أوّل ما ينشده الزائر سائحاً أو لاجئاً أو منفياً هو الأكل: "خذني إلى مطعم نظيف وجيد"، هذا ما يقوله للسائق حيث يزور البلدة لأول مرة، أو للمرة الثانية.
ينطلقُ السائق مخترقاً الأزقة ملتوياً عن عمدٍ، من هنا إلى هناك، إذا كان نصاباً أو اضطره شظف العيش، محاولاً إقناعك أنه يقطع طريقاً طويلاً من أجل رفع الأجرة، وهو بالفعل طريق طويل، في المطعم حيث تدسّ حقيبتك تحت الطاولة، يحييك النادلُ بابتسامةٍ، ثم يضعُ على طاولتك دفتراً صغيراً من الورق المقوّى، فتواجهك قائمة طويلة من الأكلات ذات الأسماء الأجنبية، تقرأها على مهل دون جدوى، فما تريده ليس سوى طبق مدور من الرز يعتليه فخذا دجاجة لامعان، تلك الأكلة الشهية دون تعقيد، الأكلة التي لا تحتاج ملعقة أحياناً، الحبيبات اللامعة حتى في مظهرها تبدو هادئة وراكدة كذواتٍ إنسانية، لكن مَن يدري، لعل تلك الأسماء الأجنبية الرنانة تخفي وراءها الرز الذي نعرفه بلحمه وشحمه؟
فهل يخيّل لوافد عفوي من القرى أن الريزو ليست سوى قطع الدجاج مع الرز، أو أن البيتزا هي اللحم بالعجين مع إضافات جمالية تخرّب طعم الأكلة بالنسبة لي؟
الأكل ينبغي أن يكون بسيطاً مثل الثقافة والبشر والأغنيات، ينبغي أن يشبع أولاً وألا يكون مضراً ثانياً، وفيما عدا ذلك فهو تنويع بشري أرستقراطي معقّد.
عندما تجلس في الباص لا تحاول النظر إلى النساء بشبق غرائبي، عندما يدور الحديث عن سوء الأوضاع لا تنتبه كأنك قادم من كوكب ثانٍ، كن حنوناً وأنت تنظر للمدينة المخرّبة، فعمّا قليل سيتكشف لك حجم الفساد الهائل... مجاز
سمك السلمون على الطريقة الآسيوية
أعجبتني تلك الأكلة أو أعجبني اسمها، لكني قبل أن أبادر بطلبها من النادل، دخلتُ جوجل، منقذنا الصغير في الشدائد ورفيقنا الدائم في البحث عما نحتاج. سألتُ ما هي الطريقة الآسيوية في الشوي، وهل هناك أمة أكثر إبداعاً منا كعرب في الشوي والحرق والسلخ والنفخ والتقطيع؟
قال جوجل: "يُشوى السمك على المشواة قليلاً، ثُمَّ يُسخن على حرارة متوسطة إِلى عالية. يُوضع السلمون على المشواة ويُطهى لمدة 5 دقائق على كل جانب. يصبح السمك جاهزاً عند إدخال طرف السكين في منتصفه ويكون لحم السلمون الزهري غير شفاف تقريباً. يُقدم السمك دافئاً".
بصرف النظر عما قاله جوجل، فإن هناك ما لا أفهمه: كيف يقدمُ السمك المشوي دافئاً، وكيف يمكننا أن نعتبره مشوياً؟ لعلي بانتظار من تذوق الأكلة أن يدلو بدلوهِ.
تلك الجمل الطريفة التي تشرح لي الأكلة أعادتني إلى الشعر، لأعلق هامساً لنفسي: لا يكون السمك دافئاً إلا في موطنه الأصلي، أما في منفاه فهو متجمّد، وأما في مصيره فهو مشوي، ينبغي إذن أن نعدّل تعاملاتنا اللغوية أجل الأسماك.
