على بعد أمتار، ينتصب حاجز. تمهّل. قف.
ذات يوم من عام 2020، وصل مواطن بسيارته إلى مدخل بلدة لبنانية، فتفاجأ بحاجز يقطع طريقه وبشاب يطلب منه: "فتاح الشباك وهويتك".
تجري أحداث هذه المسرحية (حسبما قال زياد الرحباني في مقدمة مسرحيته "فيلم أميركي طويل") على "نقطة تفتيش تشارلي" (Checkpoint Charlie) ولكن ليس ذلك المعبر الذي كان يصل بين شطري برلين الشرقي والغربي، خلال الحرب الباردة، إنما على نسخة كاريكاتورية عنه تقع على مفترق زواريب بلدة لبنانية.
لنعد إلى ما قبل هذا المشهد. ضربت جائحة كورونا لبنان فأعادت بعض الأحزاب اللبنانية نصب حواجز للتحقق من هوية العابرين إلى بعض المناطق الواقعة تحت سيطرتها. كل ذلك جرى تحت عنوان حماية المجتمع من الفيروس القاتل، ولكنّه يشكل عنفاً ذا طابع خاص وعميق.
فيلم كوروني قصير
مسرحية زياد الرحباني دارت في "عصفورية" (مستشفى للمرضى العقليين) في زمن الحرب الأهلية. أما أحداث مسرحية الأمن الذاتي فدارت على مداخل الكثير من بلدات لبنان في زمن الحرب على كوفيد-19.
أولاً في اللباس: بزّة بيضاء من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين مع غطاء كامل للوجه يحجب هوية المفتش. نربيش رشاش في اليد، بغرض إطلاق رذاذ لتعقيم المارين بسياراتهم. تحية. ثم طلب إنزال زجاج السيارة.
المشهد الأول: يبادر السائق بـ: "العوافي، كيفك؟". يتعرف المفتّش المعقِّم على ابن بلدته، فيطلق على السيارة رشقاً من مادة التعقيم، ويومي إليه بإشارة من اليد والرأس في نفس الوقت لمتابعة طريقه نحو الداخل. "الله يقوّيكم"، يشكر ابن البلدة الشاب الساهر على أمنه الصحي.
المشهد الثاني: سيارة غريبة تصل إلى نقطة التفتيش. يطلب المفتش المعقم من سائقها إبراز هويته الشخصية مع جملة من الأسئلة: "من وين جايي؟"، "وين رايح؟"، "لعند مين؟"، "شو سبب الزيارة؟". لم يقتنع المفتش بمبررات السائق للعبور، فيطلب منه العودة من حيث أتى. يستجيب السائق وتنتهي المشهدية. وينام المواطن، ابن البلدة، قرير العين.
بين الظاهر والمستتر من العنف
يميّز الفيلسوف والناقد الثقافي السلوفيني سلافوي جيجك، في كتابه "العنف - تأملات في وجوهه الستة" بين ما يسميه العنف الذاتي (Subjective Violence) والعنف الموضوعي (Objective Violence). يقول إن العنف الذاتي يشير إلى العنف الذي يمارسه مفتعل ظاهر يمكن تحديده بوضوح، كما في حالة النشاط الإجرامي أو الإرهاب. أما في حالة العنف الموضوعي، فلا يوجد فاعل ظاهر وواضح، وغالباً ما يتم تجاهل هذا النوع من العنف. فعلى سبيل المثال، لا يُلقى اللوم على العنف الموضوعي المسبب للفقر العالمي على أي جهة محدَّدة، وحتى إذا حُدّدت النخب المالية على أنها مذنبة، يبقى بالإمكان تبرئتها من خلال إلقاء اللوم مثلاً على طبيعة النظام الرأسمالي...
