اضطرابات شعبية، انتفاضات، احتجاجات، "ربيع عربي" و"ثورات" تمخّضت على مدى العقد الماضي ولم تنجب سوى قلق وتساؤلات عن جدية التغيير. رأى الناس فرصة للتغيير بعد عقود من القمع والوحشية، غضبوا ونزلوا إلى الشوارع بشعارات أتت مختلفة ولكنها أجمعت على: "الشعب يريد إسقاط النظام". أسقطت أنظمة مصر وتونس وتلتها أنظمة ليبيا واليمن. لكن هل هذا التغيير السياسي جذري أم فقط عملية تجميلية؟
هل شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" نابع من يقين شعوب بمغتصبي حقوقها ومسببي صدماتها؟ أم هو مجرد شعار متنقل من تظاهرة احتجاجية إلى أخرى؟
انتهت أم لم تنتهِ هذه الاحتجاجات، هل أعادت تدوير صدمات نفسية كان قد عرفها العالم العربي على مدى عقود؟
ماذا عن البعد النفسي الاجتماعي؟
بعيداً عن التفسير الجدلي الماركسي الذي يستعين بصراع الطبقات لتفسير الأحداث التاريخية، ترتكز هذه المقالة على منهجية أخرى تركّز على البعد النفسي الاجتماعي لتفسير تحركات وسلوكيات جماعية احتجاجية، أطلِقَ عليها، وبدون وعي، تسمية "ثورة". معظم هذه الشعوب والتي عاشت زمن "الثورات" كانت قد تعرضت على مدى عقود، لصدمات نفسية اجتماعية مردها تسلط الحاكم.
هدد تسلط الحاكم حياة الشعوب بالخطر وعرّضها لنوع من القلق المعيشي المزمن طال قدرة البقاء على قيد الحياة. كما يضاف إلى هذه الصدمات حجز الحريات من خلال ممارسات بوليسية مستبدة أودت بحياة الكثير من الناشطين أو أسفرت عن قبوعهم في السجون دون أي أمل بالحرية.
تعريف الصدمة بحسب "نظام التصنيف الطبي الدولي للأمراض وطرق التشخيص المتعلقة به": "حادث مجهد أو حالة مرهقة تستمر مدة طويلة أو قصيرة من الزمن، مع قدر من تهديد ذي طابع استثنائي أو كارثي، من شأنه التسبب باليأس عند كل شخص تقريباً. على سبيل المثال كوارث طبيعية، أو كوارث كبيرة يتسبب بها أناس، أو كوارث من صنع الإنسان، مهام قتالية، حوادث كبيرة وخطيرة، مشاهد الموت العنيف لأشخاص آخرين، أو كون المرء من ضحايا التعذيب أو الإرهاب أو الاغتصاب أو جرائم أخرى".
ألا ينسحب هذا التعريف العلمي على أكثرية الشعوب التي انتفضت في العقود الأخيرة في عالمنا العربي من بعد الرضوخ المزمن للديكتاتور طيلة أكثر من ثلاثة عقود؟ فهذه مصر حسني مبارك حيث نهب الفرعون الحديث موارد البلد مع مجموعات رأسمالية وقحة من حاشيته اللصيقة. وهذه ليبيا معمر القذافي، مع المارشال المطلق الصلاحيات، الذي أجبر كل مواطن على تربية الدجاج كما أمر في كتابه الأخضر. وكيف لنا أن ننسى تونس زين العابدين بن علي الذي حُكم عليه، بعد "ثورة الياسمين"، بخمسة أحكام مؤبد و207 سنوات وستة أشهر سجن لما ارتكبه من انتهاكات لحقوق الإنسان وأعمال فساد؟
وهنالك لبنان، بلاد الأرز، مع حروبه الأهلية ونخبه السياسية الطائفية والمذهبية المتشاركة بالفساد، ويضاف عليهم شعبه الذي لازم الصمت عند سلب أمواله وودائعه.
وهنالك استفاقة مجموعات في بلدان مثل البحرين، اليمن، سوريا، وليبيا لينتهي الأمر بمسار عنفي ما زال قائماً حتى يومنا هذا في الكثير منها. وفي دول أخرى، مثل المغرب، الجزائر، الأردن وعُمان، سارع الحاكم إلى تجميل بعض ممارساته الباطشة، فإمّا أدخل تعديلات طفيفة على الدستور، أو استبدل مجموعات من الحكم غير مرضي عنها بأخرى، فرضح الشعب ولازم الصمت.
البحث هنا ليس حول موجبات الاستفاقة، أو ما أدى إليها من عوامل سياسية خارجية أو داخلية. هذه المقالة هي محاولة لإسقاط مفهوم الصدمة النفسية الاجتماعية على سلوكيات الشعوب حيال الاستفاقة من بَعد يقظتها.