أن يفكّرَ الزائر كمقيم
تشبهُ زيارة بلدٍ التعرف على إنسان صامت، ينبغي أن تحرص على فهم نظراته وإشاراته وملامحه، أن تتصرف كما لو أنك مقيم في ذلك البلد كما لو أنك ابنه، سلباً أو إيجاباً، عندما تجلس في الباص لا تحاول النظر إلى النساء بشبق غرائبي، عندما يدور الحديث عن سوء الأوضاع لا تنتبه كأنك قادم من كوكب ثانٍ، لا تستغرب كلياً لأن لبلدك قباحاته، كن حنوناً وأنت تنظر للمدينة المخرّبة كأنك تنظر لوجه زوجتك أو ابنتك، صبوراً وأنت تحدق بالبنايات الفاخرة، فعمّا قليل سيتكشف لك حجم الفساد الهائل.
لا تكن حجراً كريماً عندما يتم سؤالك عما تفعله أو ما عما تراه أو عن الغرض من زيارتك، ففي معايير الأحاسيس البشرية، لن يفرق الحجر الكريم عن حجارة الطريق.
لا تكن حجراً كريماً عندما يتم سؤالك عما تفعله أو ما عما تراه أو عن الغرض من زيارتك، ففي معايير الأحاسيس البشرية، لن يفرق الحجر الكريم عن حجارة الطريق... مجاز
عند العودة لا تكذب، لا تضف سمات خرافية للبلد الذي زرته، لا تخدع رفاقك. أعني إن زرت مصر فلا تخبرهم أن جميع المصريين مرحون، إن زرت سوريا فلا تقلْ إن السوريات جلهنّ يخلبن اللبَّ، إن عدت من لبنان فلا تقل إنه بلد حريات غير معهودة، إن وصلت لإيران فلا تصرّح بأنه بلد محكم بقبضة مقيتة.
كل شيء في البلاد الأجنبية لا يختلف عن كل شيء في بلدك، البلاد متشابهة إلى حد كبير، لكن الاختلافات تكمن في قصر النظر أو اختزاله، لعلك بينما تتفاجأ في الاختلاف تشبهُ أحد أعمامي حين ذهب لأداء العمرة لأول مرة. قالَ حين سُئل عن السعودية، إنها بلد منظم حد أن لا أبقار فيه، وإذ صُدم الحاضرون مما قاله أجابهم مستدلاً: "نعم لا أبقار عندهم، فقد تجولتُ في الأسواق ولم أرَ في المحلات حبّالاً".
السفر عمل شاق، سواء كان ذهاباً أو تأملاً، فهو ينطوي على صناعة صورة بلدٍ لا على اكتشافها، فقد يجد زائر في بلد ما طمأنينة فيما يرى الآخر في البلد نفسها جحيماً لا يطاق، لكن ذلك العمل الشاق يغدو أشق حين لا تتخلله نشاطات ممتعة، ساحرة وأليفة، مجنونة ومتجرّدة من أخلاق الوطن الأصلي، وتلك فسحة مسموح بها، فثمة من لا يسكر إلا خارج بلده، وثمة من لا يدخن الحشيشة إلا خارج بلده، ناهيك عمن يلبي رغباته المتوحشة دون وقار هناك، وبالرغم من أن نشاطات مثل تلك تبدو دون مغزى فإنها تشير إلى أن البلد الغريب أكثر أمانا وعتمة وستراً.
حيث لا أحد يعرفك فأنت حر، هذا ما تقول الغريزة التي تشبعُ في السفر، وحتى في إشباع تلك الرغبات كن أصيلاً وعاشقاً بقدرٍ معقول وغير مؤذٍ، فالمصريون يسمون الرجل الشهم "ابن بلد"، أي أنه يحمل أخلاقيات بلده، ولا يتصرف كما يشاء، إذ إن هناك قيماً تلازمهُ في الحل والترحال، ومن هنا فإنك مطالب بأن تكون ابن بلد في أي بلد.
