يرجو كثيرون أن يختصرهم اسمهم اختصاراً وافياً ومانعاً. "الاسم جميلة بو حيرد/ والعمر اثنان وعشرون"، كتب نزار قباني، وهو مَن هو، غداة اعتقال الشابة الجزائرية في 1957، وبعد قمع انتفاضة حي القصبة في الجزائر، المدينة والعاصمة، على يد فوج المظلّيين "الفاتحين" بقيادة العقيد االفرنسي مارسيل بيجار. وعُرفت الانتفاضة، وقمعها، بـ"معركة الجزائر"، ورواها، في 1965، المخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو، في فيلم حمل اسمها.
وموَّه تصوير الشريط، أي مشاهده العسكرية وصفّ المدرّعات الذي يخرج ليحاصر القصبة، أو المدينة القديمة، جزءاً من عملية انقلاب قائد جيش الحدود السابق، وقائد القوات المسلحة الجزائرية ووزير الدفاع، هواري بومدين، على أحمد بن بلة، رئيس الجمهورية والعريف السابق في الجيش الفرنسي، وأحد "أولاد تشرين الثاني/ نوفمبر" 1954، تاريخ أوائل حرب التحرير والاستقلال، ورهين السجن الفرنسي منذ اختطاف "القرصان" الفرنسي الطائرة التي كانت تقلّه وآخرين في 1956 (إلى 1962، تاريخ استقلال الجمهورية الجزائرية).
ومعركة القصبة "معلم في الطريق" (على قول سيد قطب، "الإخواني" المصري) التي أفضت إلى تعريف الجزائر، وثبّتت هويتها الوطنية، وهوية شعبها، على خلاف اصطناع نسبة إلى هوية وشعب آخرين، غالبين ومستعمرين (فرنسيين)، ومن غير انتظار اكتمال أمة جزائرية موعودة، على ما حسب أمين عام الحزب الشيوعي الفرنسي يومها، موريس توريز، مترجحاً بين زعم الدولة الفرنسية وبين رغبة الجزائريين.
والاسم الصريح، والجاهر بالصوت العالي والمليء "مَن هو" (ما هو= هوية)، مَن هي في هذه الحال، وَلَدَ- إلى آخرين كثر، أحياء وأموات، ومن أنحاء الجزائر كلها، وأقوامها، أو بعضهم، ومن طبقاتها الاجتماعية، وإنْ على تفاوت- (ولد) كيانَ الأمة والشعب والدولة الجزائرية. والمثلث هذا وُلد متنازعاً، ولا يزال متنازعاً، على ما ينبغي، وما لا يُنكر إلا المبيتون استبداداً بالسلطة. وجميلة بو حيرد "أنكرها" بعض قومها، ونفاها من قوميتها، العصبية، حين اقترنت بفرنسي، أظن أنه كان محاميها في أثناء اعتقالها.
واختلاط أمر التصوير والمشهد السينمائيين بحادثة الانقلاب العسكري والسياسي الجاري، وحمْل الثاني، الحقيقي والواقعي والعنيف، على الأول، وهو تمثيل وأداء وتلبيس (إلباس الشيء ما يتستر عليه)، قرينة على أن الصريح الظاهر قد يلد هجيناً. ولا تعصم صراحة النسب، وهو حادثة أو جملة حوادث في الحال الجزائرية وجميلة بو حيرد من وقائعها، من الهجنة والاختلاط والتخليط (وهو الهذيان و"الجنون"). فما يوكل إليه التعريف أو التعيين- قول عين الشخص أو الشيء- ليس ثمة ما يمنعه أو يحصّنه من الازدواج والكثرة والشبه أو التشبيه.
الثابت والملتبس
فهل القول "الاسم جميلة بو حيرد"، أو قول محمود درويش، "سجّل، أنا عربي" فعل لغوي أو قولي- أي يدخل في باب "حين القول فعل" (على زعم ج. ل. أوستين، اللساني الأميركي)- نافل؟ وهل ثمة في مقالة الهوية، أو مقالاتها، ما ليس نافلاً، ويتعدى تعريف الماء بالماء، على ما يقال؟
وظاهر، في ضوء ما تقدّم، أن مساواة الشيء موضوع التعريف بنفسه أو باسمه، وقصر التعريف على هذه المساواة، لا تتعدى وقتاً خاطفاً سرعان ما ينقضي. ويخلّف هذا الوقت، المجرد والمنتزع من تدفّق زمني ولونيّ متداخل، محله لأوقات أخرى تتناول "قصَّ" الشيء، وعرض ثناياه وطيّاته، ماضياً وحاضراً وعلى نحوها آتياً، على القول والنظر والفكرة.
