هل تسعى الحركة العونية، متمثلة بمؤسسها ميشال عون ورئيس تيارها جبران باسيل، إلى تضخيم حجمها السياسي الإقليمي عبر تطويع هوية إقليمية استعاروا لها "المشرقية" كتسمية؟
ومن المعروف عن قادة التيار الوطني الحر، من المؤسس إلى الوريث، اعتماد كل ما هو نافر وسجالي لتثبيت موقعهم على الخريطة السياسية.
هوية من بنات أفكار تيار مستعظم
"المشرقية"، أكانت هوية أم مفهوماً، ليست من بنات أفكار التيار الوطني الحر، فهي مفهوم تداوله معلقون وكتاب كثر على مر الزمن، في موجات متعددة من الاستخدام. ومن الواضح من خطاب التيار الوطني الحر أن ما يهمه من المشرقية هو البعد المسيحي المتمثل في وجود أقليات مسيحية في بلدان مختلفة من المشرق العربي مثل لبنان وسوريا، الأردن، العراق وفلسطين.
ويبدو أن التيار الوطني الحر انجذب إلى هذه "المشرقية" بجانبها المسيحي دون الجانب الآخر ذي الأكثرية المسلمة. ولتثبيت زعامته المسيحية التوسعية، استدار سنة 2008 نحو قرية متواضعة اسمها "براد" في سوريا، طارقاً باب ما يُعرف بـ"ناووس مار مارون".
لطالما ذهب المسيحي السياسي أبعد من حدود لبنان للاستعارة من تاريخ المسيحيين العالمي والإقليمي، كي يقول للجماعة المسيحية: "أنا المسيحي حامي حقوقكم"، ليس فقط في لبنان إنما في المشرق العربي. من هنا أتت تمثيلية "براد" في سوريا، حيث حجّ مع العونيين رتل من الزعماء اللبنانيين، بينهم مسترئسون.
يلفت يوسف معوض، الباحث والمحاضر في جامعة القديس يوسف، في مقال كتبه، إلى أن لا دليل علمياً دامغاً يثبت وجود ناووس شفيع موارنة لبنان "مار مارون" في منطقة "براد"، وهي قرية أثرية تقع شمالي مدينة حلب، في سوريا. وإذا صح تحليل معوض الأكاديمي والتاريخي، وتحليلات غيره من أصحاب الاختصاص مثل عالم الآثار الدكتور ألكسيس مكرزل والمنقب الأركيولوجي الأستاذ فادي بارودي، فلماذا أخرج التيار الوطني الحر تلك التلفيقة التاريخية؟ هل مردّ ذلك إلى انتفاء الخبرة التاريخية لمستشاريه أم هي عملية تلاعب بالتاريخ وذاكرته لفرض الزعامة المشرقية؟ أو هل كان كل ذلك بهدف التقرب من النظام السوري، والذي خاصمه مؤسس التيار الوطني الحر ميشال عون طيلة أكثر من عقدين قبل أن يخطر له الكلام عن ناووس مار مارون، بعد أن تمت القطيعة مع القوى التي عُرفت بقوى 14 آذار، والمعادية للنظام السوري؟
للتيار الوطني تجارب مع القبور ونبشها. وكيف لنا أن ننسى واقعة "قبرشمون" حين وقع قتيلان عام 2019، إثر خطاب تحريضي من جبران باسيل عن تاريخ جبل لبنان وهوية مقاومته المسيحية في معارك سوق الغرب؟
ولكن التيار الوطني الحر ليس أوّل مَن يوجه قبلة الحج المسيحي التوسعي باتجاه "سوريا الأسد" للاستعارة مما توفر من نُصُب دينية لتثبيت زعامة مسيحية. يُروى عن مقربين من الرئيس سليمان فرنجية أن "شقيق الرئيس حافظ الأسد، رفعت الأسد، أراد الوقوف على خاطر الحليف بعد مجزرة إهدن 1978 ليتمنى عليه طلب ما يشاء. اعتقد الأسد بأن فرنجية سيطلب شحنة سلاح أو ذخيرة لمواجهة المعتدين لكن فرنجية فاجأ محدثه بطلب ناووس ‘مار مارون’. بادره رفعت الأسد بضرورة مراجعة الرئيس الأسد الذي أجاب بأن ‘كل مَن أراد ناووس مار مارون ما عليه إلا القدوم إلى سوريا للحج إليه’". وإذا كان من السهل تفسير علاقة آل فرنجية التاريخية مع آل الأسد، فكيف لنا فهم تحالف التيار الوطني الحر مع نظام كان قد أعلن الحرب عليه، وعلى أساس مجابهته كان قد بنى أسطورة تياره السياسي؟