هكذا، يتضافر العنف الذاتي مع العنف الموضوعي ليسيطر العنف بشكليه على الوعي الجماعي العام. ويتحوّل الربط بين هذين الشكلين من العنف إلى ما يشبه حبْل سِرّي تتمكن النخب، على اختلاف أشكالها، من خلاله، من الهيمنة على الشعوب التي ترتضي العنف وتخضع له وتُطبّع معه في حياتها اليومية.
الظاهر من العنف
في الحالة اللبنانية، يسيطر العنف الذاتي/ الظاهر والعنف الموضوعي/ المستتر على المجتمع بأسره، وذلك بشكل متشابك. صحيح أن ميليشيات الحرب الأهلية سلّمت سلاحها في أوائل تسعينيات القرن الماضي، لكن ممارساتها الحربية لا تزال في ذاكرة الكثيرين، ونجحت في دفع المواطن إلى التسليم بممارساتها العنفية الظاهرة وغير الظاهرة.
"صحيح أن ميليشيات الحرب الأهلية اللبنانية سلّمت سلاحها في أوائل تسعينيات القرن الماضي، لكن ممارساتها الحربية لا تزال في ذاكرة الكثيرين، ونجحت في دفع المواطن إلى التسليم بممارساتها العنفية الظاهرة وغير الظاهرة"
وتواظب النخب السياسية ذات الماضي الميليشياوي، على حماية الحبل السري الرابط بين شكلَيْ العنف، من خلال الكر والفر بين السلاح تارة وبين الترهيب النفسي طوراً. وتجلى اللجوء إلى العنف المسلح بعد انتهاء الحرب الأهلية في مناسبات كثيرة مثل أحداث 7 أيار 2008 والاشتباكات التي تكررت أكثر من مرة في طرابلس والطيونة وغيرها من أحداث أودت بحياة كثيرين. وتضاف إليها اشتباكات مسلحة عشائرية أو عشائرية-حزبية مثلما جرى في خلدة وقبرشمون والجاهلية وفي غيرها من المناطق اللبنانية.
ومَن ينسى تحركات "شباب الأشرفية" ضد السوريين وبعض المواطنين العرب في ساحة ساسين، والتي انتهت باعتداء وحشي عليهم، و"هوشات" حركة أمل وحزب الله ضد المتظاهرين أيام انتفاضة 17 تشرين 2019، مع كل ما تضمّنته من تكسير خيم وضرب متظاهرين.... و"الحبْل على الجرار".
المستتر من العنف
العنف المستتر حاضر بأشكال كثيرة في لبنان. يأتي على شكل ترهيب وزبائنية وفساد وخرق للدستور وقمع للحريات... هذا النوع من العنف يمارَس من خلال احتكار المنظومة الحاكمة لمؤسسات الدولة على اختلافها بغية التلاعب بالخدمات التي يمكن أن تقدّمها للمواطن لتبقيه تحت السيطرة.
يتبارى سياسيو لبنان في ممارسة العنف حتى في وجه القضاء الذي من المفترض أن يحمي المجتمع من جميع أشكال العنف. منهم مَن يقول إن المثول أمام القضاء هو للضعفاء، ومنهم مَن يعلن جهاراً أنه لن يسلّم محسوبين عليه مطلوبين للعدالة، وآخر يزور قصر العدل ويهدد، إلخ. وكلما يزيد الزعيم من منسوب ممارسة العنف في وجه المؤسسات العامة، يشتد إعجاب قاعدته الشعبية بمنسوب الرجولة التي يتحلى بها.