فيقود الأثر، المتخلّف عن جميلة بو حيرد، إلى اقتتال "أولاد نوفمبر"، وإلى انقلاب جيش الحدود على دولة الداخل وارتجالها وفوضاها وتسييرها الذاتي وضعف بيروقراطيتها العسكرية والإدارية. وقد يمر بزواج جميلة بمتحدّر من المستعمر السابق، ونصير الجزائريين في أثناء حربهم الدامية.
والحق أن الأثر هذا يقود، من وجوه أخرى، وقاد فعلاً إلى تمكين الجزائريين- وهم بدورهم هم، أي جزائريون، على أنحاء متفرقة ومختلفة: ثمرة تواريخهم التي سبقت الاحتلال الفرنسي (1830- 1962) الساحق، وثمرة تواريخهم تحت الاحتلال، وأولاد حربهم في سبيل الاستقلال وانقساماتهم في أثنائها... معاً وجميعاً- من إيجاب اجتماعهم على نحو ترجح فيه وعليه إرادتهم المثقلة بالتاريخ، شأن الناس عموماً، ورغباتهم في الفعل.
وعلى هذا، فما يُنشد من الهوية، وهو التعريف والثبات على سمة أو مائز، على ما كان هاني فحص الكاتب الإمامي اللبناني يقول، أو فارق، لا يكاد يقر على قرار حتى يترنّح ويذوي في سمات كثيرة، متنازعة ومتفرقة لا إلى غاية أو نهاية. ولا تحول الكثرة والمنازعة والفرقة دون الاستواء على وجه أو معنى. وسبق لليوناني- الفرنسي كورنيليوس كاستورياديس (1922- 1997) أن كتب في تعرّف المجتمع نفسه:
"يوجب المجتمع نفسَه على نحو شيء ما، أو ذات فريدة، تقبل الاسم (أي التعيين) ولكنها تعصى التعريف (على المعنى الطبيعي الفيزيائي أو المنطقي)، فهي توجب نفسها على شاكلة جوهر روحاني، لكنه يتمتع بقدر كافٍ من التعيين والتفصيل والتمثيل من طريق محمولات (أو أوصاف) هي تصريف المعاني المتخيّلة التي تحفظ على المجتمع- هذا المجتمع- تماسكه" ("تعاظم التفاهة"، 1996، دار سوي الفرنسية، ص22).
معاني الاضطراب
وإذا باشر "الفيلسوف والكاتب"، على ما يعرّفه الغلاف الرابع، بول أودي- وليس عودة، على ما يفترض التعريب أو اللبننة، أي الردّ إلى "الأصل"، وهو يسكت عمداً في تعريفه المقتضب والخارجي عن نسب لبناني يتناول شطر من كتابه "الهويّة المقلقة" (2022، دار ستوك الفرنسية) رأيه فيه، ونفيه إياه وتخفّفه منه- إذا باشر قصّ هويته على صورة سيرة، طالعته وعاندته صفة هذه الهوية ("تروبلانت" في الفرنسية). فاختار نعتاً يميل إلى القلق ولا يقتصر عليه. فهويّته تبعث على الاضطراب. وحين يذيع الإعلام خبر تظاهرة أو حركة احتجاج انتهت بإطلاق نار، أو تحطيم زجاج، أو حرق سيارات، يسمّيها اضطرابات.