من السهل على المسيحي المتاجرة بمسيحتيه لأسباب سياسية شعبوية خاصة، وإلا كيف لنا أن نفسر تهليل الزعماء المسيحيين لزيارة البابا يوحنا بولس الثاني عام 1997 وهتاف المؤمنين "جان بول 2 وي لوف يو" (Jean-Paul II, we love you)، في حين لم يمتثل أي منهم، وحتى في أوساط الإكليروس، إلى مضمون السينودس الذي كان أعدّه الفاتيكان لأجل لبنان، لجهة الحوار المسيحي الإسلامي ببعده الروحي والسياسي الذي حمله إليهم بابا روما، ولجهة تشديده، في فصله الرابع، على أهمية حضارة الشرق العربي والأرض اللبنانية والعيش المشترك؟
فالسينودس وُضع لأجل "لبنان الرسالة في محيطه العربي الشرقي" ولكن بعض المسيحيين فضّل التعاطي معه وكأنه دعامة لـ"لبنان إمبراطورية الوهم المشرقي".
الدير القريب لا يشفي... قديسو الشرق وشياطينه؟
عرف لبنان زعماء كثر أرادوا التوسع في بقاع العالم العربي من خلال تركيب هويات مختلفة أو الالتحاق بتيارات وهويات من خارج حدود لبنان الجغرافية. فانبلجت القومية العربية واشتد ساعد مناصريها في لبنان، كما نشأت القومية السورية الاجتماعية في جبل لبنان مع أنطون سعادة، وشهدنا على نصرة شديدة للناصرية... ومقابل ذلك، عرف لبنان منظّرين لهويات أكثر تطرفاً وغرابة حين رفض سعيد عقل أي هوية للبنان غير الهوية اللبنانية ليعممها على كل اللبنانيين مسلمين كانوا أم مسيحيين.
في غالب الأحيان، انحاز مؤيدو هذه الحركات والهويات، من زعماء ومناصرين، إلى المصالح الخارجية أكثر من انحيازهم إلى المصلحة الوطنية. كيف لنا أن ننسى كل تلك التشكيلات اللبنانية التي التصقت أيديولوجياً وعسكرياً بالمقاومة الفلسطينية أو تعاملت مع إسرائيل، في حروبها ضد الآخر اللبناني؟ وكيف ننسى تلك القداديس الإلهية التي أقامتها الطائفة الأرثودوكسية في لبنان، إبان حرب البوسنة-والهرسك نصرةً لأرثودوكس أقاليم البلقان، أو المجموعات السنّية اللبنانية التي التحقت بحرب الشيشان أو حتى الشباب الأرمن الذين تطوعوا وذهبوا للمشاركة في الحرب الأخيرة في إقليم ناغورنو كاراباخ بما أملَت عليهم هويتهم العرقية؟ وكم فاخر حزب الله بإرسال مسلحيه الشيعة للدفاع عن مقام السيدة زينب في سوريا؟
"هل تسعى الحركة العونية، متمثلة بمؤسسها ميشال عون ورئيس تيارها جبران باسيل، إلى تضخيم حجمها السياسي الإقليمي عبر تطويع هوية إقليمية استعاروا لها ‘المشرقية’ كتسمية؟"
أضف إلى ذلك حديث الزعيم الدرزي وليد جنبلاط المتكرر عن ضرورة حماية الدروز في العالم العربي من جبل الكرمل والأزرق إلى جبل الدروز وصولاً إلى جبل لبنان. وكأنه بذلك يعلن نفسه زعيماً، ليس على أقلية درزية في جبل لبنان، إنما على مجموعات درزية من فلسطين وسوريا والأردن إلى غيرها من البلدان حيث يتواجدون.
ماذا يريد رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل؟ هل يحاول الإعلاء من شأنه، أو التظاهر بتضخيم حجم زعامته المشرقية الإقليمية، كي يوحي إلى حليفه أمين عام حزب الله حسن نصر الله بوجوب الندية في العلاقة بينهما، في وقت يقبع الأخير على رأس أقوى تنظيم مسلح غير حكومي إقليمي؟ فبمَن يتشبه باسيل أو مع مَن يتسابق؟
من الممكن أن يكون مؤسس التيار ميشال عون ورئيسه الحالي جبران باسيل قد راودهما حلم الحلول مكان زعيم القوات اللبنانية الراحل، والأسطوري بالنسبة إلى كثير من الموارنة، بشير الجميل. فالزعماء المسيحيون، وبعكس غيرهم من الطوائف اللبنانية، هم دوماً في صراع من أجل السلطة. فهل طرح التيار الهوية المشرقية كتحدٍ لما قاله بشير الجميل عن الشرق، في ما عُرف بيوم الوعد سنة 1980: "نحن الثابتون في لبنان والشرق، غيرنا يأتي حيناً ويذهب حيناً آخر. صحيح أن امتداد وجودنا ليس مستقراً جغرافياً، لكن وجودنا في حد ذاته دائم الاستقرار. نحن قديسو هذا الشرق وشياطينه، نحن صليبه وحربته، نحن نوره وناره، قادرون على إحراقه إنْ أحرقوا أصابعنا، وقادرون على إنارته إنْ تركونا على حريتنا. فحذار من أي حل لقضية لبنان وأزمة المنطقة لا يأخذ بعين الاعتبار ثوابت تاريخ المنطقة وإفرازات حرب لبنان"؟
وهل من الممكن أن حلم ارتداء البزة المرقطة أو ذات اللون الكاكي، باسم المسيحيين، بدأ يدغدغ أحلام باسيل؟
هوية أم أهواء سلطوية توسعية؟
كيف لنا أن نبرئ تلك الزعامات من تسخير الله وعبيده المحليين أو المشرقيين واستغلال هوياتهم الدينية، لمصالحهم الشخصية السياسية ومن كيفية تقديم أنفسهم كحماة طوائفهم في لبنان وفي المنطقة أو المشرق؟
وعن كيفية استغلال الهوية المشرقية لاستبدال واحدة بأخرى، كتب مدير مؤسسة بدائل الشرق الأوسط حسن منيمنة: "الإشكالية في الواقع ليست في مضمون الهوية، بل في استعمالاتها السجالية، والسعي إلى تقديمها كبديل لفظي لهوية ‘مسيحية’ متشكّلة، على تضاد مع الهوية ‘العربية’، بما يشبه الاستعمالات السابقة، للهوية ‘القومية العربية’ كغطاء للانتماء الإسلامي، الفئوي الطائفي الجماعاتي قبل الديني، واللجوء المقابل إلى اعتناق ‘القومية اللبنانية’ للتورية عن هوية ‘مسيحية’ في لبنان، مجدداً بالمعنى الطائفي قبل الديني".