أرجعتنا هذه النخب السياسية إلى زمن القبضايات في النصف الأول من القرن الماضي. وصار لكل تشكيل سياسي مجموعته الخاصة من "الطفار والفرارية"، أي الفارين من وجه العدالة. ولكن مع مفارقة بسيطة: فـ"الفراري" أيام زمان كان "زلمة" الزعيم البسيط وغير المتعلم، أما اليوم فأضحى عالي الشأن فقد يكون مديراً عاماً أو نائباً أو وزيراً أو حاكماً للمصرف المركزي، أو حتى رئيس حكومة أو مجلس نواب أو رئيساً للجمهورية. ألم تجتمع أغلبية هذه النخب الفاسدة لجهة عدم المثول أمام القضاء في جريمة انفجار مرفأ بيروت وغيرها من الجرائم؟
"يعيش المواطن اللبناني يومياً تحت وطأة ممارسة العنف عليه بأشكال مختلفة، والمفارقة أنه عندما يأتي زمن ‘العنف المشروع’ لتحقيق المصير، ينكفئ هذا المواطن ويطالب بثورة سلمية ضد أوحش منظومة إجرامية عرفها تاريخ لبنان القديم والحديث"
وأخطر عنف غير مسلح، ونوعاً ما غير مرئي، هو خسارة اللبنانيين مليارات الدولارات من مدخراتهم. لا تتنكر لها المصارف، فهي تظهر على شاشات كومبيوتراتها، ولكنها لا تخرج من درج المصرفيين المرابين. واللطيف أن التظاهرات الحاشدة لا تخرج للمطالبة بالأموال المنهوبة، ولكن يتجند عشرات الآلاف بسرعة عندما يجيّشهم "الزعيم" بغية التهويل على "زعيم" آخر أو لتثبيت وجوده. عندها تعلو الهتافات وتكر سبحة الشعارات الفارغة وتظهر العضلات المفتولة التي تحمل بنادق قناصة أو غيرها من الأسلحة.
ممارسات العنف بحق المواطن لا تتوقّف عند هذا الحد، إنّما تصل إلى عنف نافر من خلال تلاعب السياسيين بالخدمات الصحية والاستشفائية التي يهدد غيابها حياة الجميع. تعوّد اللبناني طلب الخدمات الصحية من "الزعيم" لأن منظومة التأمين الصحي فاشلة. بشكل ما، يرتضي المواطن العنف الممارَس بحقه وعن وعي.
ومَن من المواطنين قادر على مواجهة الفاليه باركينغ (Valet Parking) بلباسه شبه العسكري حين يتسلط على المساحات العامة ويمنع رَكن سيارة عليها قبل دفع رسم يعود معظمه إلى مشغّله المدعوم من زعيم ما؟
سلمية سلمية
يقول المتخصص في علم التحليل النفسي الأب الدكتور بول سعادة، في كتابه "الذات والعهد ولبنان" إن "على الفرد أن يرغب الحرية ويدافع ضمن إطار الدولة عن السلام والعدل ليربح الحرب القائمة على نزوة الامتلاك والتسلط. ليست القيمة في الحرب، بل في الوعي للخير العام والحرية وعدم الاستسلام للقدرية واليأس".
من الصعب الجمع بين الحرية والدولة في معادلة واحدة حين تكون العدالة مفقودة. والسلطة التي تقمع الحريات هي من نتاج المجتمع والمواطنين الذين يرتضون عقداً اجتماعياً معيّناً يشكل إطار الحكم ويرعى الخير العام.
أصاب الأب سعادة بالكلام عن الخير العام. ولكن في لبنان، الخير العام يتوقف عند حدود مصلحة القرية أو الشارع أو الزاروب الطائفي المذهبي أو حتى مصلحة الفرد.
يعيش المواطن اللبناني يومياً تحت وطأة ممارسة العنف عليه بأشكال مختلفة، والمفارقة أنه عندما يأتي زمن "العنف المشروع" لتحقيق المصير، ينكفئ هذا المواطن ويطالب بثورة سلمية ضد أوحش منظومة إجرامية عرفها تاريخ لبنان القديم والحديث.
نحن شعب، مثله مثل كافة الشعوب العربية، يرتضي العنف الممارَس عليه ويأبى ممارسته ضد مَن ينكّلون به مع كل إشراقة للشمس. وهل هناك أعنف من انتخابات لبنان التي يجدد المواطن فيها لمَن يعنّفه بدل إقصائه؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.