ سبتمبر 1949، كاحتفاليّة لمرور مئتي عام على ولادة يوهان غوته. ومع الوقت زاد عدد الناشرين الأجانب عن الناشرين الألمان المشاركين في معارض الكتب عبر ألمانيا، ليبلغ عام 1953 (505) ناشرين من 11 دولة مقابل 484 ناشراً ألمانيّاً.
مع طغيان عصر السايبر والرقمنة الذي نعيشه، بدأت معارض الكتب الكبرى في الغرب تطرح وبتزايد إمكانيّة شراء الكتب الصوتيّة والتفاعليّة عبر أكشاك كبيرة ومتنامية، بدأ بعض الناشرين بتوفير منصّات واقع افتراضيّ فيها، يمكنك من خلالها مثلاً سماع كتاب ما ومن خلفك مشاهد نيران أو مؤثّرات خاصّة تتماشى مع مضمون الكتاب. وإلى جانب هذه المغريات البصريّة والرقميّة، ما تزال معارض الكتب الكبرى تعتمد على نشاطات قراءات الكاتبات والكتاب والندوات كمصدر جذب كبير لا غنًى عنه، ومثالُ ذلك معرض ليبزيج عام 2018 الذي استضاف 3,600 حدث قراءة واستضافة على مدار أيّامه.
الادّعاء الثاني الذي لا يمكن تجاهله هو الثمن البيئيّ الذي تدفعه الكرة الأرضيّة جراء قطع الأشجار لصالح صناعات الورق على اختلافها
يضيق المجال للحديث عن تطوّر معارض الكتب وبروزها، مثل المعارض في لندن وبولونيا وبروكسل وموسكو وبراغ، وفي غوادالاخارا المكسيك وجايبور في الهند، مروراً بمعارض الكتب الكبيرة في العالم العربيّ مثل القاهرة وبيروت وصفاقس (لكتاب الطفل) ومسقط وأربيل وأبو ظبي والرياض والشارقة والدار البيضاء. ومهما تعدّدت وسائل عرض الكتب المطبوعة وتنوّعت، إلّا أنّ سؤال الرقمنة يطرح نفسه وبشدّة في العقد الأخير، وخصوصاً في الغرب الثريّ الذي يضع قواعد اللعبة كما يفعل دائماً: هل علينا الاستمرار في طبع الكتب الورقيّة في عصرنا اليوم؟
ثمّة ادعاءان مركزيّان ضدّ استمرار طباعة الكتب ورقيّاً: معظم الناس يستهلكون قراءاتهم المختلفة عبر الموبايل أو التابلت أو اللابتوب والأجيال الجديدة منغمسة حتى النخاع في الشاشات؛ والادّعاء الثاني الذي لا يمكن تجاهله هو الثمن البيئيّ الذي تدفعه الكرة الأرضيّة جراء قطع الأشجار لصالح صناعات الورق على اختلافها.
يوفر موقع 8billiontrees معطيات عالميّة حول صناعة الورق لطباعة الكتب، ويُقدَّر عدد الأشجار المقطوعة سنويّاً في العالم وفق مصادر حكومية وأخرى مهنيّة بأكثر من 15 مليار شجرة. ولتجسيد هذا العدد الهائل من الأشجار، فإنّ هذه الأشجار المقطوعة تُنتج في نهاية المطاف 3500 لفة ورق تواليت لكل فرد وفرد على الكرة الأرضيّة سنويّاً. نحن نستخدم هذه الأشجار لصناعة الأثاث والأوراق على اختلافها (الكتب والمجلات وأوراق الرزم والتواليت والكتابة وغيرها). وتشير معطيات الأمم المتحدة إلى أنّ العالم خسر بين 1990 – 2015 نحو 129 مليون هكتار من الغابات (الهكتار يساوي 10 كيلومترات مربعة)، وهي مساحة مشابهة لمساحة دولة جنوب أفريقيا برُمتها. إلّا أنّ الغالبيّة العظمى من هذه الأراضي الحرجيّة والغابات الماطرة كانت في أفريقيا وجنوب أمريكا، فيما كادت تكون صفراً في أوروبا، مع أنّها في الوقت ذاته من أكبر مستهلكي الأوراق في العالم.
ليست لدينا معلومات دقيقة حول كميّة الورق المستخدمة في صناعة وطباعة الكتب والمجلات، لكنّنا نعرف أنّ الولايات المتحدة تنتج وحدها أكثر من 620,000 طنّ من الأوراق كلّ عام. وبحسب المعلومات الصناعيّة المتوفّرة، فإنّ كلّ شجرة تُنتج في المعدّل 8,333 ورقة A4. وتستهلك الولايات المتّحدة 32 مليون شجرة لإنتاج ملياريْ كتاب مطبوع في السّنة (يشمل الكتب التدريسيّة). وإلى جانب صناعة الورق، تعود أسباب قطع الأشجار وفنائها إلى خمسة مجالات أساسيّة: الإنتاج الغذائي البشريّ، واحتياجات المزارع والحيوانات، والتنقيب، والمناجم، والحرائق.
لكنّني -ككاتب وقارئ- أفضّل عالماً مع أشجار أكثر، على عالمٍ يُصرّ على تكديس الكتب على الرفوف بدلاً من تكديسها في ذاكرة التابلت. وليعذرني كلّ الذين "يحبّون كثيراً أن يغفوا وهم يحتضنون الكتاب"
وفي معرض القاهرة الدولي للكتب الذي يجري في هذه الأيام، عُقدت ندوة تحت عنوان "مناقشة مستقبل صناعة النشر الجديد بالأردن والوطن العربي ضمن برنامج ضيف الشرف بالمعرض"، إلّا أنّ المادة المتوفرة في المركز الإعلاميّ للمعرض لا تتعرّض للطروحات سوى بعناوين عامّة، مع أنّنا نقف أمام موقف محرج يستوجب التوقف والتفكير: هل علينا أن نبرّر استمرار المشاركة في تصحير العالم والتأثير على المناخ وتوفر الهواء الصحيّ لغالبية البشر، مقابل استمرار شراء الكتب والمطبوعات المختلفة، وذلك لأنّنا "لا نستغني عن رائحة الورق"؟
لماذا لا نُرخي العنان لسيطرتنا على هذا المشهد ونُسلّمه للجيل الجديد، الذي يعرف القراءة والكتابة الرقميّة أكثر منّا جميعاً؟! أعرف أنّ هذا الأمر صعب وكارثيّ في نظر الكثيرين، ولكنّني -ككاتب وقارئ- أفضّل عالماً مع أشجار أكثر، على عالمٍ يُصرّ على تكديس الكتب على الرفوف بدلاً من تكديسها في ذاكرة التابلت. وليعذرني كلّ الذين "يحبّون كثيراً أن يغفوا وهم يحتضنون الكتاب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين