وقفت في ركن "بلكونة" عيادة دكتور الأسنان في انتظار دوري الذي يسبقني فيه ثمانية أشخاص، يتألّمون مثلي من وجع الضرس الذي لا أتمناه لألدّ أعدائي أو ربما أتمناه. كنت أدخّن سيجارة وأشرب كوكاكولا مثلّجة، في تحدٍّ واضح للضرس الموجوع، وأنا أتأمّل منظر الشمس وقت الغروب. كان المشهد عبثياً وكفيلاً بجعل الطبيب يطردني من عيادته، فور رؤيته لي، دون تأنيب ضمير.
طيلة ليلة كاملة لم أر فيها النوم بسبب آلام ذلك الضرس اللعين، بعد أن فشلت في خلعه بيدي وتمنيت أن تمرّ فوقه شاحنة، سائقها يتعاطى الحشيش ويدهسه حتى أستريح. جاء دوري واستقبلني الدكتور بابتسامته المعهودة وكلامه الذي يتفّه من آلامي وجملته التي لا يعرف غيرها: "دي حاجة بسيطة. ده حتة ضرس مسوّس وهنخلعه"، كأن الموضوع مجرّد عملية حساب بسيطة: "كان معاك تفاحتين، أخوك أكل واحدة، باقي معاك كام؟".
جهّز أدواته وخلع ضرسي غير المأسوف على تسوّساته، ثم بدأ يملي علي بعض تهديداته بأن أمتنع عن تناول المشروبات الساخنة أو المثلّجة. لم أستطيع الردّ، وحركت رأسي الأثقل من الهرم الأكبر من فرط الصداع إلى الأسفل، في إشارة مني بالموافقة على كلامه.
خرجت من العيادة أتحسّس الطريق إلى بيتنا، كنت أرى الناس مجرد عصافير بينما أمشي فوق السيارات وليس بجانبها وكأني تحولت إلى "باتمان". كانت مجرد تهيؤات بفضل بنج دكتور الأسنان، الشي الوحيد الذي رأيته بوضوح هو عصارة القصب التي يتزاحم أمامها الناس وكأنهم في بروفة ليوم الحشر.
استقبلني الدكتور بابتسامته المعهودة وكلامه الذي يتفّه من آلامي وجملته التي لا يعرف غيرها: "دي حاجة بسيطة. ده حتة ضرس مسوّس وهنخلعه"، كأن الموضوع مجرّد عملية حساب بسيطة: "كان معاك تفاحتين، أخوك أكل واحدة، باقي معاك كام؟"... مجاز
لعب الشيطان بعقلي أن أشرب عصير قصب، وهو يوسوس لي أن تهديدات دكتور الأسنان ما هي إلا مجرّد اجتهادات شخصية ليس لها علاقة بالطب: "دكتور مين اللي هيمنعك تشرب اللي نفسك فيه؟".
نجح الشيطان في إغوائي وضعفت مثلما ضعفت أمنا حواء وأبونا آدم عندما حرضهما أن يأكلا من تلك الشجرة. لم يكن حبّي لعصير القصب وليد اللحظة ولكنه عشق قديم وللناس فيما يعشقون مذاهب.
صيف 2003
كنت في طفولتي، وقبل أن أقابل صديقي يوسف، ابن صاحب أكبر محل عصير قصب في إحدى مراكز الصعيد، والذي جعلني أحب ذلك المشروب السحري، أراه مجرّد مشروب عادي لا يستحق تلك الضجة، ففي إحدى أيام صيف 2003، كانت درجة الحرارة قد بلغت ذروتها بينما عقارب الساعة تشير إلي الواحدة والنصف ظهراً، عندما قرّرت الذهاب إلى بيت يوسف، زميلي في المعهد، لأول مرة. دخلت الشارع الذي يسكن فيه، حسب وصفه، وكان مكتظاً بالمحال التجارية.
سألت أحد المارة عن عصارة والده، المعلم أبو يوسف، فقال إنها على بعد خطوات. أخرجت من جيب البنطلون الجينز منديلاً، في محاولة بائسة لتجفيف طوفان العرق بفضل سخونة الشمس التي تدنو من الرؤوس.
الشارع مزدحم للغاية ولا مكان لموضع قدم، ما إن وصلت إلى محل العصير بعد معاناة، حتى رأيت يوسف من بعيد. هو شاب لم يتجاوز الثامنة عشر من عمره، بشرته تميل ناحية السمار مثل كل "ولاد الشمس" في الصعيد. كان يقف بداخل محل العصير، يتلاعب بأكواب عصير القصب بحركات بهلوانية، وهو يتمايل برأسه يميناً ويساراً على مديح "أكاد من فرط الجمال أذوب"، بينما الزبائن المساكين يقفون أمام المحل مثل النمل الذي يلتفّ حول قطعة سكر، تكويهم حرارة الشمس، على أمل أن ينتهي ذلك المخبول من فقرته الراقصة، فهو الذي بيده كوب عصير القصب ليروي العطش، بينما يقف طفل لا يتجاوز العاشرة من عمره خارج المحل بجوار الثلاجة يبيع الكوكتيل.