أنت لا تمثل بلدك في أي مكان تزوره لكنك تمثله بجزء ضئيل، وبمعنى آخر، فإنك لا تمثله إذا كنت نذلاً، و تمثله إذا كنت طيباً، بلدك هو هو، وبلدك ليس بلدك في الآن نفسه، أو أن بلدك هو أمك حين تنال الإعجاب، وأبوك حين يُساء فهمك، فكن ابن بلدك وابن البلد الذي تزوره لأول مرة، فإنك لا تعرف حقاً في الأيام القادمة ستكون ابن مَن؟
المسافر مخبوء في حقيبته
يقول خبراء السفر، أعني المسافرين على نحو متواصلٍ، إن حياتهم داخل حقيبة وأنهم يذهبون خفافاً ويعودون خفافاً، وبذلك فإنك تعرف المسافر من حقيبته، وغالباً ما تكون حقائب النساء أثقل، فهن يذهبن بحقائب ثقيلة ويعدن بحقائب أثقل، ولعل أول ما عليك فعله هو الاعتناء بحقيبتك، لأن العالم مليء بالمسافرين.
لقد واجهتني ذات مرة حالة وجدتها غريبة، إذ جلبتْ امرأة عراقية مسنة كيساً مليئاً بالخبز، ولم تكن غايتها إلا إخبار رفيقاتها، ولعلها ستدهش كل واحدة منهن قائلةً: "انظرن هذه هي أرغفتهم".
لم تكن تلك العجوز مستكشفة إلا للفوارق الثقافية دون أن تدري أنها عقدت مقارنة بين ثقافتين لا بين رغيفين، بل هي فتحت النافذة على بلدين، فلم يكن الجوع قرين شيء كما هو قرين الثقافة في كل عصر.
وكيف ستعرفُ طاغية بلدك من طاغية البلد الآخر؟ هل بالفعل تحاول أن تفرّق بين الطاغيتين؟... مجاز
حتى الطريقة التي يقدم بها الماء تختلفُ، حتى التحية مع الفوارق الطفيفة، حتى الشمس صباحاً والنسمة الهوائية الباردة، وهذا ما يجعل المسافر يهب نفسه وبلده قيمة معيارية قائلاً: "إنهم ليسوا مثلنا. لا يتصرفون كما نتصرف، أو أنهم يسمّون الأشياء ليس كما نسميها.
سماء بلدك، طاغية بلدك
ثمة شيئان يتشابهان إلى حد عجزك عن الفصل بينهما، سماء بلدك و طاغيته بموازاة سماء البلد الآخر وطاغيته، وأنت تحلق فوق سماء بلدك كيف ستعرفها؟
لئن وجهت السؤال لمجموعة أشخاص من بلاد عديدة، فسيكون انقطاع الكهرباء والغبار والأماكن الفارغة والإحساس بالمرارة واللهفة، ستكون كل تلك عوامل مشتركة، لقد قال الشاعر أحمد الصافي النجفي حين عاد إلى بلده: يا عودة للدار ما أقساها/ أسمع بغداد ولا أراها
إذ كانت اللهجة دالة عميقة على أنه في بلده كما ستكون دالة عميقة على أنه في بلدٍ ثان، وذلك سيعني أن اللغة زوجة أب غريبة ومحبوسة ومدللة في غرفة عالية، فيما ستغدو اللهجة المحلية هي اللغة الأم.
وكيف ستعرفُ طاغية بلدك من طاغية البلد الآخر؟
لعلك ستحدّق بصورهما وقوانينهما وأعبائهما، أو لعلك ستنتبه لشكوى المارة الذين تصادفهم، للدموع وعرق الجباه، للأيدي المشققة والسباب الطازج، للنكات وقصائد الشعراء، مرموزة أو مكشوفة، للأغنيات المنافقة أو للغزل العنيف الذي يوحي لك بأنه يعبر عن ذلك الحب الذي يرغم عليه أبناء بلد تجاه طاغيتهم المدلل.
هل بالفعل تحاول أن تفرق بين الطاغيتين؟
حسناً، لا تفتشْ عن نقاط التشابه، لأنهما مختلفان أكثر مما تعتقدُ، ولا تبحث عن نقاط الاختلاف لأنهما متشابهان أكثر مما يخيّلُ لك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...