"الاسم جميلة بو حيرد/ والعمر اثنان وعشرون"، كتب نزار قباني غداة اعتقال الشابة الجزائرية في 1957... وجميلة بو حيرد "أنكرها" بعض قومها، ونفاها من قوميتها، العصبية، حين اقترنت بفرنسي، أظن أنه كان محاميها في أثناء اعتقالها
والكلمة تعني الكدر والعكر، إذا تناولت الماء، والغرابة إذا سُمّت شعوراً أو إحساساً تثيره حال مترجّحة وغامضة. وأعراض المرض وتظاهراته قد تسمى بالاسم هذا، والصفة مشتقة منه. فلو جاز اشتقاق اسم فاعل، على مثال "مقلق"، من اضطراب، لنعتت هوية بول أودي باسم الفاعل/ الصفة الممتنع هذا/ هذه. وتستعمل جوديث بتلر الكلمة، في صيغة اسم، للدلالة على اهتزاز "النوع" (الهوية الجنسية أو "الجندر") وخلخلته والتباس صفائه. وبعض مَن استشهدوا بكتاب سيغموند فرويد، "قلق (في) الحضارة" (1939)، عشية الحرب الثانية، تردّدوا بين "القلق" وبين "الاضطراب".
الانتساب
وشواهد سيرة بول أودي/ عودة الأدبية يستعيرها صاحب الهوية المقلقة من شريط مايكل مان السينمائي (2001) وروايته سيرة كاسيوس/ محمد علي كلاي ومباراته في كينشاسا، ومن شريط فرانسيس فورد كوبولا، "العرّاب"، وقبول آل باتشينو الدور الذي اضطلع به والده وأورثه إياه، ورواية توماس برنارد النمساوي "الإطفاء"...
وتصف فاتحة الكتاب تجوال محمد علي على غير هدى، في سيارته، عشية المباراة على لقب البطولة، في شوارع كينشاسا الضيقة والعريضة. وفي الأثناء، تضيء مصابيح السيارة جداراً متآكلاً ومقشوراً رُسم عليه محمد علي في صورة الملاكم البطل والعملاق بإزاء فورمان، خصمه ومنافسه الضئيل.
ويغشى المناخ الإفريقي الطرق والمنظر المتجدّد. وما كان يجهله الملاكم الإفريقي- الأميركي للتو، قبل "نزهته"، يتراءى له على شاكلة صورته في المرآة. وفي دقيقتين من الزمن حضرت إفريقيا كلها- بنسائها ومسنّاتها وأطفالها ورجالها، وأسواقها وزراعاتها، وسلعها المستوردة، وحركات الملاكمة التي يؤدّيها المراهقون حين يرون بطلهم- في "عريها الملكي".
وينتبه محمد علي، في صوره القريبة من العدسة والبطيئة الانسياب، إلى أن الجدران انقلبت دعوات ومناشدات تتوجّه على وجدانه وضميره، وتوقعها أغنية سليف كايتا "غداً" ("تومورو"). وتتردّد موسيقى الأغنية وبعض كلماتها في ختام المباراة، حين يسدد محمد علي اللكمات الأخيرة إلى خصمه. وفي هذه الصور، يغادر محمد علي جلده الأميركي، ويعلم ما يصنع وما يحدث له. ولا يدري المُشاهد، شأن محمد علي على الأرجح، مصدر الكشف هذا: هل جاء من ماضٍ قديم أم حط عليه قدراً لا دافع له، ونَسبه ابناً للبلد، ونصبه أملاً لشعب كامل، وحامل لواء القارة الإفريقية. فهو، لحظتذاك وفي انتقاله من هوّية إلى أخرى، تجسيد للصيرورة ورجحان كفّتها على كفّة التاريخ.
في كتابه "الهويّة المقلقة"، يعزو بول أودي (عودة) مغادرته لبنان أولاً إلى الحرب الأهلية التي طردته من البلد. فلم يعضّه الحنين بنابه، ولم يشعر بالكآبة الرتيبة التي تخيِّم على المنفيين اليائسين من العودة إلى أوطانهم. فلبنان لا يوحي بأضعف رجاء إلى هذا اللبناني المولد
والانتساب الجديد، يكتب أودي، أعمق من الانتساب السابق. فهو ناجم عن اختيار، وعن ثورة أو "انقلاب" (مرادف ثورة في الفارسية والتركية) على النفس. وهذا الانتساب ثمرة "فتح"، أي إرادة وتصميم ورغبة، وتترتّب عليه مترتّبات متماسكة ينبغي السهر على تماسكها، وليست وليدة التلقائية. ويخاطب الانتساب الجديد محمد علي، ويقول له: "علي، لست الملاكم المحترف الذي يحسب الناس أنك هو، ويريدون أن تكونه. ولست الأميركي الذي تظنّ أنك هو إلى اليوم. فأنت رمزٌ حي لحاجة أهل جلدتك إلى إيجاب كرامتهم وفرض احترامهم حيث يكونون".