"يكثر كلام قياديي التيار الوطني الحر عن دورهم في حماية مسيحيي الشرق... على طارح هذه الهوية والحماية العودة إلى مَن يهمه الأمر في المشرق وطرح سؤال بسيط: هل يحلو لكم العيش في هذا الـ ‘لبنان’؟"
من الظاهر أن "المشرق" أو "الشرق" استحوذا على الاهتمام السياسي والعسكري أيضاً، لمؤسس التيار الوطني الحر، باكراً. فحين وجد نفسه محاصراً في قصر بعبدا عام 1989، وأعلنت القوى المعارضة له، من المنطقة الغربية للعاصمة بيروت، الحصار العسكري والتمويني ضد المنطقة الشرقية، صرّح العماد الذي كان يرأس حكومة عسكرية انتقالية: "إنتو أكبر بكتير من الرقعة اللي عايشين فيها، فَكّ الحصار عن هذه المنطقة هو بدو يكون كسر الطوق والظلم عن الشرق وفتح باب الحرية". فهل خانه لسانه، وهو الذي عُرف حينذاك بالخطابات النارية الحماسية، فتوسع نحو الشرق بدل أن يبقى في بقعته الجغرافية، والتي كانت تُعرف بـ"المناطق الحرة"، أي ببيروت "الشرقية"؟
إذا ما غصنا في نزعة قياديي التيار الوطني الحر وما فيها من استكبار واستعظام، يمكن أن نفترض أن قوله كلمة "الشرق" بدل منطقة "الشرقية" لم يكن زلة لسان في لحظة حماسة. وإذا عرف السبب بطل العجب. برهن الجنرال أنه ليس من حدود لتقديره المفارق للواقع لقدراته العسكرية ولطموحاته السياسية آنذاك، والتي أوصلته إلى إعلان "حرب إلغاء" تلتها "حرب تحرير" عبثيتيْن في مدة لا تتخطى الأشهر بين عامي 1989 و1990. كما من المعروف تعطيله عمل مؤسسات الدولة لسنين، بعد خلعه البزة العسكرية وعودته من المنفى، عام 2005، وذلك لغاية في نفس يعقوب باتت معروفة للقاصي وللداني ألا وهي مصلحة "الصهر المستعلي المتكبر". وكيف لا، وقد دشن ميشال عون، حين كان في سدة الرئاسة، طريق القديسين في منطقة البترون، وهي بلدة جبران باسيل. فهل هذه حدود المشرقية العونية؟
مَن يحمي مَن؟
يكثر كلام قياديي التيار الوطني الحر عن دورهم في حماية مسيحيي الشرق. ولكن كيف للتيار الوطني الحر أن يحمي هذه الأقليات المتواجدة في بلاد تعيش نزاعات حربية دامية مثل العراق وسوريا وبلدان أخرى تضّيق على حركتهم الإيمانية والمجتمعية كما الحال في مصر وغيرها من بلدان عربية؟
لنفترض أن هؤلاء المسيحيين قرروا اللجوء إلى لبنان إيماناً منهم بخطاب التيار وسعياً إلى الحماية التي تكلم عنها من خلال "المشرقية". عندها، يجد العاقل نفسه أمام معضلة لن يتمكن رئيس التيار ومعه فريق مستشاريه من إيجاد حل لها. فمعروف عن الأخير رفضه لوجود اللاجئين على الأراضي اللبنانية، أكانوا من الجنسية السورية أو غيرها، وهو الذي يزايد على كل القوى السياسية بضرورة عودة السوريين إلى بلادهم. فهل يتعامل مع المسيحيين المشرقيين الوافدين على أساس التمييز بين مسلم ومسيحي؟ هل يضمهم إلى لائحة تجنيس خاصة به وبذلك يخلق أزمة سياسية مبنية على حجة الديموغرافيا والخوف من التوطين؟ وعليه، على طارح هذه الهوية والحماية العودة إلى مَن يهمه الأمر في المشرق وطرح سؤال بسيط: هل يحلو لكم العيش في هذا الـ"لبنان"؟
هويات قاتلة ضيقة
فاخر الكاتب أمين معلوف في كتابه "الهويات القاتلة" بضرورة التمسك بالهويات الحديثة والمتشكلة من مجموعة هويات تبني الإنسان وقيمه. يمكن لهذه النظرية أن تنجح في الغرب حيث يعيش الكاتب ويكتب بلغة أجنبية ويحصد أرباحاً وشهادات تقدير غربية. لكن الكاتب نفسه، وبعد 20 عاماً عاد ليصدر كتاباً آخر بعنوان ‘غرق الحضارات’ يقول فيه إن "الظلمات بدأت تنتشر انطلاقاً من أرضي الأم"، ويكمل سرديته ليخبرنا أن غرق الحضارات العالمية سببه اندثار المشرق العربي التعددي، خالصاً إلى تحذير من أن "سفينة العالم لا يمكنها الاستمرار في إبحارها نحو هلاكها".
الهوية في العالم العربي ليست من خيارات الشعوب. هي هوية من صنع الدين والحكام لتصبح واحدة وشبه منزَلة. وكم من دماء تسفك في عالمنا العربي، من المحيط إلى الخليج، باسم صون العروبة والإسلام والهوية؟ إن التلاعب بالهويات يؤدي إلى حروب هويات ضيقة، أي مذهبية. ونستعير من محمود درويش قوله: "سجّل! أنا عربي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...