"سيدة الأشرفية" ارتفع نصبها في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر على هضبة الأشرفية في بيروت، في ساحة ساسين بالتحديد. أقدم على المبادرة منسق القوات اللبنانية سعيد حديفة، ويبدو أن هذه المبادرة أثارت امتعاض الرئيس التنفيذي للقوات اللبنانية، سمير جعجع، ورجال دين موارنة وأرثودوكس وغيرهم من "الدهريين" القلائل في لبنان.
وبعض الامتعاض اعتراضات، ومن جملتها موقف القاضي مروان عبود كما عرضته مدونة "الكلمة أونلاين": "أصدر محافظ بيروت القاضي مروان عبود قراراً بمنع وضع التمثال لعدم تكرار هذه الظاهرة في مناطق أخرى، خاصة أنه تمثال ديني وُضع من قبل منسق القوات في المنطقة، (وذلك) منعاً لأي توترات قد تنتج عنه"، إلا أن هذا القرار وُلد مع وقف التنفيذ حتى يتسع الوقت للتسوية مع المرجعية السياسية المعنية.
مبادرة نصب التمثال تثير تساؤلات كثيرة، فتجارب التلاعب بالدين والمشاعر المذهبية كثيرة في منطقنا وقد أدت إلى عنف طويل الأمد فتك بالنسيج المجتمعي الهش.
السيدة مريم... من هيكل الرب إلى الحيّز العام
في سياق الكلام عن السيدة العذراء في الحيّز العام اللبناني، ينبغي التذكير بروايات ظهورها في ظروف سياسية معقدة ذات صلة بالحروب بين المسيحيين والمسلمين اللبنانيين وحتى بين المسيحيين أنفسهم.
ففي السياسة، يعتقد الكثير من المسيحيين أن تمثال السيدة العذراء في حريصا استدار في انتخابات عام 1968 استنكاراً للشهابية المتهمة بالناصرية ونصرة للحلف الثلاثي.
أما في العنف والحروب، فيُروى أن معجزات تتالت من خلال ظهورات السيدة العذراء، وجاءت مؤيدةً لخيارات سياسية، دعماً للميليشيات المارونية، وتضامناً معها. كما يكثر الكلام عن دموع سيدة زغرتا الممزوجة بزيت الزيتون أثناء حرب السنتين حين قيل إن النساء "الزغرتاويات" دخلنَ الكنيسة وأفرجنَ عن صدورهن متضرعات لـ"سيدة زغرتا" كي تنصر الرجال المسيحيين على الفلسطينيين ومَن تحالف معهم من لبنانيين ضد مسيحيي لبنان. كما أن هنالك توثيقاً لصورة السيدة العذراء على قبضة بندقية "الكلش" (كلاشنكوف)، حيث تربعت الصورة على قطعة الخشب، كي تقوّي زند المقاتل وتحميه.
فهل هذه هي وظيفة السيدة العذراء؟ وما المرجو من "سيدة الأشرفية"؟
وظيفة النصب الديني... "إيمانية" أم "تمريك سياسي طائفي ومذهبي"؟
تتعدد أسباب رفع النصب الدينية أو اللجوء إلى استخدامها ونسج التخيلات من حولها. يقال إن أولى هذه الأسباب مرده الإيمان وممارسة حق العبادة مع المجموعة وبطريقة علنية. فهذا حق تضمنه معظم إعلانات حقوق الإنسان ويضمنه الدستور اللبناني في مادته التاسعة التي "تكفل حرية إقامة الشعائر الدينية".