حسب الطب النفسي، وبعد الخضوع لصدمة، يدخل الشخص في "عجلة حياة" هدفها تطوير السلوك والمشاعر للتغلب على الصدمة وتتضمن مراحل مختلفة. ومراحل عجلة الحياة هذه هي التالية:
ـ "إنكار" الصدمة،
ـ "الاحتجاج" على الصدمة باعتماد اللوم والمساومة،
ـ "الانتقام" من خلال الغضب،
ـ "فقدان الأمل/ الثقة/ الاكتراث" المؤدي إلى اليأس،
ـ "الأمل والرضى" لإنتاج إعادة التنظيم،
ـ والهدف من كل تلك المراحل هو خلق "مسار حياة جديد" يساعد الشخص على الخروج من صدمته.
لكن التغلب على الصدمة وإيجاد مسار حياة جديد يختلف بين شخص وآخر وبالتالي فهو يختلف بين شعب وآخر.
"إنكار" الصدمة
يساعدنا التاريخ الحديث في تحديد مدة إنكار الصدمات التي دخلت بها الشعوب العربية وتراوحت بين عقدين وأكثر من الزمن. رضخت الشعوب للحاكم قبل الحركات الاحتجاجية إنْ لم تكن ما زالت راضخة حتى يومنا هذا بعد تغيير بعض الأنظمة الحاكمة نتيجة "الربيع العربي" و"الثورات". إذا ما رصدنا أحاديث تلك الشعوب الاحتجاجية اليومية، نستخلص أن إنكارها لصدماتها هو شبه متعمّد، ومردّ ذلك إلى عوامل مختلفة مثل الخوف من السلطة، الجوع، أو عدم الاكتراث لانتظام المجتمع على حساب الفردية.
"الاحتجاج" على الصدمة باعتماد اللوم والمساومة
إذا ما عدنا إلى أحاديث امتعاض الشعوب اليومية، يتبين لنا طول مدى تململها ورفضها للأنظمة المستبدة. لكن هذا الرفض أتى مستتراً، وبقي على نطاق حديث حميمي منزلي، أو في أقصى الحالات داخل حلقات ضيقة محلياً أو أوسع في بلاد الانتشار.
أمام خوفها وعجزها، وَجَدت هذه الشعوب نفسها في ديناميكيات من اللوم للآخر بعيداً عن مسؤوليتها وأبعد من الحدود الجغرافية لتنتهي بعملية مساومة مع الحاكم الباطش. منذ ولادة القضية الفلسطينية، ومع نشوء دولة إسرائيل، قبلت الشعوب العربية سردية الحاكم الذي ألقى باللوم على العدو الصهيوني وهو عدو دون أدنى شك. لاطَفَت الشعوب الحاكم وقبلت بممارسة نظامه القمعي. وأتى كل ذلك تحت شعار مقاومة تغلغل العدو الهادف إلى تدمير النسيج المجتمعي العربي. وامتد اللوم أيضاً إلى مَن سمي بـ"الشيطان الأكبر"، أمريكا وأخواتها من دول الغرب والخليج العربي.
"يتماهى الشخص مع الصدمة بتحميل نفسه مسؤولية ما ألمّ به من أحداث صادمة. وبالعودة إلى الحديث الحميمي للمواطن العربي، فكم من مرة سمعنا همساً أو علانية تلك العبارة التي ينسبها البعض إلى حديث نبوي أو من العهد الأموي: ‘كما تكونوا يولّى عليكم’؟"
كما شهدنا، واليوم أكثر مما مضى، على مجتمعات أخرى ألقت باللوم على التوسع الفارسي أو نفوذ الإخوان المسلمين أو تنظيم القاعدة وغيرهم من الإرهابيين. إنما من المتعارف عليه، في حالة الصدمة النفسية عند الفرد، أن تنسحب ديناميكية اللوم على الشخص نفسه. يتماهى الشخص بتحميل نفسه مسؤولية ما ألمّ به من أحداث صادمة. وبالعودة إلى الحديث الحميمي للمواطن العربي، فكم من مرة سمعنا همساً أو علانية تلك العبارة التي ينسبها البعض إلى حديث نبوي أو من العهد الأموي: "كما تكونوا يولّى عليكم"؟
هل أصاب القديس أوغسطين (354- 440 ق.م) بقوله "إن إثم الإنسان هو الذي يدفع السلطة الدنيوية إلى استخدام العنف، فعنف السلطة يُعَد بمثابة دواء سماوي لعلاج الخطيئة الإنسانية"؟ كما اعتبر الإصلاحي الديني المسيحي الكاهن الألماني مارتن لوثر (ت. 1546م) أن ترسيخ فكرة وجود السلطة هو عقاب على الخطايا الإنسانية من خلال تعريفه للدولة (باعتبارها وسيلة لردع الوقاحة الإنسانية)، ويعتقد لوثر إذا ما بدا الأمير طاغياً أو قاسياً أو دموياً، أن الخطأ في ذلك يعود إلى الشَّعب الذي هو دائماً مذنب. فالنّاس لهم أمراؤهم الذين يستحقونهم. وللعرب أولياء أمرهم.