وَاللَه ما طَلَعَت شَمسٌ وَلا غَرُبَت إِلّا وَحُبُّكَ مَقرونٌ بِأَنفاسيوَلا جَلستُ إِلى قَومٍ أُحَدِّثُهُم إِلّا وَأَنتَ حَديثي بَينَ جُلّاسي
اقتربت من يوسف. مد يده بترحاب شديد مبالغ فيه، وطلب مني الجلوس على كرسي خشبي بجواره. كان قد انتهى من مرحلة العصر وبدأ في مناولة زبائنه أكواب العصير، بينما صوت الشيخ عليوة ثابت، ابن قرية بني مر في أسيوط، يصدح بصوته من كاسيت قديم بقصيدة الحلاج:
وَاللَه ما طَلَعَت شَمسٌ وَلا غَرُبَت
إِلّا وَحُبُّكَ مَقرونٌ بِأَنفاسي
وَلا جَلستُ إِلى قَومٍ أُحَدِّثُهُم
إِلّا وَأَنتَ حَديثي بَينَ جُلّاسي
كان يوسف ثابتاً مكانه لا يتمايل أو يهتز جسده إلا عندما يصل الشيخ إلى "أكاد من فرط الجمال أذوبُ"، وكأنه يطير فوق بساط من النشوة. لم يفق من نشوته ودهشته سوى على صوت والده وهو يسأله عن أحوال الشغل.
كان رجلاً نحيفاً ذا بشرة سمراء، يرتدي جلباباً واسعاً، رحّب بي عندما أخبرته أني أدرس مع ابنه في معهد السياحة، بعدها جلس على مكتبه وبدأ يدخن سيجارة وينفث دخانها ليمر برداً وسلاماً على قطع التفاح التي سوف تنضم إلى مكونات الكوكتيل، بجوار قطع الموز وبعض الشربات الأحمر وعصير الجوافة.
أمسك يدها واتكأت عليه وهو يشير بيده الأخرى للسيارات بعلامة لتهدّئ من سرعتها، وأثناء عبورهما الطريق، سمعتها تقول: "الناس عكاز"، وهي تستند على كتف الرجل، بينما كنت أقول في سرّي: "المجد لعصير القصب. أكاد من فرط الجمال أذوب"... مجاز
انتظرته حتى انتهى من الوردية في الساعة الثالثة، وأخذني إلى بيته بعد إصرار أن أذهب معه لنتناول طعام الغداء. في الطريق سألته عن العلاقة بين ابتهال "أكاد من فرط الجمال أذوب" ومحلات عصير القصب. ضحك بصوت عال، وقال بلسان العالم ببواطن الأمور، إنه لا علاقة سوى أن ذائقة أهل الصعيد تميل ناحية السيرة الهلالية وفنون الإنشاد والمديح، وعندما سافر الغالبية من الصعايدة إلى القاهرة، وافتتحوا بها محلات عصير القصب، سافرت معهم شرائط الكاسيت المعبأة بالابتهالات والمديح لكبار المدّاحين، أمثال الشيخ التوني وأمين الدشناوي، وسلطان المدّاحين ياسين التهامي، ولكن "أكاد من فرط الجمال أذوب" بصوت الشيخ عليوة، كان لها النصيب الأكبر من الشهرة ضمن شريط "حُب النبي"، وأنعش بها سوق الكاسيت، وارتبط الابتهال بعصير القصب بسبب حب أصحاب تلك المحال للمديح.
كان حب يوسف لمهنة والده ومدحه الدائم لعصير القصب، جعلاني أحب ذلك المشروب وأقدره .
شتاء 2020
كنت أسير في الشارع متجهاً ناحية بيتي بعد أن انتهيت من عملي في إحدى الجرائد الأسبوعية. السيارات زاهية الألوان تسير في الاتجاهين، وصوت أم كلثوم يأتي من بعيد وهي تشدو "بيني وبينك خطوتين". وقفت أمام محل عصير قصب، فذلك المشروب لا يفرّق بين الشتاء والصيف، هو صالح لكل وقت وزمان. طلبت كوباً وناولني الشاب باقي النقود، شاهدت سيدة تخطت السبعين من عمرها، يبدو عليها الفقر وقلة الحيلة، تحاول عبور الطريق للجهة الأخرى وتفادي السيارات المسرعة. تردّدها في عبور الطريق جعل إحدى السيارات الفارهة تتوقف أمامها، وفجأة نزل سائقها. كان رجلاً يقترب من الخمسين من عمره، بشوش الوجه، يرتدي بذلة سوداء وربطة عنق، وكأنه عائدا للتو من دار الأوبرا.
حاول الرجل طمأنة السيدة العجوز، وعرض عليها توصيلها إلى المكان الذي تود الذهاب إليه، ولكنها شكرته وقالت: "عايزة أعدى الناحية التانية". نظر ناحية محل العصير، وطلب منها أن تشاركه مشروب عصير القصب ثم يصطحبها للجهة الأخرى. أجلسها على الكرسي وطلب كوبي عصير، ومنح الشاب 20 جنيهاً، وجلس بجوارها وناولها كوب العصير، وكان يحاول يخرجها من لحظات الضيق، ولم يتركها إلا عندما تفتحت تجاعيد وجهها لتعلن عن ابتسامة. أمسك يدها واتكأت عليه وهو يشير بيده الأخرى للسيارات بعلامة لتهدّئ من سرعتها، وأثناء عبورهما الطريق، سمعتها تقول: "الناس عكاز"، وهي تستند على كتف الرجل، بينما كنت أقول في سرّي: "المجد لعصير القصب. أكاد من فرط الجمال أذوب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com