في معظم الدول، هنالك ضوابط من شأنها تنظيم رفع النصب الدينية وغير الدينية في المساحات العامة المملوكة من قبل الدولة المركزية والإدارات اللامركزية. فهل من حق أي كان رفع نصب ديني ثابت في أي مساحة عامة؟ يبدو أن هذا الأمر مقبول في لبنان، ولذلك لم يُنفَّذ قرار محافظ بيروت، والتمثال ما زال موجوداً. فهل مَن يجرؤ على إزالته من دون قرار سياسي أم أن لصاحب القرار السياسي، الرئيس التنفيذي للقوات اللبنانية، استراتيجية محددة من خلال غض النظر عن هذه المخالفة والعصيان على قرار المحافظ، لم يقطف ثمارها بعد؟
"في السياسة، يعتقد الكثير من المسيحيين أن تمثال السيدة العذراء في حريصا استدار في انتخابات عام 1968 استنكاراً للشهابية المتهمة بالناصرية ونصرة للحلف الثلاثي"
من الممكن لرفع النصب الدينية أن يؤدي وظيفة طوبوغرافية طائفية/مذهبية-سياسية لـ"تمريك" (تحديد/ تعليم) البقعة الجغرافية والمزايدة على الآخر من خلال إشهار العقيدة الدينية علناً. فهل من المستغرب في بلد مثل لبنان أن تتعالى الشعائر والنصب الدينية خدمة للسياسة؟ الجواب حتماً لا. ليس مستغرباً. فكل صليب يُرفع على قمة جبل وكل حجاب ترتديه سيدة هو بمثابة إعلان ولاء لهوية و"تمريك" مذهبي متنقل أو ثابت.
ولكن هل هناك تفسير آخر يذهب أبعد من الآراء السائدة بأن رفع تمثال مريم العذراء في الأشرفية وساحة ساسين ("ساحة البشير"، على اسم قائد القوات اللبنانية خلال الحرب الأهلية والرئيس المنتخب المُغتال قبل تولي سدّة الرئاسة بشير الجميّل) هو رسالة مباشرة للمسلمين بحتمية وجود المسيحيين في لبنان وبتأصلهم في تراب لبنان؟ الجواب: نعم. فمن الممكن أن يكون لهذه المبادرة بعدين: الأول تحدي "دولة حزب الله وحلفائه" من قبل القوات اللبنانية والثاني مبارزة سياسية على الزعامة المسيحية بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية.
نصب مسيحي في وجه المسلم أم في وجه المسيحي؟
بالعودة إلى "سيدة الأشرفية"، ورد خبر في المدونة "الكلمة أونلاين" منسوب إلى مصادر من أوساط النائب غسان حاصباني، وهو نائب في كتلة الجمهورية القوية عن دائرة بيروت الأولى، يقرّ بامتعاض سمير جعجع من رفع تمثال السيدة العذراء في الأشرفية، وهي منطقة تجمع مذاهب عدة. ويمكن أن يعود هذا الامتعاض إلى كونه لم يُستشَر في الأمر. فهل نُصِبَ الشرك داخل القوات لرئيسها التنفيذي، أم أصبح جعجع بين ليلة وضحاها ضد ظهور الشعائر الدينية في المساحات العامة؟ ولماذا بقي التمثال؟
من الواضح أن قائد القوات اللبنانية ما زال يؤمن بنظرية الطوبوغرافيا المذهبية السياسية، وكيف لا في حين أن الاعتقاد الراسخ لدى أنصاره هو أن ساحة ساسين هي "ساحة البشير" و"الأشرفية هي البداية"؟ هذا الكلام منسوب للأغنية السياسية الخاصة بقوات بشير الجميل: "ومن الأشرفية البداية/ أشرفية البداية/ بداية البشير". وفي هذه الحالة ليس من الغريب أن تبقى هذه الأغنية متصدرة الموضة الموسيقية الموسمية كي تُنشَد كل ما اضطر "القواتيون" إلى إشهار مقاومتهم في وجه الآخر لتثبيت الوجود. أولَم ينتفض "القواتيون" في ساحة ساسين عندما مرّ موكب دراجات نارية يحمل سائقوها "أعلاماً سورية وفلسطينية احتفالاً بفوز المنتخب المغربي وعند وصول الشباب إلى الساحة حيث كانت تعج بأجواء الميلاد بدأوا بالتكبير مما استفز شباب المنطقة، وأدى إلى وقوع إشكال"؟
سيناريو معركة الأشرفية المذهبية
بات من الصعب على سمير جعجع إزالة التمثال طوعاً. فقد أصبح هذا النصب ملك مناصري القوات اللبنانية المسيحيين والذين يرون في قائدها حاميهم الوحيد سياسياً وعسكرياً في وجه "دويلة حزب الله وحلفائه"، وأحداث الطيونة-عين الرمانة خير شاهد على هذا التوصيف. من المحتمل، وإن لم يُصَر إلى إزالة التمثال طوعاً، أن يكون قائد القوات متربصاً لوقوع المحظور في حال تحركت الجهات المختصة لتنفيذ قرار المحافظ. حينها، تنبري القوات لحماية السيدة العذراء ويصير الاشتباك عنفياً وأمراً لا مفر منه، خصوصاً مع تصاعد الأمن الذاتي مثل مبادرة نديم الجميل "عيون الأشرفية" لحراسة المنطقة وغيرها من شركات الحماية الخاصة والتابعة لأنطون الصحناوي والمنتشرة أبعد من منطقة الأشرفية.