تقول عالمة النفس شارون لامب، في محاضرة ألقتها في جامعة ماساتشوستس في مدينة بوسطن الأمريكية، ومنشورة في كتابها "مشكلة اللوم: الضحايا والجناة والمسؤولية" إن "المجتمع الحديث يحاول تنمية الاعتقاد بأن المرء مسؤول عن حياته". وإذا صح ذلك فهل الشعوب إذاً مسؤولة عمّا يلمّ بها من مصائب وبطش أم هي شعوب مصدومة؟
"فقدان الأمل/ الثقة/ الاكتراث" المؤدي إلى اليأس
تعيش البلدان المذكورة أعلاه حالة من الانكسار، ومن البديهي أن تؤدي ممارسات الحاكم إلى فقدان الأمل، عدم الثقة بالذات وبالتالي عدم الاكتراث. ومن الممكن أن يكون مردّ تأخر "الثورات" كل من هذه العوامل مجتمعتةً والناجمة عن صدمات نفسية جعلت من هذه الشعوب في حالة من النكران والخدار المزمن.
لكن الأخطر من كل ذلك، في زمن ما بعد الاحتجاجات، هو الشعور بخيبة الأمل من أي احتمال مستقبلي للتغيير أو نجاح أي ثورة بعد تلك التجارب المبتورة. يبيّن تقرير مؤشر السعادة العالمي لعام 2022، وهو مؤشر صادر عن شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة، كيف أتت كل تلك الدول في أدنى مراتب السعادة، باستثناء البحرين التي احتلت المركز الأول عربياً والمركز الـ21 عالمياً.
ومن الملفت أن لبنان، حيث ما زال البعض يتبجحون بنجاح ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، أتى في أدنى المراتب عالمياً ليحتل المرتبة 145 من أصل146 دولة. فهل أسهمت الانتفاضات في تجديد وإعادة تدوير الصدمة النفسية المجتمعية لتلك الشعوب، والتي لم تتمكن من إيصال مطالبها الرامية إلى الحرية؟
"الأمل والرضى" لإنتاج إعادة التنظيم نحو "مسار حياة جديد"
من الواضح انعدام الأمل والرضى عمّا آلت إليه الاحتجاجات لإنتاج إعادة التنظيم من خلال الانتفاضات الفوضوية السابقة. إن خلق "مسار حياة جديد" بحاجة إلى شعوب "مرنة" وليس "مقاومة". فأين الشعوب العربية من هذين المفهومين؟
"قاوم اللبناني كل الأزمات والحروب، كما قاوم ثورته، ولم يغيّر أي من نخبه السياسية المجرمة والسالبة لجنى عمره. فهل اعتاد اللبناني على ‘المقاومة’ ورفض ‘المرونة’ وما زال غير آبه لإيجاد مسار جديد يبني من خلاله مجتمعاً مرناً؟"
يعرّف علماء الاجتماع والنفس "المرونة" على أنها "قدرة الفرد أو المجتمع على التعامل مع المواقف المعاكسة وتغيير مسار الحياة من خلال اكتشاف احتمالات جديدة". أما تعريف المقاومة فينطوي على "القدرة على التحمل والمواجهة حتى الانكسار". لتسهيل التعريفين ومن خلال علم الفيزياء، المرونة شبيهة بطابة المضرب، المصنوعة من مادة الكاوتشوك، يتغيّر شكلها تحت الضغط لتعود وتأخذ شكلها الأساسي عند توقف الضغط. أما طابة كرة الطاولة، المصنوعة من مادة البلاستيك، فيتغير شكلها تحت الضغط فقط لتنكسر وتخسر شكلها الأساسي. يصير من الواضح السؤال: "هل تمكنّا من تطوير ‘مقاومة’ مزمنة ضد ‘المرونة’ في زمن ‘الربيع العربي’ و‘الثورات’ وما بعدهما؟".
"فالج لا تعالج"
تأخر ركب لبنان حتى 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 لإطلاق "ثورته" الخاصة والتي انتهت حسب الشعار المسموم: "لا غالب ولا مغلوب". لم ينبعث "شعب الفينيق" من رماده ليستعيد أمواله المنهوبة بل لازم الصمت. أتى من بعدها انفجار مرفأ بيروت الكارثي والمعروف للعالم بـ"بيروت-شيما" وأحداث أخرى في العالم العربي، وهي خير دليل على "مقاومة المرونة".
قاوم اللبناني كل الأزمات والحروب، كما قاوم ثورته، ولم يغيّر أي من نخبه السياسية المجرمة والسالبة لجنى عمره. فهل اعتاد اللبناني على "المقاومة" ورفض "المرونة" وما زال غير آبه لإيجاد مسار جديد يبني من خلاله مجتمعاً مرناً؟ يأبى اللبناني والعربي الاعتراف بالصدمة إنما يجاهر بالصمود. وأي صمود هذا والبؤس في كل مكان؟ عالمنا العربي مشكل من مجتمعات ما زالت في حالة "النكران" لصدماتها. وحتى لو توصلت إلى حالة ظرفية مؤقتة من "الغضب" من خلال الاحتجاجات، لكنها سرعان ما عادت أدراجها إلى "النكران" ومعه الحاكم الباطش. فالج ما تعالج حتى إشعار آخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.