ويجيب محمد علي: "أنا حيث أعادتني الصيرورة إلى نفسي: وهي لم تعدني إلى مَن كنت منذ ولادتي، وجراء ولادتي، بل إلى هذا الآخر- في- النفس الذي كنته كذلك ربما، من غير أن أعلم، وأنا أستفيق على الحاضر من طريقه: نفساً أخرى تجلّت لي في صورة (أنا)، في رسم الولد الذي يمثّلني، على الجدار المتآكل، وحولي نحلات وفراشات، ورافعاً ذراعَيْ المنتصر".
وطن النهاية
وهذا، أي نداء الهوّية على النحو المركّب الذي يُدخل الآخر أو الغير، في صور الصيرورة والزمن والمخاطبة والخارج (أو البرانية على قول إيمانويل ليفيناس)، على النفس، ما لم يقيض لبول أودي أن يلقاه من البلد الذي ولد فيه، لبنان، قبل ستين عاماً. فهو غادر مسقطه، على قول شوقي أبي شقرا الشاعر (بدلاً من مسقط رأسه)، في الثالثة عشرة، واستقر وأسرته في فرنسا، من غير عودة ولا انتساب.
وهو يعزو مغادرته أولاً إلى الحرب الأهلية التي طردته وأسرته من البلد. فلم يعضّه الحنين بنابه، ولم يشعر بالكآبة الرتيبة التي تخيِّم على المنفيين اليائسين من العودة إلى أوطانهم. فلبنان لا يوحي بأضعف رجاء إلى هذا اللبناني المولد، ولا شوق أو فَقْد حيث لا رجاء. وفي غضون جيل واحد لفظ البلد أنفاسه. وهو قد يبقى على قيد الحياة، ولكن كل ما كانه، "وما كانه ضئيلٌ في الأحوال كلها"، قضى ومات.
ولبنان الذي "ولد" من حرب 1975 الأهلية يسمّيه الكاتب "فينيقيا". وبدلاً من "الفاء" المركّبة في أول الكلمة Ph-، وهي تُكتب باء (وتلفظ كما "بابا") وأش/ إيتش أو هاء، شأن الكلمات المشتقّة من اليونانية- يكتب فاء بسيطة F. وتعني "النهاية". و"فينيقيا" الكاتب، على هذا، تعني بلد النهاية أو الختام، أو بلد الأقاصي الرديئة. ولا يقوده تمتّعه بالجنسية، أو التابعية، على قول عربي شائع، اللبنانية، إلى الإدلال بجنسية مزدوجة. وازدواج الجنسية يبعثه على الغثيان. فهو ليس اثنين في واحد، على خلاف ما توحي به العبارة. والواحد هو فرنسي صرف ومحض.
وهو لم يعرف، من طريق دائرة أسرته وأعوامه الأولى، وشائج حسّية وجسدية تصله بأرضٍ أمٍّ، بل ولد "مقطوع الجذور". ما لم تضرب جذوره في السماء، على قوله مستعيذاً بالله، وراضياً بالأمر. ومستعيداً، من غير أن يُلمح إلى الأمر، عنوان رواية يوسف حبشي الأشقر، الروائي اللبناني، "لا تنبت جذور في السماء" (دار النهار، 1969، بيروت). وتعثّر التجذُّر منذ الطفولة الأولى. فلم يسع الثقافة غزو الروح بنظام تلقائي من المراجع الدّالة والمعبرة، فخلت الروح من الأصداء القديمة، وسكتت العلامات عن الإيحاء والترديد...
ويمتنع الكاتب، للأسف ربما، من حمل حاله هذه على ما قد يكون بنية ثقافية تتعدّى دلالاتها دائرة بول أودي الأسرية والشخصية. ففي حال غير الكاتب، وغير دائرته الاجتماعية والثقافية، يلاحظ افتقار أوساط ودوائر اجتماعية وثقافية "لبنانية" كثيرة إلى أرض تضرب فيها جذور وهويّات حيّة تُدخل الآخر في النفس، وتجلو الهويّة أو الهويّات من باب النداء والانتساب، وليس من باب النسب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...