"يكثر الكلام عن دموع سيدة زغرتا الممزوجة بزيت الزيتون أثناء حرب السنتين حين قيل إن النساء ‘الزغرتاويات’ دخلنَ الكنيسة وأفرجنَ عن صدورهن متضرعات لـ‘سيدة زغرتا’ كي تنصر الرجال المسيحيين على الفلسطينيين ومَن تحالف معهم من لبنانيين"
سيناريو هكذا اشتباك واضح المعالم وسينسحب على المسيحي ضد المسيحي، الماروني المناصر للقوات ضد غيره من الأحزاب المسيحية مع أنصارهم غير الموارنة. فهل يتدخل التيار الوطني الحر لحماية مناصريه في الأشرفية، من الرافضين سواء للتمثال أو للقوات اللبنانية، في حال وقوع الاشتباك؟
إن استغراب رئيس المجلس الأرثوذكسي روبير الأبيض هو بمثابة تحذير من وقوع اشتباك عنفي حين تكلم عن "المزايدات المسيحية على بعضهم البعض ومَن الجهة التي وضعت تمثالاً للسيدة العذراء في ساحة ساسين في الأشرفية؟ هل هم من الأحزاب أو العائلات التي تقطن هذه المنطقة، فنحن أبناء هذه المنطقة أباً عن جد، وُلدنا وعشنا فيها ودافعنا عنها ولم نشهد هذه المظاهر من قبل".
علاوة على ذلك، لم يكن امتعاض متروبوليت بيروت مطران الروم الأرثوذكس إلياس عودة ورئيس أبرشيّة بيروت المارونيّة المطران بولس عبد الساتر، كافياً كي يزيل سمير جعجع التمثال. كأنه بذلك يتحدى ليس فقط الدولة والسلطة المدنية المتمثلة بقرار محافظ بيروت، والمشاعر الخاصة بالمذاهب الأخرى من سكان الأشرفية وغيرهم من المدنيين، إنما أيضاً الكنيستين معاً. هذا التحدي يصبّ في مصلحة قائد القوات كي يثبّت صورته كالمدافع عن المسيحيين في وجه حزب الله، وكي يتخذ من حماية التمثال سلاحاً في المبارزة مع التيار الوطني الحر الداعي إلى "المشرقية حامية مسيحيي المشرق".
أخشى أن يبقى جعجع قابعاً في منزلة بين منزلتين، ومن منطلق تسخير الدين والذاكرة لأهداف سياسية تعبوية، وهو ما لم يتخلّ عنه، فيتربص إلى حين وقوع الإشكال كي يتسنى له إتمام استراتيجية التجييش خاصته.
"كلاشنكوف" الدين
التلاعب بالمشاعر الدينية كالسلاح، إن لم يُضبَط يؤدي إلى العنف. والترخيص المدني هو ما يحمي العباد من السلاح والدين، لذلك المفروض منع عرض الشعائر الدينية في الحيّز العام إلا خلال فترة الأعياد الدينية، وبعد طلب الإذن من السلطات المدنية المختصة على أن تُزال بعد انتهاء فترة الترخيص. لكن في بلد حيث ليس للسلطة المدنية أي اعتبار، فالتمثال باقٍ ولأجل غير مسمى. وفي بلد حيث يُحمَل السلاح دون ترخيص، وحيث موكب مشجع لفريق كرة عربي يؤدي إلى مواجهة طائفية، يبقى الاشتباك وارداً ونتائجه دموية. للأسف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...